سفينة الحرية

سفينة الحرية التركية" مرمرة " تمخر في عُباب البحر الأبيض المتوسط باتجاه قبرص، حيث ستلتقي بسفن القافلة البحرية القادمة من الكويت والجزائر واليونان وأيرلندة .

كان على متن هذه السفن ستمئة متضامن من أربعين جنسية،استجابوا لدعوة تركيا بقيادة رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان بعد أن هالهم الحصار المحكم الذي ضربته إسرائيل على غزة منذ أربع سنوات، وزادتهم الحرب الإسرائيلية، وإحكام الحصار عليها حتى من مصر خنقا وعنتا، وكانت سفينة مرمرة تحمل دعاة السلام في العالم، وناسا من مجالس حقوق الإنسان، ومن نواب دول عديدة حتى من الفلسطينيين الذين سموا بعرب(48)،وحمّلتهم إسرائيل جنسيتها، وهناك متطوعون آخرون مخلصون من ذوي النزعات الإنسانية أمثال شذى بركات من سوريا، الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في الضفة الغربية وحنين الزعبي النائبة في الكنيست الإسرائيلي عن عرب (48) ومن فلسطين، وخرج من الأردن ثلاثة، ومن اليمن ثلاثة، ومن الكويت سبعة عشر ناشطا وخمس نساء، ومن المغرب خمسة، ومن موريتانيا محمد الحاج شيخ رئيس اللجنة الإسلامية ومحمد فال المرافق للقناة الإنجليزية، ومن الولايات المتحدة الأمريكية ثمانية وعشرون، ومن الجزائر ولبنان وبريطانيا وماليزيا واليونان والسويد، والنمسا والنرويج وآخرون مسلمون وعرب .    

وقال قائل :

-لكأن الأمم المتحدة بل العالم كله قد اجتمع في بطن هذه السفن وعلى ظهرانيها، يجمعهم أب واحد وأم واحدة.. إنهم أبناء الإنسانية الذين يحملون في قلوبهم رأفة ورحمة وعاطفة خير ممثلة بالمساعدات الطبية والغذائية، إذ حملت السفينة التركية لغزة عشرة آلاف طن، ومئة مسكن خشبي لإيواء ألف شخص، وخمسمئة عربة للمعوقين الذين أصابتهم الحرب على غزة فبترت أعضاءهم، وكانت الحملات لفك الحصار ستتوالى بعد أن أعلنت قناة الجزيرة التي ينتشر صداها في العالم كله خسائر غزة من الحرب والحصار، إذ بلغت خمسة آلاف بين قتيل وجريح، ودمر خمسة وعشرون مسجدا وواحد وعشرون مبنى حكوميا، واثنان وعشرون ألف منزل، ودمرت البنى التحتية في القطاع، وصار خمسة وسبعون من المئة من شعب غزة يعاني من سوء التغذية، وخلت المستشفيات من الأجهزة الطبية ووسائل العلاج والأدوية أو تكاد، وخسرت غزة اثني عشر مليار دولار، والإعمار متوقف بالحصار، فمواد البناء ممنوعة وبات ذوو الضمائر الحية يفكرون بطريق ينقذون بها غزة، وقال قائل :

- ألم يأن للذين آمنوا أن يفكروا بضرورة إقامة حملات إغاثة لهؤلاء المنكوبين ؟

وأجاب آخر :

-لقد سمحت إسرائيل لخمس حملات إغاثة ولكنها ردّت أربعة، فهل ستسمح بحملة أخرى ؟

-علينا أن نحاول فنؤدي واجبنا، ونعذر عند ربنا يوم سيسألنا.

وسكت قليلا ثم قال :

- يامسلمون ستسألون ، يامسلمون ستسألون ...

...                      ...

عزمت إسرائيل لما سمعت نبأ القافلة أن تصدها مهما كلفها ذلك من ثمن، وبدأت بالضغط على قبرص لئلا تستقبل السفن القادمة وأن تمتنع عن تزويدها بالوقود، فاستجابت لحليفتها إسرائيل، فأرسلت تركيا سفناً للوقود تكفي مؤنة سفن الإغاثة، وتابعت هذه مسيرتها إلى الجنوب، ولما كانت في عرض البحر وعلى بعد مئة وثلاثين ميلا من المياه الإقليمية لغزة والتي تعدها إسرائيل من مياهها فتصول بها وتجول كيفما تشاء، اتصلت إسرائيل بقبطان السفينة التركية مرمرة وسألته عن مكانها فأخبرها، وكان ذلك في الساعة الحادية عشرة ليلا ...

