رصاصة

د. أحمد محمد كنعان

مضى أكثر الليل و "صبحة" لم تنم، وظلت تنشج ببكائها، وتضرع إلى الله أن يتراجع "هزاع" عن عزمه علىالرحيل !!

وتذكرت أنه أعد دراجته الهوائية لكي يسافر عليها من درعا إلى عمّان وهناك يستقل إحدى الشاحنات إلىالسعوديةليعمل مع ابن عمه "جاسم" فقامت بهدوء وأغلقت قفل الدراجة وأخفت المفتاح بين شقوق الجدار ، وعادت ترضعطفلها "عادل" وتواصل الضراعة لله !

صحا "هزاع" مع صوت المؤذن، فتوضأ ووقف فصلى الفجر، وانحنى فقبّل طفله ومسح على رأس صبحة ودعالها في صدره، وغادر الغرفة بحذر كي لا تحس على رحيله، وهو لا يدري أنها باتت الليلة كلها ساهرة تبكيوتتضرع أن يحنث بقسمه ولا يغادر الوطن !!

وما إن خرج حتى لحقت به فوجدته يكسر قفل الدراجة بعد أن فشل في العثور على المفتاح !!

تفحص العجلات وانطلق فأسرعت خلفه تشد الدراجة تستوقفه وتستحلفه أن لا يرحل، وتسترحمه بالصغير وبنفسهالكنه كان قد أخذ القرار وعزم أن لا يبقى تحت رحمة نظام "آل الأسد" الذي قضى في سجونه أكثر مما عاش بينأهله وربعه!!

يا بنت الحلال ... اتركيني! والله طلعت روحي .. كل يوم تحقيق وبهدلة !! والله صارت عيشة الكلاب أكرم من عيشتنا ! فعلامَ نبقى هنا ؟!! بس .. يا حبيبي .. يا تاج راسي .. يا سقف البيت .. لمن تتركنا ؟! وأنت تعلم ما لنا غيرك في هذه الدنيا ؟! الله كريم ... لن ينساكم

رد عليها دون ان يلتفت خشية أن يرى دموعها فتنهار عزيمته على الرحيل، واستمر يحاول أن يخلص الدراجة من قبضتها، لكنها كانت تشد بكل طاقتها وتترس بالأرض، حتى تمزقت الشحاطة البلاستيك في قدميها ولم تعد قادرة على المشي، فتركت الدراجة وانحنت فالتقطت الشحاطة ودستها في جيب عباءتها، فاهتبل انشغالها عن الدراجة وانطلق يسابق الريح، حتى غاب عن ناظريها في غبش الفجر، فوقفت منكسرة تشهق بالدموع وتدعو له بالسلامة وأن يبعد عنه أولاد الحرام، وحين أيقنت بن الفاس وقع بالراس وانتهى كل شيء فراحت تجر نفسها عائدة إلى بيتها وطفلها !!

وانقطعت أخباره ، ومرت سبع عجاف كبر فيها "عادل" وخرج مع أطفال مدرسته ينشدون في براءة بسقوط النظام فاعتقلهم رجال الأمن، وعلم هزاع باعتقال ولده، فأرسل من يخبر صبحة أنه راجع إلى البلد بعد أسبوع، فانتظرت عودته بفارغ الصبر !!

وفي الموعد المحدد خرجت مع واحد من أقارب هزاع إلى الحدود تنتظر عودته، وقبيل الغروب ظهر عند الحاجز الأمني غير بعيد فاقتربت لتلتقي به لكن الحارس منعها وأمرها أن تنتظر خارج الخط الأحمر المرسوم على الأرض فابتعدت وجلست تنتظر .

ورأت أحد الحراس يقتاده إلى الضابط الذي جلس على كرسيه في الظل خارج مكتبه يحتسي شيئاً ويدخن ، فلما رآه الضابط وضع الكأس من يده ونظر إليه نظرة متعالية وأمره بإخراج جواز سفره، لكنه اعتذر بأنه لا يحمل جواز سفر، ومد يده فأخرج له بطاقة الهوية ، فنظر الضابط فيها برهة ثم سدد إليه نظرة حانقة وقال له :

جئت في الوقت المناسب .. عمرك مناسب تماماً، سوف تلتحق بالجيش العربي السوري لمحاربة الإرهابيين الذين دمروا البلد

رد عليه وهو يشير إلى زوجته غير بعيد :

لكن ، دخيلك، أريد أن أرى زوجتي، وولدي الذي اعتقلوه في الشهر الماضي!!

صرخ فيه الضابط ساخراً :

أهلين .. إذن أنت والد البطل الذي يريد إسقاط النظام ؟!! سيدي .. لا إسقاط .. ولا شي .. هؤلاء أطفال صغار شاهدوا الناس في بعض البلدان ينادون بإسقاط النظام فظنوا أنها تمثيلية وحاولوا تقليدها !! تقول أطفال !!؟ يعني لم تحرضوهم أنتم على ذلك نحن ؟!! لا والله .. سيدي أنا كما ترى كنت خارج البلد منذ سبع سنوات !!؟ طيب .. طيب .. سوف نرى !! ولكن قل لي أين كنت كل هذه السنين ؟! كنت في السعودية !! في السعودية ؟!! عند الوهابيين ؟!! أه.. يا خاين ماذا كنت تعمل عند هؤلاء الإرهابيين !!؟ لابد أنهم دربوك، وعدت اليوم لتشارك مع الإرهابيين في تدمير البلد !!؟ سيدي .. والله كنت .. لا دربوني .. ولا شي .. أنا كنت جرسون في مطعم !! جرسون !!؟ طيب .. الآن جاء الوقت لتقدم خدمة للوطن .. سنرسلك لتعمل جرسون عند عساكرنا الأبطالالمشغولين بالقضاء على الإرهابيين .. ما رأيك ؟! سيدي .. سيدي .. أنا أديت خدمتي العسكرية، وأصبت في حرب ٧٣ ... انظر

مد يده وكشف له عن الندبة الواسعة في ذراعه، فانطلق الضابط يضحك في سخرية ويقول :

ما شاء الله ... بطل !! سيدي .. لا  بطل .. ولا  شي .. سيدي .. هذا واجب وطني أديته، فاسمح لي الآن أن أذهب إلى أهلي .. أرجوك !! لكن يا بطل .. البلد اليوم في خطر من الإرهابيين، والواجب الوطني يحتم عليك الدفاع عنه .. فما تقول ؟!

فكر في نفسه : كيف أقاتل إخوتي الثوار ؟ وكيف أشارك جيش الدكتاتور الذي دمر وقتل وشرد ، ووجد نفسهيصرخ عن غير وعي  :

لا .. لا .. هذا لا يمكن ... أبداً !!

هز الضابط رأسه مهدداً وأخرج مسدسه وصوبه إلى رأسه وقال له :

هكذا إذن !! لقد ظهرت نواياك يا ابن الحرام !!

ودوت رصاصة .

وسوم: العدد 700