ظني.. وأبو اليسر

حتى مسألة الظن لم أكن لأسمح لها أن تجد في تفكيري حيِّزًا ولو للحظة، ليس ذلك فحسب؛ بل لأنها ليس لها قاعدة على مرِّ سِنِي بناء تفكيري الحقيقي، سيَّما وأن أسس البناء - أي بناء، سواء كان تلقائيًّا أم كان على دراية - إذا اعترض أو دخل الظن جزءًا من أيٍّ منهما، وتبوَّأ له مكانًا مقدار لبنة صغيرة، فإن بعضًا من خصائصه ستتغيَّر لا محالة.

وبالتالي وأنا أتكلم الآن على ظنِّي الذي ابتُليت به مؤخرًا، ظللت طول فترة بناء تفكيري الذي استمر سنواتِ عمري الثقافية، لم أدَعْ له فرصة، ولم أسمح له حتى أن يقف على أيِّ باب مِن أبواب حياتي، وأنا الأنثى وما أدراك ما الأنثى؟!

ففي أدائي الوظيفي في الشؤون الإدارية في وزارة العدل، وفي ظلِّ هذا النهج أجد توافقًا معنويًّا وعلميًّا، فيما أقوم به من المهامِّ العمليَّة اليومية؛ كمُدققة لغوية لأغلب الخطابات الإدارية الداخلية والصادرة، وضبط صيغها الأدبية والقانونية، وهذا هو الأمر الذي وقف حائلًا دون الرضوخ أحيانًا للخوض بالظنِّ كمساعد (للتجديف) في بعض مشاكل الحياة اليومية، حياة معشر النساء عمومًا، وأعني منهنَّ حياتي أنا خاصة.

يقال: إن الظنَّ في حياة الأنثى مياه عَكِرة، ولكنها الوحيدة القادرة على الصيد فيها بمهارة، وهنا أقصد (صيد) الزوج بكل صراحة، ولا أقصد التوصيف أبدًا؛ ذلك من أجل أن أُبعد مسألةَ الظنِّ من أي تأويلٍ قد يستيقظ في ذهن مَن لا يُوافقني.

ومن أجل ذلك كنتُ - وفي كل تلك الحقبة - مُستبعدةً مسألةَ الزواج أو الزوج، لقد وصلت إلى ما أنا فيه الآن بتوازٍ بائنِ الأبعاد؛ البعد الثقافي، الذي أحترف فيه كتابة الشعر والقصة والنقد الأدبي أحيانًا، فكان ذلك أساسًا لاختياري دراستي الجامعية في البداية، ورغبتي الشديدة في تنمية وبناء موهبتي، مع البعد الاجتماعي بتوافق ركيزتَيْه: الأسرية والشخصية.

ظنِّي الآن بدأ يأخذ مبادرة الواقع الافتراضي، المتعدِّي بصيغة إعراب جملة الفعل والفاعل، الذي استوحيت فكرته من وسائل التواصل الإلكترونية، وقلتُ: إن الفيسبوك مثلًا يشكِّل مياهًا عكرة، والذكور فيه عامة، والأنثى معه خاصة، وأنا المتكلمة البوَّاحة لصدى نفسي، مراقبة لما يحدث، لفاعل متعدٍّ، وفعل وهميٍّ ليس له من الواقع أي تكوين، وكلمة الصيد العربية استبدلت بأحرفها أحرفًا غريبة لا أعلم موطنها، أصبحت مألوفة جدًّا للجميع، والمياه العكرة كذلك تغيَّرت أحرفها بأحرف جميلة ناعسة، تشدُّ مغرميها شدًّا، تذهب بالألباب، وتغمرهم بالسهاد، ورغم ممارسة التواصُل الإلكتروني بماديته المُكْلِفة، ومشقته الثقافية والنفسية، فإنَّ عجبي بالظنِّ يسيطر (بعفريتيته) المتلبسة، ويستبدل هو الآخر أحرف نطقه، ويأتيني أنا باسم "أبي اليسر"، ولا أدري إن كان قد أتى على أي من أولئك بذات المسمَّى أو بغيره، والظنُّ كل الظنِّ أنه حضر أو قد يحضر باسم فتَّان أجمل من اسم "أبي اليسر" حتمًا!