لم يكن في نية القادمين أن يستخدموا القوة، وحرصوا ألا يجلبوا معهم حتى سكاكين المطبخ، إذ جاؤوا بها بلاستيكية لئلا تتخذ ذريعة للإقصاء، ولذلك كان جواب القبطان جواب آمن مطمئن، ولكنه بعد قليل لمح أربع سفن إسرائيلية حربية تتجه وجهتهم ...فقال في نفسه :

-يا إلهي أتنوي إسرائيل نية شر بنا ؟

وكان حدسه كما حدس ... فما إن انطلق مؤذن الفجر " الله أكبر .. الله أكبر .. وأقام القادمون الصلاة حتى حلقت فوق السفينة سبع طائرات إسرائيلية، وانطلقت أصوات القذائف لتقتل أكبر عدد من المسلمين القادمين .

وقال واحد :

-يا إلهي ماهذا .. لكأن إسرائيل بيّتت لنا الشر، وإلا فلم هذا الهجوم العسكري المسلح بحراً وجواً...

وقال آخر وقد فوجئ بالجنود الصهاينة يصوبون نيرانهم على العزّل وهم يدخلون بطن السفينة خوفا من القصف :

-نحن لم نأت للحرب، نحن نحمل مساعدات إنسانية لأطفال غزة وشيوخها ومرضاها ومنكوبيها !!..

ومنع الجنود الصهاينة المتطوعين القادمين من التحرك، وجرح القبطان، وقتل ستة عشر منهم تسعة من الأتراك، وأصيب واحد في عينه وكان مع رفاقه دواء فمنع من استعماله، وأطلقت قنابل صوتية لمنع الاتصالات بالدول بسبب التشويش، ومنع المسلمون من الصلاة، وحدث هرج ومرج كثير .

وقلع الصهاينة حديد السفينة ليقال إن القادمين حاولوا ضرب الصهاينة به، وقال كويتي قادم مع المتطوعين :

-كان الله في عونكم يا أهل غزة فلقد رأينا الوحشية بأجلى صورها، حتى الإعلاميون اعتقلوا ونهبت أدواتهم لئلا ينقلوا إلى العالم صور الجريمة الوحشية ..

وقال آخر :

-هؤلاء ينفثون أحقادهم ضد أردوغان لموقفه ضد إسرائيل إبان حرب غزة .

فأجابه آخر :

-بل قل هؤلاء ينفثون أحقاد أتاتورك اليهودي في الشعب العثماني، وكأنهم خافوا أن يعيد أتاتورك موقف العثمانيين من الصهاينة .

-رحم الله السلطان عبد الحميد الثاني، لقد دفع منصبه وحياته من أجل فلسطين .

-هكذا اليهود يفعلون، حماهم العثمانيون من النصارى الإسبان ومحاكم تفتيشهم الجائرة رحمة ببني الإنسان، فانقلبوا على المسلمين وتعاونوا مع النصارى الذين أذلوهم .

-إنا لله وإنا إليه راجعون مصلحتهم مع القوي، ولو أعددنا العدة لما انتصر علينا عدونا .

...     ...

وأعلن عن جرح الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين، وأن عملية جراحية تجرى له في رأسه، فانطلقت الألسن بالدعاء له، وباتت زوجته وصغاره يناجون الله القريب المجيب أن يشفيه ويفرج كربه، وثار الشعب الفلسطيني ولا سيما في مدينته أم الفحم، وأحرقت دواليب سيارات لمنع تقدم الجنود الصهاينة الذين جاؤوا لقمع المظاهرات، واعتقل كثير من أهالي غزة الثائرين ...

...     ...

واقتاد الصهاينة السفن إلى ميناء أسدود الإسرائيلي الذي أعد لهذه الغاية، بين ضربٍ بالعصي الكهربائية وشتمٍ ومنع من الصلوات، وأجلس القادمون رجالا ونساء على القاذورات،ثم ساقهم الصهاينة إلى سجن بئر السبع وسط صحراء النقب في الصيف اللاهب ليلاقوا فيه أشد ألوان التعذيب، بحجة أن القادمين استفزّوا اليهود بهذه الحملة فاستحقوا مالاقوه من العقاب الأليم ...

