لله دَرُّهُ.. كمْ هو مِذْوِقٌ؟!!

التقيتُ به في بيت أبي زِنَّاد..

على غير ميعاد..

كان الطعامُ على الغداء..

كنت قد سمعتهم كثيراً يتحدثون عنه، فقد كان مسؤولاً في الديوان، مع أنه من أبناء جلدتنا..

كان هذا منذ زمان عندما حَثُّوه على تناول المزيد، فأثنى عليَّ أني أهتم به، مع أني لم أفعلْ إلا ما تعارفَ عليه الناسُ في مثل هذه المناسبة، رفعاً للعتب.

فلفت بصري..

واستوقف نظري..

وضعتُـهُ تحت المراقبةِ.. مراقبة عقلي ومشاعري وردود الفعل عندي فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال، فإذا الرجلُ يَـخْطِمُ كلماته، فلا تصدر منه كلمة نَابِيَـةٌ، أو لفتة متهمة، أو التفافة آثمة..

لله دَرُّهُ..

على صغر سنه قد ملك أكثر من قلب في جلسة واحدة..!!

أين دَرَّب نفسه؟!

كيف عرف طريقه؟!

كيف ملك بريقه؟!

هل ورث هذه الخصال؟ أم أن الوراثة ليست منه على بال؟ إِنْ هي إلا دُرْبَة الحال الذي فُرِضَ عليه، فهو يتعامل مع الرجال، وأي رجال؟... من بيدهم الْـحَوْلُ والطَّوْلُ.

انتقلنا إلى مجلس الرجال لنتعاطى الشاي والقهوة..

الرجل تحت مراقبتي الشديدة..

التزمتُ الصمتَ، وتهربتُ من أسئلتهم، وأنا ابن بَجْدَتِهَا، لأُتيح له الكلام، وأُتيح لِحِسيِّ امتصاص هذا الخلق الرفيع، لعلي أتتلمذُ عليه دون أن يدري.. فهو أصغر سناً مني!!

ما زال خط الصعود متصلاً، تصرفاته طبيعية، لا تشعر بالتكلف منه، أعماله وأقواله لا تحتاج إلى مزيد من التفكير منه..

لله دره!!

عندما انفض مجلسُنا قررت أن أجعله أستاذاً لي، وأُستاذيته لا تكون في كُتُبٍ ولا خَطٍّ مرسوم، وإنما هي المرافقة.. المرافقة.. لعل الحافرَ يقع على الحافرِ، ألم يقل ابن الـمُقَفَّعِ عندما سُئِلَ: من أين لك هذا الخلق؟ قال: إذا رأيتُ مليحاً أتيته، وإذا رأيُت قبيحاً تركته..

لله درهما!!

أَتَقَصَّدُ الأماكن التي ألقاه فيها.. وإذا أَعْوَزَنِي طولُ الفراق سألتُ عنه.. أخباره.. وأنا كالإسفنجة أمتص كل ما يُلقى إليَّ من هذه الأطايب الخُلقية، وتستهويني قمم الأخلاق، وتَشُوقُني مكارم الرفاق.

أخذت أَقْرِنُ الحسنةَ بأختها، فما يصدر عنه طيبٌ، ولا بد أن يكون لديه من الطيبات الكثير، حتى كدتُ أتخيلُ أنه خيرٌ كُلُّهُ، لا يعرف الأخطاء، ولا الأخلاق السيئة، ألم يقل عروة بن الزبير: « الحسنة تدل على أختها، والسيئة تدل على أختها ».. بل قلت في نفسي: إِنَّ هذه الرقة المتناهية لا بد أن يكون خلفها إحساس مرهفٌ بإنسانية طافحة، وأنا بطبعي أعشق كل من كان أميل للإنسانية، لأنها المعدن الأصيل الذي إليه نوؤب كلما اشتدتْ بنا الخُطُوبُ، فالقبر غداً لن يُفَرِّقَ بين غني وفقير، والدود لا يعرف العظيم من الحقير، سيرعى الجميع بلا استثناء، ولن يبقى منا إلا « آثارنا » وما صنعت أيدينا.

وكلما طالت فترة انتظار لقاء أفسحتُ المجال للخيال، فَيَنْسِجُ له عقلي من كريم الخصال ما يستحيل أن تجتمع في رجلٍ واحدٍ، لكنه الإعجابُ والحبُّ اللذان لا يقبلان أي غمزة في قناةِ خُلُـقِهِ الرَّفيع، أو حتى تَوَقُّع أن يكون في خُلقه شيء وضيع، كما قال شاعرهم:

وعينُ الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ       وعينُ السُّخْطِ تُبدي المساويا

  كان من عادتي أن أزور مركزهم بين الفَيْنَةِ والأخرى، وفي إِحْدَى الجلسات أُثير موضوع عمال المزارع، وما يلاقونه من حَرٍّ شديد، ونحن الجالسون في نعيم التبريد، فالمكيفات تصدح بهديرها، وتنفث نعيمَهَا، وتُلقي إلينا بأطايبها..

