ثرثرة الحكي

عصام الدين محمد أحمد

تشمي معها مُتراخماً، لافتات المحلات تخبل خطوك، تدنو يدها من يدك، ترفع يدك هرباً من التماس . 

لماذا لا تصف الشارع الآن ؟ ؟ 

يقولون : 

في الوصف عبق المكان ! 

رُبما كان الوصف احتواء ! 

أعبر هذا الدرب بسُرعة مليون حُصان، ما دلفت يوماً إلى إحدى البارات، ما عزمني صديق على طاولة شواء، وما عهدت سوى زحام السيارات . 

الآن تظُن أنت بي الشتات، وتشعُر هي بالملل. ومن المُهم يا باشا أن تعرف أنها لم تعر المحلات التفاتاً، بل تتحين الفـُرص للإمساك بيدك . 

لا تقـُل أن الاتصال الجسدي لدليل على الامتزاج ! 

لماذا قبلت – إذن – دعوتها للسينما ؟ ؟ 

أغررت بك مُدعية إن القصة مُيرة ؟ ! 

لا تدعي  أنها لم تدع لك منفذاً للتراجُع ! 

الزحام يتماوج مع الهواء، تتمايل  في خطوها، ينساب فوق ظهرها شعرها الحريري، لم تتغير بعد، ما أجمل قدها المشوق ! 

أيمكن أن تـُحب ؟ ؟ 

ما عهدت – يا ملكوم – سوى بكور الجسد، وفوق الكتف فأس مشعلق، تركب ضفة الترعة المتربة، القدمان يمشيان وبكرة الطريق لا تطوى، والحقول تلفك بمساربها الثعبانية . 

ما أشبه اليوم بالبارحة ! 

تعزق- يا زين- والأرض تحنو على الفأس فتتشقق، أسفل الطمي ديدان ونأى، تـُقلب الأرض، تدفن سطحها الجاف أسفل بطنها المُتخم ببقايا الحشرات المهصورة . 

الأسفلت لامع، تنزلق السيارات غير عابئة بمرورنا اللولبي، منذُ مُغادرتنا المرفأ ولسانها يلهج بلغط وأضياف ذكرى في الأفق . 

أنتب فأسك وفوق طرحتها مشنة خُبز ( السنة) ، تتهاديان فوق رفات العصور، تمضغان الآمال، تتمنيان لقاء الفراش دون أن يبوح أحدُكما للآخر، وكأن في الفراش عيوناً مدسوسة ترقـُب همهمات مُنفلتة من سجنها . 

يا سيدنا لا تُفسر الأمر كما يستهويك ! 

اضحكتني يا فتى، رجل وإمراءة وسينما وإياد عطشي، ماذا يعني هذا كله ؟ ؟ 

دعك من اللغوب وثرثرة الحكي، أقترب من دار العرض، أقطع تذكرتين، عد الفلوس التي في جيبك . 

لا تكفي، هأ ... هأ ... عُد ثانية، من حافظتها تتسلل النقود إلى المحصل. 

أرأيت مثل هذه البجاحة ؟ ! 

تجلسان في الرُكن، الشاشة تخلع ثوبها، قرية دروبها مُتعرجة، القيظ يجمُر الأتربة . 

على فكرة، تعب المُخرج في تصوير نارية الأتربة مُستعيناً بخبير أشعة . 

صبي يعدو، قدمان حافيتان، كيف يهرب من فحيح القاع ؟ ؟ 

العيون تشيعه من كوات الدور الواطئة، يخلف القرية مُستقبلاً الجبل الغربي، شعاب وكُثبان وتلال، وها هي عدسات الزوم تنتقل بين شعاب وعرة، صوت المُخرج يلعلع : 

قف 

يطفئ الصبي قدميه في مياه الطشت، ثلج مجروش من الـ ( ديب فريزر)، فرشاة الزيوت السمراء تـُغمق الفتى، يتجرع كأس ويسكى مكسوراً بالصودا، يسوقه المُخرج المُساعد إلى بداية الشعب، بذلوا جُهداً شاقاً لتشويه صورة الشارع، يستأنف الصبي الجري، حاملو الكاميرات يتسلقون العربات، الشحوب يكسو وجهه، ما الذي يطارده ويضُخ في جسده الرهق، أ أرتكب ذنباً ؟ ؟ 

أحفر قبراً ؟ ؟ أشاح بيده – يوماً – في وجه والده ؟ ؟ 

أعاكس بنت الجيران ؟ أ أغتصب أرضاً ؟ 

حتى الآن لا أدري شيئاً وأيضاً قد لا يُفيد التخمين ! 

ولكن المُخرج أشاع في الجيرة أن موسى لم يكُن يعلم من أمره إلا نُكراً .  

ها نحنُ قد علمنا أن اسمه موسى، البوص المنثور يؤطر الطريق، ها هو موسى يلج كهفاً، عيون التصوير مخبوءة في جنباته، في المغارة فتاة غندورة من غير وشاح، في عينيها بحران بلا مرسى، للأسف أصدر المُخرج أوامره بالتوقف، تداخلت المشاهد، أرصفة مفروشة بالأجولة البالية ، وفوق كُل جوال أسرة، بيوت مُتهدلة وأمام كل باب طاولة، خلفها بزة رسمية في يد صاحبها مُذبة، حقول مُمتدة، ثمارها رجال ونساء وأطفال، وماكينة حصاد عُملاقة تقطف الرؤوس، أمست الشاشة مرتعاً للقنوات الفضائية، تضربني بمرفقها في عصبية ، بانت في شدة الضربة، نبراتها تحتد : 

أتتذكرني ؟ ؟ 

الوجوه تمرق، الإمارات تسوخ، المُدن تركل القرى، والنجوع تغزو الشقوق، الشهيق والزفير يحدثان وشيشاً مُضطرباً، تلكزني بحرقة قائلة : 

الخيانة تاجك ! 

فوق الحائط المُهتز صورتها، طوابير النمل ترابض فوق نهديها، تصهل مُهرة في فلاتي، منذُ أثنين وأربعين عاماً لم تصبها نـُقطة مطر، ولم تعهدها شجرة، فحيح الصهد أصمني، لساني صهر القيظ نسيجه، الراقصة الهاربة لتوها من المغارة تحتل الشاشة، تتشنج في الإيقاع السريع، ثنى ... مد .. رفع .. خفض ... وفي التماوج نفور .. وقبول، تذمر ورضوخ ، والنظارة يبحلقون وينشدهون، وموسى في خلفية المشهد مصلوب على جذع نبقة، ترنيمة خافتة تصدح : 

في البدء كان الإنسان 

خلبته الأوهام . 

فرصة ذهبية تسنح الآن، أنشغلت بكليتها في الفيلم، تسحب يدها من ذراعي، تسلك خارجاً من دار العرض، المُخرج الجالس في الاستقبال يراقب خطوي، قبل أن يحتويني الشارع يشيح بوجهه مُبتعداً . 

وسوم: العدد 700