أم البنات

سلمت على الحاضرات وجلست في مكاني المعهود قرب النافذة ، وبجانبي حوض السمك الصغير الذي كنت ألوذ بالنظر إليه والتمتع بخلق الله كلما ضقت ذرعاً بحديث من أحاديث الجارات التي لا تروق لي أحياناً ..

دخلت الغرفة تلك الامرأة في مستهل الأربعينيات من عمرها .. ممشوقة القوام وعلى وجهها ابتسامة سمحاء لطيفة كانت تحمل حقيبة متوسطة الحجم عرفت فيما بعد أنها عينات لبضاعة تأتيها من لندن وألمانيا وكندا فتبيعها للجارات والصديقات والقريبات .. سلمت علينا بود ولكن هذا الود بدا جافاً حين سلمت على إحداهن (أم رياض) .. استهجنت تصرفها .. فهي لا تعرف منا إلا صاحبة المنزل التي دعتنا لنشتري منها معروضاتها .. ومن حديث لحديث قالت بمرح :

ـ كانت النسوة كلما ولدت لي بنتٌ جديدةٌ يأتين إلي ويواسينني بكلمات سمجة مثل : الله كبير وقادر يجبر خاطرك .. الله كريم وقادر يعوضك .. ولكنهن ما عرفن أنهن كنّ يطعنّ قلبي طعناً ، لقد كانت كل بنت تأتي إلى هذه الدنيا بمثابة هدايا وعطايا إلاهية حبيبة .. كنّ يشعرنني بأني أرض بور جافة لا خير فيها وأن الخير إنما يأتي بمولد الصبي .. وكأن البنت عاهة أو عار لا قدر الله ..

قالت أم رياض التي سلمت عليها ببرود :

ـ أنا يا زهرة لا أحب البنات ولذلك ربنا ما رزقني إلا بنتاً واحدة وخمسة من الصبيان ..

قالت زهرة :

ـ كرهك للبنات لا يعطيك حق الندب فوق رأسي كلما رزقني الله بنتاً .. وهؤلاء بناتي السبعة درسن كلهن في الجامعات ثم تزوجن كلهن إلا واحدة تدرس الهندسة الآن .. وما رأيت عزاً في حياتي بقدر العز الذي رزقني الله إياه بعد تخرج البنت الأولى من الجامعة واشتغلت في شركة هندسة كبيرة وبراتب عالٍ ثم تزوجت وهاجرت إلى لندن ثم أختها الثانية والثالثة وهكذا وكل من تهاجر منهن إلى بلد لا تتوانى في إرسال الهدايا التي كانت تزيد عن حاجتي فصرت أبيعها للجارات والقريبات ثم اتخذتها حرفة أنتفع منها وكلما عرضت عليهن أن أدفع ثمن هذه الأشياء ، ازددن عطاءً وحباً وبلا ثمن ..

قالت صديقتها أم رياض :

ـ وهل نسيت كم ضحيت واشتغلت بالحلويات وكم كنت تسهرين الليالي لتبيعي قالب حلوى لتكسبي بضعة دنانير لتضعي الدينار فوق الدينار فتجلبي لهن ما لا يقدر والدهن على جلبه من اكسسوارات وملابس وأحذية .. أما أنا فكنت أم البنين المدللة ولكن الدلال يا أختي عمره قصير فلم يفلح من الشباب الخمسة إلا اثنان وبدأت مهمة الأب الشاقة في البحث عن عمل لهم ومن ثم تزويجهم .. الآن عرفت قيمة ابنتي الوحيدة التي تزوجت من أول عريس طرق بابها لتهرب من قسوتي عليها لتساعدني في أعمال البيت وخدمة الشباب ..

قالت زهرة :

ـ يا أختي هن الأنيسات المؤنسات .. هن المحننات لقلوب الرجال ..

همهمت جارتي بقربي وقالت :

ـ سبحان الله الزمن دوار .. كانتا مقربتين جداً وكانت زهرة تنجب البنات وصديقتها تنجب الصبيان ومن شدة خوفها من عين زهرة قطعت علاقتها بها والآن انظري زهرة كيف تزهو كالزهرة بينما (أم رياض) صارت الحجة أم رياض وهي في بداية الأربعينيات ..

ابتسمت وأنا أسمع زهرة تقول لأم رياض :

ـ أنا أوصلك بسيارتي إلى البيت ولا يهمك لا تقلقي لأن ابنك لا يرد على هاتفك .. 

وسوم: العدد 701