أولئك يعملون تحت وطئة العرق، المتصبب من أجسادهم بنزق، فالشمس الحارقة لا توفر أحداً، وعملهم يبدأ منذ الصباح الباكر، يستريحون إذا اشتد الحر، وتَعَامَدَت الشمسُ في السماء، وتَعَمَّدَت أن تفقدهم ما في أجسادهم من ماء، وقد يعودون للعمل إذا طَفَلَتِ الشمسُ، لكن هيهات لهذه الأجساد أن تستريح والرطوبة لهم بالمرصاد حتى أنهكت منهم العناد..

أن تتكلم عن مكيف.. من الترف غير المتفق عليه...

أن تتحدث عن شيء من الراحة.. فليغير هذا جيء بهم من بلادهم..

فليناموا في ليلهم القائظ تحت السماء يرعون النجوم، إذا بقي في عيونهم فضلة سهر، ولترخِ الرطوبةُ بُصَاقَها عليهم من آخر الليل فتبلل ثيابهم، فإذا هبت نسمـةٌ هاربةُ من مكان بعيد بَرَّدَتْ هذه الثياب، فتتلطف أجسادهم لدقائق قُبيل هجوم الشمس في اليوم التالي.

إذا بقي شيء من طعامهم- وهذا شيء نادر- تَلِفَ خلال ساعتين، فالحر لا يدعه يستقر، وتعمل « السلمونيا » فعلها فيه، وَصْفَةٌ للتسمم مَـجَـرَّبَةٌ، وخطوة للانتحار بغير تهمة، ومصيبة لا تحتمل الانتظار، والطبيب بعيد.. بعيد..

كم تلف لهم طعام.. كم استعصى عليهم منام.. كم ساكنهم ظلام، ظلام الروح أشد من ظلام الليل.. يا هذا لك الويل؟ كيف قبلتَ؟ لقمة العيش..

مرارتها..

قسوتها..

أولادك الْـمُقَطَّعُونَ شوقاً إليك..

زوجتك الـُمَفْطُورَةُ لهفةً عليك.. تُداهمها(.....) فتوقظ الكامن في أعماقها، فتتحصن بالصبر حياءً..

وأنت تتدثر بالذل عناءً..

إرجع يا هذا..

فَرَبُّ هنا.. رَبُّ هُناك..

أغمضتُ عَيْـنَيَّ ألماً، أَمْتَحُ من بئر أساي شيئاً من الموقف..

هل انتهى دوري « بمصمصة » الشفاة حسرةً عليهم؟

وبث « لا حول ولا قوة إلا بالله » في ثنايا كلامي؟

وكان الله بالسِّرِّ عليماً..

حاشاك يا شيخُ..

حاشاك أن تقف هذا الموقف -على عجزه- وقد أنعم الله عليك، فَأَدِّ زكاة علمك.. وجاهك..

كالرائحةِ الطيبةِ تُسعفنا الذاكرةُ من جُبِّ خزينها بما احتفظنا به فيها..

صاحبُنا الإنساني قَيْدَ خطواتٍ مني.. والـْمَزَارِعُ تخص سادته، والأمر برمته وفق إرادته، لماذا لا أزور هذا الطافح بالذوق والإنسانية، فأُجَدِّدُ العهدَ به.. أُكلمه.. لعل عنده- وأنا على يقين أن عنده- فهو المسؤول الأول عن ذلك- ما يخفف عن هؤلاء، ألستُ أخطب وأُحَدِّثُ، وأعظ وأوجه، ولطالما قلت في ثنايا كلامي: « مَنْ كَانَ وُصْلَةً لِأَخِيهِ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ فِي مَبْلَغِ بِرٍّ، أَوْ إِدْخَالِ سُرُورٍ رَفَعَهُ فِي الدَّرَجَاتِ العُلَا مِنَ الْـجَـنَّـةِ ».

هي كلمة عجلى!!

وليسامحني أحمد بن حنبل..

يا شيخي الجليل؛ اليوم ليست نفسي أولى بي!!

اسْتَمِيحُكَ عُذراً..

دعني أبذل لهم شيئاً منها، لعل قدماي تثبتان على الصراط في طريقي للقياك، فأفرح بك وتفرح بي.

تسلحتُ بالأمس، وتَحَصَّنْتُ بالشوق الشديد له، وتَدَثّرْتُ بابتسامة ولهفة المحب الصادق..

دخلتُ..

سَلَّمْتُ..

فَرِحَ..

فَرِحْتُ..

أخذتُ مقعدي..

