مراهقة في السبعين !

د. أحمد محمد كنعان

بلغت ثورة السوريين ضد الدكتاتورية عامها الخامس، وبلغ "أبو جاسم" عامه السبعين، وبلغت الساعة الحادية عشرة ليلاً فقام إلى سريره لينام، وفي طريقه إلى السرير تريث عند المرآة ونظر إلى وجهه وشاربه المعقوف على طريقة "أبو زيد الهلالي" فردد يزهو بنفسه  :

قال سبعين .. قال ! مستحيل !! والله شاب ابن عشرين

مسح طرفي شاربه باعتداد، وتابع طريقه إلى السرير وهو ينادي زوجته غناءً :

أم جسام  .. أم جسام ..  بدنا ننام .. بدنا ننام !!

فردت عليه غناءً تحاكي غناءه :

جايه .. جايه .. يا راسي .. يا روحي .. ويا تاج راسي !

دخلت عليه وهي تمسح العرق عن جبينها، لمح التعب في وجهها فسألها:

خير حبيبتي.. ما لك ؟! شايفك تعبانة .. شو عم تعملي ؟! حضّرت شوية أكل على طلب الأولاد منشان بكره .. بكره !! شو فيه بكره ؟! ما الأولاد كل يوم عندنا ؟!

ضحكت ودارت في الغرفة ترقص وقالت في دلال :

بكره .. عيد ميلاد حبيبي .. عيد ميلادك .. يا تاج راسي .. والأولاد حضروا كل شي ليعملوا لك  عيد ميلاد مطنطن  ! عيد ميلاد مطنطن ! شو جنيتوا ؟!! عيد ميلاد مطنطن والناس يقتلون ويذبحون في كل مكان ؟!!

قالت وقد توقفت عن الدوران :

يا عمري .. الناس يقتلون من خمس سنين ، والحرب طويلة كما ترى .. والحياة لا بد أن تستمر !!

رد باستنكار :

تضرب هيك حياة !! هذا النظام الخاين يريد ان يقتل كل شيء ، ويدمر كل شيء ! فكيف تريدون أن نحتفل ؟!!! هذا لا يمكن أبداً، لن نحتفل والناس تحت القصف والقتل .. اللهيرضى عليك .. اتصلي بالأولاد وقولي لهم لا يحضروا شي ولا يشتروا شي .. ويبعثوا المبالغ والهدايا التي خصصوها للاحتفال إلى أهلنا المحاصرين في الغوطة وفي حلب !! الله يتقبل منك .. يا تاج راسي .. والله هذا عين العقل .. سأتصل بهم .. الله يطولنا بعمرك .. هكذا أنت دوماً تنسى نفسك وتفكر بالآخرين .. دوماً أنت صاحب فضل !! يا بنت الحلال .. هذا من فضل الله وحده .. وهؤلاء المحاصرين أهلنا وربعنا .. فهل نتركهم للموت؟!! ثم .. أنا كما ترين صرت على حافة قبري .. فبماذا أحتفل !!

ضربت على صدرهامفجوعة بكلامه، ورفعت كفيها إلى السماء تضرع :

الله يطول بعمرك .. يا عمري .. بعد الشر عنك .. دعنا من حديث القبر والموت .. شو سبعين سنة !؟ والله شايفتك ابن عشرين !!

انبسطت أساريره وهو يسمعها تصفه بابن العشرين فسارع وأخذها بين ذراعيه وحملها إلى السرير، وهي تحاول في دلال أن تتملص وتقول :

نزلني .. نزلني الله يرضى عليك .. نزلني .. خايفة على ظهرك .. نزلني يا تاج راسي .. يا روح الروح !! ظهري بخير .. لا تخافي ( وضمها إلى صدره وقبلها وأضاف ) بس الله يرضى عليك .. شويه شويه عليّ .. فأنا لا أحتمل كل هذا الغزل الذي يقطر عسلاً !!

ضحكت بين يديه فعاد يقبلها في جنون، ودسها في السرير تحت اللحاف واندس إلى جانبها، فغطت نفسها عنه باللحاف لعله يتركها وقالت بنبرة مدلة :

الغزل .. راح علينا .. يا حبيبي .. خلاص .. نم الآن .. ولا تلعب بأعصابي الغزل راح!!؟ مين قال ؟! ثم هل أنا مجنون حتى أنام بعد أن سمعت منك هذا الغزل الذي أعادني خمسين سنة الى الوراء !!

ضحكت بانبساط وردت تقول :

صدقناك .. رجعت خمسين سنة، لكن دعك الأن من هذه الحركات، ونم .. ودعني أنام .. الله يهديك .. عيب علينا بعد هالعمر ؟! بعد هالعمر ؟! أي عمر ؟! ألم تقولي إني ابن عشرين ؟! والله .. وما لك عليّ يمين .. عندما أسمع كلماتك وصوتك مثل الحسون أرجع إلى أيام الشباب  .. أيام الخطبة .. أيامالمراهقة .. أم نسيتي ؟!! !

قالت وهي تضحك :

أنسى ؟!! وهل يمكن أن أنسى أحلى أيام حياتي !! سقا الله تلك الأيام ( واصطنعت  الوقار مضيفة ) لكن هلأ .. الله يهديك .. نم .. ودعني أنام !!

قال :

الله يهديني ؟! ولكن .. كيف أنام بعدما سمعت منك ما سمعت !!؟ لا تشغل بالك .. غداً تسمع أحلى وأطيب .. والآن نم .. يا حشاشة قلبي .. الله يرضى عليك !!؟ الله .. الله .. حشاشة قلبي ؟!! من أين تأتين بهذه الكلمات التي تجعل أيامي أنساً وحلاوة ! لا إنس ولا جن .. نم الآن .. ولا تجنني ؟! طيب .. أمرك ستي .. رح نام !!

غطى رأسه باللحاف يتظاهر بالنوم ، وراح يتحرش بعتمتها .. فأبعدت يده في دلال واستحلفته أن ينام ، وأحكمت اللحاف حول نفسها لعله يكف، لكنه استمر .. فيما انطلقت في الخارجأصوات اشتباكات بالرصاص تتخللها أصوات انفجارات، فتوقف عن تحرشاته، وهب من السرير .. أسرع إلى بندقيته، وهمّ بالخروج، لكنها صرخت خوفاً عليه :

أرجوك .. لا تطلع !! تعال .. لا تطلع!!

ورأت أن تغريه بالبقاء فكشفت اللحاف عن نفسها وكشفت عن ساقها كما كانت تفعل أيام المراهقة، ودوى صوت انفجار، وانهار السقف واضعاً النهاية لمراهقة عجوزين أنساهما العشقخطر الحقد الذي خيم على الدنيا من حولهما !!

وسوم: العدد 700