غرزة لرتق النفوس

عصام الدين محمد أحمد

 قبل أن تستوي بي الجلسة، يداعبني صوته : 

صعيدي يفتح الثلاجة، يهتز ( الجيلي) ، يصيح مبهوتاً : 

ما تخاف سأشرب عصير . 

أ أصده بعـُنف لكي ينخرس؟، لا تتعجل، فالعراك آت، لا ريب فيه! 

يقهقه الجالسون، هشام يكوم الجمرات فوق حجر المعسل، أنفث أدخنة، تتيه في فراغها، وسُرعان ما يطير سؤال في الغرزة : 

- ما وظيفة الطبيب النفسي ؟ ؟ 

تتلجلج الأجوبة في الأذهان ، لسان أسامة ينفلت من عقاله : 

- تحليل المرض النفسي، تمهيداً لعلاجه . 

يُسطر السكون ورقته، يعقـُب ( محمد ) وكأنه مُقرر لجنة الثقافة بالمقهى : 

- غلط . 

يقر ( خالد ) سائق الموتسيكل الحكومي : 

- غلب حمارنا . 

وكخليقة نغمية أغني : 

ثقـُل عليه الحمل، تسلخت عظام ظهره، ارتخت من تحته الأرض، ناخت وتحفرت، وقبل أن تلفظه الحياة رفس هذا الحمل . 

يطلع أمين عام ثقافة مُـتمزجي الشيشة بهذا المقطع : 

استدعيت – أمس – على الإنترنت موقع ( حُمار ابقراط) ، نفر في وجهي رذاذ قوله :- وظيفته سلق النفوس . 

الانشراح ينفرد شراعه، يمُط ( محمد ) شفته السُفلى، يحك أرنبه أنفه، تغوص عيناه في الأرض، المياه تـُكركر في بالونة الشيشة، يبتلع نصف كوب الشاي في رشفة، يرفع عينيه إلى السقف المعروش بالخشب والهباب، يستل من بقه سيفاً : - إمبارح طلعت فوق سطح العُمارة، ورميت عشر ملايين جنيه، والناس مازالت عيونهم فارغة . 

يسخر هشام : 

- ادفع ديونك يا طباخ ( الهنا ) . 

يسلت من جيبه جنيهاً، ويدفعه لهشام ناصحاً : 

خُذ هذا المليون، وانكسف على دمك . 

ولاح الخُضري يسيب فوهة البُكى : 

فريد الأطرش – الله يرحمه – كان يعطيني عشرة جنيهات كل أسبوع لأشتري له الصُحف، وبشلن الجورنال، وطبعاً كنت احتفظ بالباقي . 

أتسأل كخبير : 

- لماذا لم تشتر محلاً حتى الآن ؟ ؟ 

يبحث في دماغه عن الجواب، يقلب مسيرته وربما يتلهى بتبديل الجمرات، ويزورنا الهدوء، يدوس هشام زرار المُسجل، المُطرب يصهلل : 

- هـُنا القاهرة، الساحرة، الساخرة . 

أنامل ( محمد الطباخ) تقضم زُمارة المُطرب، يرُج قربته، والوالد ( سيد ) يستظرف: 

-  لماذا لا يغلق الصعيدي باب الحمام ؟ ! 

ما الذي يشُدك لهذا الجو المشحون بالهيافات ؟ ولماذا تستحلب مثل هذه النكات ؟ لغظ وهرطقة ولا شيء آخر. عموماً ، قُل الإجابة الآن وإرجاء هذه السفسطة : 

- حتى لا يلتصص عليه أحد من خرم الباب . 

تضج الضحكات، العيون تتلاقى، الأبدان تتمايل، السُعال ينزلق من الحناجر، معظمهم من أصل صعيدي، ربما ركست في حلوقهم مرارة السُخرية ! وربما ينفثون لقدورهم حتى لا ينفجر !! . 

واستغلالاً للموقف يسأل هشام محمد الطباخ ! 

- أ أجريت عملية القلب ؟ 

يرين الصمت، المعالق المُتحكة مع السطح الداخلي للأكواب تُصدر إيقاعاً زاعقاً، مُلط فشفتيه بريقه السائل، يهزُل : 

صعيديان يتباريان على الطريق الدائري، ومن تدوسه سيارتان يخرُج من السباق، هذا شرطهما الوحيد . 

لا قدرة لي على التحمُل أكثر من ذلك. لماذا أشنف أذني بمثل هذه السخافات ؟ ؟ ولماذا ينتظم حضورك إلى هذا المكان، مُستهلكاً هذا الوقت في المزاح الممجوج ؟ أهذا ما يسمى بحُكم العادة ؟ ! 

رُبما ... ورُبما .. لا أعرف – يقيناً – الدوافع خلف هذا الوجود الدوري ! فالوجوه هي نفس الوجوه، والحكايات مُكررة لفظاً ومعنى، والنارجيلة سيئة، فالمعلم هشام يرُص من ورقة المعسل مئة كرسي، والفحم رطب لا تأكُل منه النار إلا القشور، والبُن خليط محروق من نوى البلح  والفول السوداني، ومُغامرات ( خالد ) محفوظة عن ظهر قلب، وأخبار صلاح بائدة، ومشاوير ماهر إلى الغـُرزة كثيرة، نتزاحم في القعود، نكذب ونتجمل، وتتقافز فوق الشفاه التعليقات، وفي النهاية أتمركز دوامة السؤال : 

- ماذا إذا لم ترتد هذه الغـُرزة ثانية ؟ ؟ 

أقرض هشام جنيهاً، كدت أن أتوارى خلف الأدخنة، أصعد السلالم المفضية إلى الرصيف، لم يتغير منذُ فترة طويلة، الدكك الخشبية مُنتشرة كعدها، والأشجار مُتناثرة بظلالها الوارفة، والجو مُعباً بالغيوم، أتأمل العربة الكارو المُتهادية، لوحة معدنية مُعلقة في خلفها، أقرأ : أمن دولة . 

- أتسأل . 

- ما هذا الذي أراه ؟ ؟ 

اقترب أكثر، أمعن النظر، هي هي نفس العبارة، أدنو من العربجي، أستوقفه، بوادر خوف تدثر وجنتيه، ينز جبينه عرقاً غزيراً، أوبخه : 

- أتعرف عقوبة ما تفعله الآن ؟ ؟ 

  الرهبة تلبسه، يتفصد جسده وجعاً، يقول : 

- الذنب يقع على هذا الحمار . 

يسكُت كأنه قبيلة في الصحراء تترقب امتلأ الدلاء، يكمل : 

- فالحمار – يا سيدي – صعيدي . 

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 700