وعمت المظاهرات الاحتجاجية أرجاء العالم لاستنكار ماحدث مع متطوعين مسالمين، وأعلنت مصر فتح معابرها بعد أن كانت قد أغلقتها أيام حرب غزة !!  واستنكر د. يوسف القرضاوي رئيس المنظمة الإسلامية العالمية ماحدث، وأعلن أن  يوم الجمعة يوم استنكار إسلامي عالمي، وطالب خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس بضرورة إيقاف محادثات السلام، وقال إعلاميون :

-أين الديمقراطية التي تدعيها إسرائيل ؟ كان عليها أن تفتش السفن لا أن تقصفها تحت جنح الظلام .

وقال رجال القانون :

- كيف تقصف سفينة في المياه الدولية، إن على الآمر والمنفذ أن يحاكما في لاهاي  أمام القانون الدولي .

وقال القادمون :

- كنا نتوقع أن تفتش السفن، ولم يخطر في بالنا أن إسرائيل ستقوم بهذه العمال الوحشية وتسفك الدماء .

...     ...

وفوجئ الشعب التركي في هذا اليوم بقصف ميناء إسكندرون البحري وقتل ستة من رجال البحرية ..

واجتمع المسؤولون الكبار في تركيا رئيس  جمهوريتهاغول، ورئيس وزرائها أردوغان، ووزير خارجيتها ومخابراتها و...

وقال أردوغان في خطبة له أمام البرلمان التركي :

-لقد نفذ الصبر، إن عمل إسرائيل فاق القرصنة، إذ للقرصنة أخلاقيات بين أهلها، أما هؤلاء فلا أخلاقيات تحكمهم، وعلى القانون الدولي أن يحاسبهم .. إن تركيا بلد حضاري، وذو جذور قوية ولن تسكت عن هذا العمل الوحشي، إنها لاتسمح لأحد أن يجس نبضها .. إن تركيا صداقتها قوية وعداوتها قوية أيضا، وعلى إسرائيل أن تحاسب نفسها وتعيد السفن ومن عليها وما عليها، وأن توصل الجرحى إلى تركيا لمعالجتهم فيها، وأن تعوض الخسائر ... نحن لن ندير ظهورنا لغزة، إن لنا مع أهاليها ماضيا وحضارة وثقافة، ولنا كرامة سنتحرك من خلالها ، وعلى إسرائيل أن ترفع الحصار أو نقطع علاقتنا معها .

وسكت قليلا ثم قال :

-إن قوانين الحرب تمنع الاعتداء على النساء والشيوخ والأطفال ورجال الدين والمسالمين غير المحاربين، ولكن إسرائيل خرجت عن نطاق الإنسانية فأين ديمقراطيتها التي تدعي ؟

وأعلن أردوغان في الخطبة نفسها سحب السفير التركي من إسرائيل بلا تلكؤ، وإلغاء المناورات العسكرية التي كانت بينهما، وكذلك المباريات الرياضية التي كانت مقررة بين أنقرة وإسرائيل .. واستُدعِي السفير الإسرائيلي في تركيا واليونان وإسبانيا والسويد احتجاجا على الهجوم الوحشي، وطالبت ماليزيا وباكستان وأفغانستان والصين وكثير من دول الغرب بفك الحصار عن الشعب المنكوب، واتصلت تركيا ولبنان التي كانت مندوبة عن العرب يومذاك،وطالبت كل منهما باجتماع عاجل للأمم المتحدة، وصدر البيان ... لكن خففت لهجته بعد ضغوط أمريكا راعية إسرائيل !!.. 

وردد الشعب التركي مسلموه وعلمانيوه وأكراده ومعارضوه موافقتهم على تصرف زعيمهم أردوغان استردادا لكرامة بلادهم .

وقال السجناء الأتراك في إسرائيل :

- لانخرج حتى يخرج جميع المتضامنين .

فقال آخر :

- يالها من شهامة لم نرها من غيرهم .

وحول إسماعيل أبو هنية رئيس الحكومة المقالة في غزة خيمة استقبال المتضامنين إلى خيمة عزاء ..

وقال د. فهمي هويدي:

-هذه فرصتكم ياعرب لتطالبوا بإلغاء الحصار، وإيقاف عملية السلام المزعومة ..