والدي إداريٌّ قديم، ذو سمعة طيبة، يعمل مديرًا لإحدى مدارس الثانويات، وله أكثر من ثلاث سنوات يأتيني بأوراق مكتوب فيها شعر، وأحيانًا أخرى خواطر، ولكن الشعر كانت له ملكة خاصة شجية، ومتألقًا بإحساس مرهف مغلَّف بثقافة واطِّلاع واضحين، كان دوري في بادئ الأمر تدقيق وتصحيح لغة المفردات، وتصحيح الجمل وكتابتها بإعرابها النحْوي المنضبط، ولم أكن أهتم بمحتواه أيًّا كان، وأبرِّر ذلك لعدم صلاحيتي وتدخُّلي بشأنٍ لا يخصُّني أبدًا، فأنا أقدم خدمة إنسانية بناءً على رغبة والدي، الذي تبنى ذلك من ذات الباب، وحبًّا لإنسان لا زال يخدمه بالعمل لسنين عديدة، (فالبواب) أبو ياسر وهو يعمل بالمدرسة موظَّفًا، وكذلك ملازمًا ومساعدًا لضبط ومراقبة شؤون مجمع الثانوية خلال أوقات الدوام، وهذه الأوراق تعود لابنه "أبي اليسر" كما أفادني أبي، فلا أدَّخر وسعًا في تكملة جميلِه، ولو أني كنت أحيانًا أتململ وأتأفف من عدم توافق ذلك مع وقت راحتي، أو كتاباتي الخاصة، أو مطالعتي للمراجع الأدبية في البيت، حتى يبلغ في الاعتقاد أن هذه الطلبات المتكررة تشكل عبئًا ثقيلًا عليَّ، بل عقوبة لا حيلة لي من الإفلات منها، ويومًا ما ومِن سوء الختام، وجدت نفسي أمام قصيدة شعر جميل لهذا الذي يُدعى "أبا اليسر"، ذات رؤية جادة، وفكرة منضبطة، تنساب في مِحوَرِها بتتابع من بدايتها حتى نهايتها، وتعجبت لخلوِّها من أي خطأ نحويٍّ أو إملائي، إلا من جملة شعرية من ثلاثة أبيات، أحسست أنها دخيلة لا تنتمي للقصيدة أبدًا، وبدت لي كأنها تحويلة غريبة شاذَّة، ذهبت بعيدًا بالقصيدة لبرهة.

ولأوَّل مرة دبَّ في ذهني إحساس غريب، فقمت بنسخ القصيدة بخط يدي على غير عادتي من جديد، استبعدت تلك الفقرة، وأمليت مكانها ما أحسستُ أنه منسجم مع إحساس القصيدة كلها، شعرًا وكلمات، ثم أرجعتها مخطوطة جديدة لأبي مثل كل مرة.

مضى على تلك الحادثة ما يقارب العام الكامل، لم يأتِني شيء من ذلك الذي يقول أبي عنه "أبا ياسر"، ولا من ابنه المكنَّى بأبي اليسر، ولا أخفي على نفسي أن تلك (الفَعلة) الجريئة المتعدية على حق غيري، ولَّدت فيَّ تأنيب ضمير، وكذلك وساوس شتَّى، كان أبرزها احتمال الانزعاج الشديد، واتخاذه موقف الجفاء الحاد، الذي يرجِّحه انقطاعه التام من دون تسريب أي خبر عنه، لا من والده أبي ياسر ولا حتى من والدي أنا.

منذ ما يقارب ثلاثة أشهر، أخذتُ أدقِّق مفردات وصيغ خطابات قانونية، في توجهها الخاص والعام، واردة من سكرتير دائرة الشؤون القانونية المحامي ياسر بدري الساير، ولم أحسبه إلا موظفًا جديدًا، منقولًا من إحدى الجهات، أو معيَّنًا لأول مرة، لكن حضوره ومتابعته للعمل اليومي، يوحي بتجاوزه مرحلةٍ ما من الوظيفة، وبحكم انفصال مكتبي خاصة ومكاتب إدارتينا عامة عن بعضها، فإنه يتعذر عليَّ الاهتمام بأكثر من هذا (الظنِّ)، إلا جريدة العاصمة الرسمية اليومية، التي أقضَّت غمام كل الظنون هذا الصباح، الذي جاء محمَّلًا بما لم يخطر لي على بال أبدًا، والذي خلخل كل استقرار وركود في صفاء الذهن ومحيطه، قصتي القصيرة التي نُشرت لي في الصفحة الثقافية، وفي الركن الآخر منها قصيدة شعر (هدايا الموج) مذيَّلة باسم (ياسر الساير)، مررتُ بها، ثم أعدت قراءتها ثانية، فتأكدتُ من أنها القصيدة التي سمحتُ لنفسي ذات يوم بالتدخل في شؤونها طوعًا ومن دون سابق أي تفكير، وها هي أمامي الآن بكل مفرداتها، ولكن دهشتي وتعجبي من الاسم، فمَن يكون؟

أخذتُ نفَسًا عميقًا وأنا أردِّد عنوانها، فقد كان هو الآخر اختيارًا ظنيًّا ولكنه جميل، فقلت: ها هو الظنُّ بكل حاضرته، يقتحم عليَّ حاضرتي كلَّها، يريد أن يفرد شروطه ويفرضها بكل جسارة!

وللحظة أخذتْ بحيراتٌ من سراب الظنون تتشكل وتنتشر أمام ناظري، قلت: إنه لا بد من أن يكون واحد منها لا ينتمي لكل هؤلاء، وهو بالتأكيد لم يبدل أي من أحرف توصيفه.

وسوم: العدد 659