المدينة الطيبة

مصطفى العلي

[email protected]

كان في زمن من الأزمان مدينة تعيش في أمان يأتيها رزقها رغدا من كل مكان حياتها طمأنينة بما هي بربها مستعينة لما كان ملكهم الجد الحكيم يسير على الصراط المستقيم يمشي بين الناس بالعدالة ويكافح الجوع والفقر والبطالة

كانت مهوى أفئدة القاصي والداني لما فيها من جميل المناظر ولطيف المعاني طبيعة خضراء ..حدائق غناء .. ماء وهواء وزرقة سماء وفي طبيعة أهلها إلفة وإخاء وصفاء.. كل شيء فيها منظم ومرتب ومخدّم كانت حياة ملكهم الجد مليئة بالجد وكان خير الملوك.. لا فرق عنده بين الأمير والصعلوك.

 مرض الحاكم العادل الجد الكبير فتعقدت المسائل, بدأت المشاكل وانتشرت القلاقل.. اختلفت القلوب فبدأت تظهر في سفينة المجتمع الثقوب... تزعزعت المحبة بين الناس فاشتغل فيهم الوسواس الخناس وغاب الصفاء ودخل الأعداء فضعف دور العلماء وساد الأغبياء..

 مات الجد الأكبر.. خيمت على المدينة غلالة حزينة .. انتشر القلق وغادرتها السكينة وفرطت المدينة كحبات السبحة وتدحرجت حباتها في كل اتجاه ولم يبق من المحبة ولا حبة.. أصبح النشاط كسلا والنجاح فشلا والعسل بصلا ولا شيء مما أفنى الجد عمره إلا واختلف أمره حتى أصبحت البلدة بلدانا فكأنها دجاجة فرخت صيصانا وأصبح أهلها من ضلال رأيهم قطعانا تسوسهم ذئاب وتتحكم في أمرهم كلاب ... انتصبت بين حاراتها الحواجز والحدود وانتشر في أزقتها الجنود وأصبح أهلها شيعا متفرقين لا يكادون يلتقون إلا علٍى عدم اللقاء مما أطمع بهم الأعداء....ثلة صغيرة كانت ضئيلة وحقيرة قد كانت أقامت بجوارهم قد طالما أسدوا إليهم المعروف رغم أنهم قلة ضعاف أصلهم غير معروف ...ما أكثر ما كان حذّرهم من شرهم المرحوم تغلغلوا في أنحاء المدينة حتى صارت بأيديهم رهينة وأصبحوا هم الأصل وقرع لهم فيها أي طبل... بل أخذوا يحرشون بين الأخوة فضاعت الشهامة وانعدمت النخوة... أما العزة والكرامة فلم يبق منها أي علامة.. والحمد لله على السلامة بدأ الأشقاء يقتل بعضهم بعضا ويوسع الأخ أخاه ضربا سخط الجميع ولم يعد أحد منهم يرضى وسقطت سمعتهم أرضا واستمرت عربتهم ترجع إلى الوراء رغم أنهم ألوف ولكنهم وللأسف كرؤوس الملفوف أو أعدادهم أصفارا على الشمال ليس لها قيمة فاقدي الهمة خائري العزيمة يسيرون من هزيمة إلى هزيمة حتى عمهم البلاء وتكالب عليهم الأعداء وسالت الدماء...

 ودار الزمان وأهل المدينة في هذا الهوان إلى أن آن الأوان... مجموعة من الشبان وضعوا النقاط على الحروف وراحوا يوحدون الناس ويرصون الصفوف.. تذكروا وصية جدهم فقرروا العودة إلى سابق عهدهم مهما كلفهم ذلك من ثمن ومهما طال بهم الزمن فقد قرروا دفع الضريبة للخلاص من هذه المصيبة والخروج بالبلاد من هذه الأحوال العصيبة..جن جنون الأعداء الذين لعب فأرهم وعظم شرّهم وراحوا يصبون عليهم أصناف البلاء ولكن أهل المدينة قطعوا على أنفسهم العهود أن أيام الغفلة لن تعود وأن المدينة الطيبة ستبعث من جديد.. وهكذا راحوا ينتقلون من نصر إلى نصر حتى صاح فيهم الديك معلنا قرب بزوغ الفجر.