وقال آخرون :

-لقد قتلت إسرائيل محمود المبحوح في دبي بأيد صهيونية جاءت بجوازات سفر مزورة  .. وهاهي اليوم تقتل العزّل في المياه البحرية الدولية ..

وقال عبد الباري عطوان رئيس تحرير جريدة القدس في لندن:

-عار عليكم ياعرب أن تطلق إذاعاتكم الأغاني ودماء إخوتكم تسفك.. ألا تخجلون من الأتراك وأمثالهم ؟ 

...     ...

وكانت المفاجأة بعد يومين بظهور الشيخ رائد صلاح على شاشة التلفاز حيا يرزق، كما أفرج عن إعلاميين، وكأن إسرائيل أرادت أن تهدئ الموقف بذلك، فقال الرائد  بكل جرأة :

-إنا ههنا باقون مابقي الزعتر والزيتون ..

وقال إعلامي :

- إن أقسى ما رأيته بعد سفك الدماء العصا الكهربائية، كسرت يدي فسقط جهاز التصوير فأخذوه واعتقلوني، وبقيت في البحر مع الألم الشديد سبع ساعات، ثم اعتقلت بلا علاج .

وسكت قليلا ثم قال :

-طلب المجرمون مني أن أوقع على ورقة تزعم أننا قلعنا حديد السفينة لنضرب الصهاينة بها فدافعوا عن أنفسهم، فلما امتنعت عن التزوير فعلوا بي مافعلوه .

وقالت زوجة القبطان التركي الجريح التي اعتقلت مع ابنها الرضيع ولما يتجاوز السنة :

-عوملت وزوجي بوحشية مرّة، سحبوه وهو جريح إلى حيث مكبر الصوت ليوجه إلى المتضامنين كلمة : " إن السفينة فقدت سيطرتها فسلموا أنفسكم لإسرائيل " .

وقالت جزائرية من جمعية أطفال :

-كانت معاملتهم للنساء سيئة للغاية، تركونا ساعات على ظهر السفينة تحت حرارة الصيف بلا طعام ولا ماء، وكان المئات منهم يطوقوننا، ونحن عشرون امرأة فحسب، لقد أخذوا منا كل شيء حتى متعلقاتنا الشخصية، فضلا عن الكلام النابي الذي وجّه إلينا .

وسكتت قليلا ثم قالت :

-ماذا جنينا؟ أَلأنا حملنا إلى أطفال غزة الدواء والحليب؟ يا إلهي، لقد صدق الشافعي حينما قال :

وليس الذئب يأكل لحم ذئب

                 ويأكل بعضنا بعضا عيانا

وقال زوج المتضامنة السورية شذى بركات :

-إن شذى عبرت عن حبها لفلسطين وقامت بواجبها تجاه وطنها لأننا كلنا أمة واحدة .

وقال عبد المجيد الزنداني :

-لو أن مصر فتحت معابرها من قبل لما كان ما كان، أنستجيب للصهاينة ولا نستجيب لنداء الله .

وقال الدكتور السوري محمد نجيب المراد الملقب بشاعر العرب قصيدته في الحصار :

-الحصار على فمي وفي دمي، وكيف أسكت والمسلمون ذبحوا عند صلاة الفجر على ظهر سفينة حملت الخير لبني الإنسان ؟ ثم أنشد قوله:

أدركت لكن الحصار كما ترى

نار على نار تشب وتنشب

وقمعت صوتي واقتلعت جوانحي

وسكت والبوم المنفّر ينعب

ولقد يكون الصمت أبلغ منطقا

إن كان قاضينا المسلّط أشعب

أنا جئت من حيث القبيلة أعلنت

أني أبو ذر وأني مصعب

وأنا قلاع الشام ترنو للعلا  

وهنا على صدري يصلي المغرب

أنا ماعرفت الحقد كيف لشاعر 

قد عاش للخير العميم ؟ أينكب؟ 

*) هذه القصة التاريخية واقعية بأسماء شخصياتها وحوادثها، وهي حوادث  الحصار الإسرائيلي على غزة، ومحاولة الأتراك بقيادة رئيس الوزراء أردوغان فك الحصار عنها، وقيام إسرائيل بمنع دخول السفينة التركية مرمرة وقصفها وهي في البحر، وقتل أتراك وعرب وآخرين من دول أخرى .

وسوم: العدد 659