ونثرتُ أسئلتي عن الحال والأحوال والأولاد وأخبار البلاد وكل ما يخطر على البال في مثل هذه المناسبة، وانتهزت فرصة انقطاع الحديث بهاتف جاءه، كان واضحاً أنه من مسؤول أكبر منه، فتراكضتْ كلماتُ الموافقة.. الطاعة.. حاضر.. حاضر.. أمرك.. أمرك.. إن شاء الله.. ما يصير خاطرك إلا « طيب ».. من عيني.. على رأسي من فوق..

سبحان الله..

كيف تهيأت الظروف لطرح ما جئت من أجله..

عندما وضع السماعة على الهاتف.. ورجع بظهره إلى الوراء يَلْتَقِطُ ما بقي من نَفَسِهِ المبهور، وسرح بفكره فيما أُلقي إليه من أوامر.. تركته مع رجع الصدى الذي أحاط به لعله يسترجع قواه، فيسترجع حديثه معي.

تحينت التفاتة منه..

اتبعتُها بابتسامةِ المشوق الوثوق..

وترحيبِ جَدَّدَ ما انقطع من الحديث، واعتبرت الفرصة سنحتْ..

-           أخي أبا فلان.. أريد أن أكلمك في موضوع..

قاطعني بكلمة أتبعها بابتسامة، خطوات مألوفة معروفة.

-           آمر..

-           بلغني أن العمال في المزارع التابعة لكم..

واسترسلت في الحديث، وبدأ وجهه يأخذ ألواناً ويُرخي أخرى، كل لون يُفضي إلى آخر، استرجعَ ظهره إلى الوراء، وأحسستُ أن تَلَـبُّـدَاً قد بدا في السماء، أحاطني جو من التَّـوَقُّعِ غير المريح، ربما يكون هطول مطر، انفجار زوبعة، قصف رعد مفاجئ في عز الصيف!!

رأيت من الحكمة عدم الاسترسال في التفاصيل، وقد ارتسمت على وجهه كل علامات التحدي في انتظار أن أفرغ من كلمتي.. فاستعجلت الفراغ..

وفرغتُ..

ونظرتُ...

وانتظرتُ..

مال بجذعه إلى الأمام، وأسند جسَدَهُ إلى مرفقيه مُـتكئاً على مكتبه، وانفجر السَّيْلُ زَبَداً رابياً..

-           نحن نهتم بهم وتعطيهم فوق حقهم بعد.

-           ......

-           هذه ليست مشكلة، عندهم « حِبْ »1 يضعون فيه الماء.. ويشربون..

-           ......

-           هذا مستحيل.. أنا عندي ثلاثون مزرعة، ومئات العمال.. هل أضع في كل مزرعة ثلاجة؟! كم يكلف هذا؟!

-           ......

-           حتى ولو.. الشيوخ كرماء نعم.. لكن لا أُبَدِّدُ أموالهم فيما يمكن الاستغناء عنه..

-           ......

-           نعم.. يمكن الاستغناء عنه.. يأكلون طعامهم أولاً بأولٍ..

-           ......

-           في مستشفيات يتعالجون فيها..

-           ......

-           وإن شاء الله أيضاً يريدون مكيفات هوا... هذا الناقص!!

-           .....

-           والله عَقْدُنَا معهم على هذا.

-           .....

-           الذي لا يعجبه يعود إلى بلاده..

-           .....

-           لا، بل نُدَفِّعُهُ ما خسرناه عليه..

-           .....

-           هذا ما هو شُغْلنا، ولا اهتمامنا..

-           .....

-           إيش دخل الشيخ فلان في الموضوع؟ أنا الوكيل.. ولا نريد أن نُصَدِّعَ رأسَهُ بهكذا موضوعات تافهة..

شعرتُ أَنَّ الطريقَ أمسى مسدوداً، والأخ مُصِرٌّ على ما هو عليه، وأصبح جلوسي معه بلا فائدة، بامتعاضٍ شديدٍ استأذنتُ بالانصراف..

بسرعة البرق رسم ابتسامةً عريضةً على وجهه.. الوجه أصبح مُضِيئاً.. ليس الوجه الذي كان منذ ثوان.. أَصَرَّ على توصيلي إلى باب مكتبه مُشَيِّعَاً، فارداً  ذراعيه، مُـمَهِّدَاً الطريق لي باحترامٍ مبالغٍ فيه..

خرجتُ..

إلى أصدقائي في المكتب المجاور عدتُ..

على أول مقعد طرحت جسدي وتهالكتُ..

كان وجهي عُنواناً لرسالتي، فقرؤوا ما بين الجفون..

احترموا صمتي..

سكتوا فلم يسألوا..

وسرحتُ فيما أَحْمِلُ من ذكرى.. وهاجمتني الأسئلةُ الجوانيةُ، تَنْفِضُ غُبار نفسي، وتُبَعْثِرُ قناعاتٍ كانت من رصيد الأَمْسِ *

1- الحِبُّ بكسر الحاء: الزير.

وسوم: العدد 700