قاعة التشريح

عندما قدمت امتحانات الثانوية العامة الفرع العلمي كانت إجاباتها صحيحة وتامة بما يقارب المائة بالمائة, وعند إعلان النتائج كان معدلها عالياً وقد صنفت من الأوائل، مما أهلها لدخول كلية الطب البشري في جامعة دمشق.

فرحة غامرت قلوب أهلها لهذا الإنجاز.. إنما دون زغاريد أو احتفال بها, وبلا توزيع الحلوى.

إذ أنه في تلك الآونة بينما كان شقيقها متوجهاً ذات صباح إلى عمله فقد طار به الحاجز الملعون إلى عالم المجهول,اختفى الشاب على حين غرة ولم  يعد أحد يعرف عنه  شيئاً.فجعت العائلة بالحدث المقيت..غطى الحزن الذي ألم بهم على الفرحة التي كادت تلامس  أرواحهم بسبب نجاحها وتفوقها.

هي فتاة في العشرين من العمر حالياً و أخوها عُمَرُ يكبرها بسبع سنين, قبل أن يذهب إلى سجن صيدنايا المشؤوم كما جاءهم خبر غير موثوق, كان يرعاها ويعطيها المصروف وما يلزمها مشجعاً إياها لكي تتابع دراستها.

قد فقدت عزيزاً عليها وعلى جميع الأسرة.. وسنداً لها ليس بالقليل, محبتها له فائقة.. بفقدانه كُلم قلبها مثل قلب والدتها, الأم مصممة على رؤية ابنها بأي ثمن حتى لو كان باهظاً.

اضطروا مرغمين غير راغبين لبيع جزء من أثاث بيتهم كي يكملوا  مبلغ الأتاوة التي طلبها السمسارأو- الضّلال- ليمكنهم من رؤية ولدهم, دون جدوى.. فقد ضحك عليهم بخدعة دنيئة مارسها عدد من فاقدي الضمير.. منحطي الأخلاق والقيم.

كلية الطب البشري القائمة على مشارف (أوتستراد) المزة, ذات مبنى فخم ورائع.. ساحاته الخارجية أيضاً واسعة ومريحة.. رغم ذلك فإن خلود تحس بالضيق والانقباض وقد صارت في السنة الثانية طب، على مضض تتوجه خمس مرات كل أسبوع لحضور المحاضرات.. ربما تتوجس خيفة من الطريق فهذا العصر قد أمسى ليل بهيم لا يدري المرء ما ينتظره عند كل ناصية وخلف أي منعطف.. المشي في الشوارع خطير ومقعد الدرس عسير.. ثم منعرج العودة إلى البيت غير يسير.

تواظب على حضور أغلب المحاضرات, أما درس التشريح تكرهه ولا تحب حضوره, يُحضرون لهم الجثث البالية المتعفنة غير محنطة.. تفوح منها رائحة كريهة, حتى منظر الأموات لا يروق لها رؤيته.

أما درس اليوم فقد جاءهم المقيم في قاعة التشريح يبشرهم:           - الجثة هذه المرة طازجة.. لا رائحة تزكم انوفكم.

ثم يطلق ضحكة ساذجة, توافد الطلبة بالتتابع على القاعة الميمونة, كل واحد اتخذ مكاناً يناسبه.. أما هي فقد ضاقت بها القاعة على اتساعها، لشد ما تتشائم من هذا الدرس.. ألا ليتهم نسّخوه من التخصص.. ما لزومه؟! وهل سيكونون في المستقبل جراحين؟ تسائل نفسها ولا تتكلم مع أحد سوى هواجسها.

تقدم الأستاذ يحييهم ويدعوهم للتحلق حول طاولة التشريح قائلاً:

-        صباح الخير.. تعالوا هنا, يشير بيده:

-        هه.. انبسطوا اليوم.. درس تشريح ممتاز. جاءنا واحد طازج.. حلو.. ما فيه أحسن من كذا جثة.. أنتم اليوم محظوظون هه.. هه...

أرسلت ناظريها نحو المنضدة, جثمان لف برداء أبيض, الفني بدأ فك الأربطة.. تحلق الطلاب وهي معهم لكنها متثاقلة غير راغبة.. ليس لها حيلة عن ذلك.. أصبحت الجثة عارية تماماً لفت انتباهها عدة كدمات غطت مناطق من الصدر والعنق والكتفين.

يا إلهي ما هذا الذي تراه!!.. شيء فظيع, تقدمت أكثر راحت تمعن النظر جيداً محملقة فيه, القفص الصدري كاد يخرج عن الجلد من شدة ضمور الجسد المسجى أمامها الآن, إنها تعرفه.. وتعرفه جيداً.. هو شقيقها ( عمر ).. عمر بالذات الذي افتقدته منذ ثلاث سنوات.. يا إلهي.. قد قضى تحت التعذيب...

ويلهم.. كم نكلوا به حتى صار جثة عجفة.. طار عقلها من رأسها.. زاغ بصرها.. لن تستطيع الاستمرار على هذا المشهد المزري.. وقد أحست بمشارط التشريح تمزق قلبها.. تقطع أحشاءها هي.. بدل النجيع المسجى أمامها..روحها.. قلبها.. كل شيء فيها يتمزق.

ساقاها لم تعد تحملاها.. أخذتها الرجفة, ثم سقطت على الأرض.

حملوها بعيداً وعملوا على إنعاشها.

*    *    *

عادت إلى البيت يركبها الهلع وتمازجها حالة رعب مستطير, إن ما حدث اليوم مستحيل أن يكون حقيقة, كأنه حكاية وهمية  من نسج الخيال.

 لا يمكن لها أن تنسى أو تتناسى ذلك المنظر المثير, لا يفارق مخيلتها ولا ينثني عن ذاكرتها.. شقيقها الغالي الذي رعاها ردحاً من الزمن الماضي.

إنها متعبة إلى حد الإرهاق.. من الباطن والظاهر, دون أن تكلم أحداً, ألقت نفسها على فرشة أرضية إلى أن ذهبت في نوم عميق لا يخلو من هواجس وأحلام مزعجة.

أمضت أيام الحزن والعزاء مع أسرتها المكلومة مغرقة في صمت وذهول, ثم أتبعتها أسبوعاً آخر مقيمة في الدار مع تصميم على أن لا ترجع إلى الكلية.. وأن لا ترى قاعة التشريح المشؤومة..

وسوم: العدد 704