سِفر التَعَب

محمود القاعود

[email protected]

رغبة جامحة فى البوح .. تصطدم بصخرة كبيرة تشكلت عقب شروخ لا نهائية فى أعماق الروح .. كأن السكوت هو النظام السائد فى منظومة ذلك الإنسان الذى تحاصر عقله أسئلة شتي لعل أهمها وأكثرها إلحاحا : من أجل ماذا ؟ وأكثرها دهشة : ثم ماذا ؟

حدجه بنظرة بها الكثير مما ينبغي أن يُقال .. ثم أطرق بانكسار محاولا أن يستجمع بعض العبارات المدفونة فى غياهب الماضي الحزين والحاضر البئيس.. قال فجأة : فى البدء كان الألم ! وفى النهاية كان الندم ! وأردف بنبرة جنائزية حزينة : هذا كل شئ !

ابتسم العجوز وقال بنبرة متعاطفة ومتضامنة : حياتنا كلها صخب وسخط وألم وتعب !

غمغم ثم نظر للعجوز بتوسل وقال بما يُشبه الهمس : إنه ألم الروح .. الروح تصطخب .. الروح فى صَخب ونَصب .. الروح فى تعب مذ حلت في !

شعر العجوز برعشة خفيفة ذكرته ببعض ماضيه البعيد الذى أيقظته كلمات الشاب  المتألم .. وحدجه بنظرة طويلة طول ماضيه المنبعث من وسط ركام الذكريات والألم .. فى الأثناء اتجه إليه الشاب بعينين متأملتين .. قال العجوز :

لابد من التعب .. لابد من التعب.. لابد من التعب !  ثم أشاح العجوز بوجهه حتى لا يلحظ الشاب بعض العبرات الساخنة التى فقدت عيناه السيطرة عليها .. وأردف بغير اقتناع : كنت مثلك يابني .. أعيش بين الأرق والقلق .. بين الألم والندم .. بين الحزن والشجن .. بين الهم والنكد .. بين الحنين والأنين .. وها أنا أمامك .. ثمة حقيقة استخلصتها طوال هذه الحياة : فى البدء يكون التعب ثم تسير الحياة إلى حيث الأقدار !

تراءت من بعيد عدة أطياف تحاصر الشاب  تذكره بسنوات مريرة .. كان الهتاف الصارخ داخله : من أجل ماذا ؟ وجه حديثه للعجوز : من أجل ماذا ؟

رماه بنظرة مغلفة بخبرة السنين ..

- فى هذه الأمور لا معنى لسؤال مثل من أجل ماذا ! ولعلك ستقول ثم ماذا ! قلت لك إلى حيث الأقدار  !

لمعت الدموع فى عينيه ثم أجهش بالبكاء وخيم صمت مديد بليد قطعه طيفها الذى ناداه فى اللاشعور : ماذا تفعل هنا .. ؟!

أسرع نحو العجوز وأشار للطيف : ها هى تفجؤنى وتعود من جديد !

احتضنه العجوز وبكي .. بكي كما لم يبك من قبل .