ابنــتــي أنقــذينــي

 عاد عامر إلى بيته وقد لعبت الخمرة برأسه فصار يهذي ويضرب ويشتم تارة ، ويغني عناء السكران البطِر أخرى، والزوجة والأولاد يحدقون به وهم خائفون مضطربون، فمنظره كشيطان رجيم ...

 كان هذا ديدنه في كل ليلة، والأسرة المنكوبة تصبر على هذا البلاء المبين .. ومرت الأيام وزاد عامر في طغيانه وأحضر كؤوس الخمر إلى بيته، وبينما كان يجهز سفرة الخمر إذا ابنته ذات السنتين تقلب وعاء الخمر أرضاً ..

 ماذا يفعل وماذا يقول لابنة صغيرة هي حبة قلبه، بل هي أحب أولاده إليه .. تأمَّل الخمرةَ وتأملها ، ثم ترك مجلسه وذهب إلى فراشه دون أن ينبس ببنت كلمة .

 لم يستطع النوم يومذاك وهو يفكر، ويقول في نفسه :

-أترى الله سيهديني حتى جعل الصغيرة تقلب الخمرة لأمتنع عن شربها ؟ نعم إن الخمرة لكبيرة، بل هي من السبع الموبقات في النار، ليتني أتوب، يارب أعني . يارب أعني ...

 واستيقظ الرجل بعدما نوى أن يتوب لله سبحانه، ولكنْ طرق مسمعه صوت زوجته وهي تبكي وتنادي باسم صغيرته رحيمة، فهرع بلا وعي فوجدها جثة هامدة .. وعندها ..

 أحس بأن الدنيا قد انقلبت على وجهه، فما صبر على المصيبة وما تحملها وقال وهو في أشد الألم :

-إذاً الله سبحانه لا يريد لي أن أتوب، لمَ ماتت رحيمة عندما نويت أن أتوب .. لن أتوب .. إذاً لن أتوب .. وعبَّ من الخمرة ماشاء له شيطانه أن يعبّ .. وهذى كما شاء له السكر أن يهذي ويصخب .

 ومرت أيام ثقال كان الرجل خلالها يصحو تارة فيستغفر ربه ثم يعود ثانية إلى إغوائه وخمره، إلى أن كانت ليلة سكر فيها مع الساكرين، وعاد إلى البيت الحزين، وبكت زوجته أمامه الشيء الكثير، فنام وهو في حالة يرثى لها من البعد عن الدين، والمعاناة في جو مهين، فرأى في نومه وياهول ما رأى ..

 كانت جهنم محيطة به من الأمام ومن الخلف، وعن يمينه وعن شماله، وهو في وسطها يحاول أن يفر منها فما يستطيع، وألسنتها تقترب منه وهو يصيح ويصيح، ثم ظهر له ثعبان مخيف له أرؤس عديدة، وكل رأس منه يريد أن يبتلعه وهو يصيح ويصيح، وما من معين ولا ملاذ، وفجأة رأى عجوزا بعيدا يتوكأ على عصا وخطواته المتقاربة تنم على ضعفه الشديد، فأسرع إليه يقول له :

-ياعم، خذني معك، أنقذني من هذا الهول المخيف، الثعبان ذو الرؤوس يلحقني ليبتلعني ، أرجوك ياعم أرجوك .

-لاقدرة لي على إنقاذك، فأنا رجل ضعيف متهاوي القوى ، لاأستطيع .. لاأستطيع ..

 التفت إلى جهة أخرى وهو خائف وجِل من اقتراب الثعبان منه فرأى عجوزا يتوكأ على عصا فقال له :

-أيها الشيخ الرحيم أنقذني، أرجوك أنقذني، فالنار تكاد تلتهمني، والثعبان قد اقترب مني .

-لا أستطيع .. لا أستطيع .. أنا امرؤ عجوز لا قدرة لي على إنقاذك .

-يا إلهي ماذا أفعل؟

 التفت إلى جهة أخرى فرأى ابنته رحيمة تلعب في بستان جميل وحولها الصغار يضحكون ويمرحون ..

 ناداها : يا رحيمة ارحميني وأنقذيني من هذه النيران والثعبان ..

-تعال إلي يا أبتِ

-لا أستطيع، وكيف ؟ دليني على الطريق ..

-الطريق بيدك يا أبت، لقد وصلت إليه ثم تركته !!..

-كيف؟

-لقد تبتَ إلى ربك ثم ارتددت وعدتَ إلى الخمر .

-وهل شرب الخمر أوقعني في هذه المهلكة ؟

-نعم يا أبتِ، إنها لكبيرة، عُدْ إلى ربك الذي نهاك عنها، تُبْ إلى الله الرحيم من هذه السيئة المنكرة ..

 وسكتت قليلا ثم قالت :

-بيدك يا أبتِ أن ترد الثعبان عنك ، إنه عملك السيئ سمّنته وكبّرته حتى لم تعد تقدر عليه .

-إيه

-وهذا الشيخ العجوز الضعيف الذي لايقدر على السير إلا متوكئا على عصا هو عملك الحسن ، لقد أقللت منه كثيرا حتى بات لا يقوى على الصمود أمام الثعبان المخيف -تبتُ إليك ياربِّ . رحيمة اشهدي لي عند ربي .. ها قد تبت فخذيني إليك، تبت إليك يارب توبة نصوحا، سأحطم زجاجات الخمر، سأحكي لأصحابي ما رأيت وما سمعت، سأهجرهم إن لم يطاوعوني على التوبة .. وأخذ يبكي ويبكي

 ودخلت زوجته لتراه يبكي في نومه ويقول يارحيمة لقد تبت، يارب للقد تبتُ ..

-ما بك يارجل ؟

-أنتِ معي ؟ أين أنا ؟

-أنتَ في بيتك وفراشك.

-الحمد لله أني لم أحترق .

-ما الأمر؟

 وحكى لزوجته رؤياه، وحمد الله على أن مارآه كان ذكرى وعبرة ..

 ومن يومذاك أحسن التوبة والعمل، وأخلص قلبه لله سبحانه، وصار في عداد الصادقين .

وسوم: العدد 660