رمضان في الحارة

مـصـعب محمد الشيخ ويس

اقتربت الشمس من مغربها ، شهر حزيران يطول فيه النهار وصيامه يعتبر مشقة كبيرة على طفل في العاشرة  و لارتفاع درجة الحرارة أيضاً .

 للدار العربية نكهة خاصة في الصيف حيث يتم تجهيز أرض الديار قبل المغرب  فغسيلها كل يوم ضروري  أما المراتب مع (مخدات ) قاسية لتمكين الجلوس ضرورية لأفراد العائلة .

جلس جميع الأبناء حول مائدة الطعام المشكّلة بأصناف متنوعة الألوان والمذاق ، الجميع يهمسون بأدعية لا أحد يسمعها ، وهم على هذه الحالة لمَعَ ضوء كالبرق ، صاح عبد الله :  ضرب المدفع .!

أجابه الأب : لا أحد يأكل حتى نسمع صوت المؤذن ، ثم أردف ومن كان مفطراً من الصغار فلا يجلس مع الصائمين .

بهذا القرار كان عبد الله يجلس متمكناً حيث أنه من الصائمين هذا اليوم  ثم  أرسل نظرة سريعة إلى أخته التي تصغره كأنه يقول لها قومي لأنك غير صائمة  ، لكن الأم عدّلت قرار الطرد بأن شهدت لفاطمة أنها صامت

( درجات الجامع ) والمسكينةَ  (هلْكتْ) من الجوع .!

انشغل أفراد العائلة بالطعام عند أول كلمة من المؤذن ، و بعد صلاة المغرب قُدمتْ الشاي للعائلة ، بينما خرج عبد الله إلى الحارة ببعض الحلوى الرمضانية  اشتراها منذ الصباح ، فلكل صائم منهم قطعة نقدية من أبيه تشجيعاً لصيام يوم الغد ، أصوات أولاد الحارة تملأُ الأزقة حيث اتفقوا على فريقين (عسكر وحرامية) .

انتهت صلاة التراويح بعد العاشرة مساءً ، جلس الرجال على الأرصفة يتسامرون ، حيث كان عطش النهار والحرمان من الدخان أحد أهم  عقبات رمضان في أحاديثهم .

ذهب عبد الله إلى دكان عمّه ، الرجل الذي يجتمع عنده  شيوخ  الحارة ويسمع  منهم قصص مسليّة تجعله يطير في عالم من الأحلام التي لا تنتهي.

الحاج عثمان كان رجلاً له جاذبية تجعل أشياخ الحارة  يحبون مجالسته ومسامرته ، أخبار النهار وأحداثه تأتي إلى دكانه مع التحليل ولكلٍّ من جلسائه طريقة سرد مختلفة عن صاحبه ، لكن استفهام  أبو عبود كان له وقع خاص على سمع عبد الله ، ذلك أن أخيه  كان مختفياً عن الأنظار والمخبرين يتصيدون الفرصة ، قال أبو عبود للحاج عثمان :

- لم يظهر ابن أخيك بعد .؟ هذه الكلمة جعلت الجميع يصمت وينتبه لكلامه لأن أبو عبود هو جاسوس الحارة لشعبة الحزب.

- لا نعرف عنه شيء فمنذ ستة شهور لم نراه ، كانت نظرات الحاج عثمان حاسمة في وجه مخبر الحارة حتى لا يفتح مزيد من أسئلة .

وحتى ينهي الحاج عثمان المجلس ليطرد أبو عبود من الدكان قال لابن أخيه بلهجة حاسمة :  عبد الله ، أرض الدكان تحتاج كَنْسْ هيا بسرعة نظّفها لتذهب إلى أهلك قبل أن تفتقدك أمك.!! هذه العبارة مفهومة لأهل الحارة فهي لغة مبهمة يفهمونها  بدون مزيد شرح ، بأن شخصاً ما يجب طرده .  

عاد عبد الله إلى المنزل  لكنه لم يجد أمه وأخته الكبرى  ، ففي ليالي العشر الأولى لا بد من مباركة قدوم رمضان بين الجيران فهذا أمر ضروري بين النسوة ، ولمّا جلس بأرض الدار الكبيرة  كانت نسمات الصيف تمر فوق جفنيه هادئة لتطبق جفنيه الصغيرين فغــطَّ في نوم عميق .

أخبر عبد الله بما سمع في دكان عمّه عن سؤال مخبر الحي وكيف تعامل عمّه مع الموقف بكل حزم.

كانت أم عصام تترقب أي خبر عن  ولدها المطلوب للمجرمين !! وتخشى من أي شيء غير متوقع فقد سمعت عن صديق ولدها كيف أنه استشهد في عملية ضد المخابرات عند تل بطنان ، وكيف أنه كان ينتظر نتيجة الثانوية العامة فدهمت فرق الوحدات الفاجرة البستان الذي يختفي فيه ولكنها لحظات وَقعَ مضرجاً بدمائه الطاهرة ، وكيف تم تعتيم الخبر عن أم محمود حتى لا تفجع فيه وهو في زهرة الشباب ، كل هذه الخواطر كانت تخيف أم عصام عن ولدها عمّار المختفي ، مع ذلك كانت حزينة بدون إظهار هذه المخاوف لأبنائها .

يمضي رمضان في الحارة القديمة  عند الأولاد سريعاً فكل يوم له ترتيب جديد وزيارة غير متوقعة من أهل الحي ولأن ليل الصيف قصير فإن السهر فيه أمر مقبول .

ها هي ليالي التحضير للعيد بدأت ، الجيران يتجّهزون لمساعدة بعضهم في صنع كعك العيد ومعمول التمر ، وفرن الحارة يستمر في العمل حتى في النهار ذلك  أن بيوت الحارة لا يوجد فيها أفران لتحضير هذه المعجّنات ، يسير الأولاد طوابير وصاج الفرن فوق الرأس منتظمين .

غداً يوم العيد أعلنته الإذاعة ، فرح الناس إلا أم عصام كانت دموعها تتسارع على وجنتيها ، بكت بحرقة كيف سيكون العيد بدون عمّار .؟

بأي حالٍ عُدتَ يا عيدُ ، رددها قلبها الحزين ، وقبل غروب شمس آخر يوم في رمضان عام 1980 قالت لابنتها ثناء : (ملائكة ) أخيكِ تحوم في بيتنا مع ابتسامة مشرقة ملئت ثغرها وكأنَّ إلهاماً غريباً دفعها لقول هذه الكلمات وفي الحقيقة يصعب ذلك لأن المخابرات محتاطة لكل شباب المقاومة والاستنفار الأمني على أشده ذلك أن نشاط الثوار كان في أقصى حالاته .

 نام بطلنا الصغير عبد الله يترقب فجر يوم العيد بينما كانت العائلة متوزعة المهام  ، وقبل شروق الشمس بدأت تكبيرات العيد تصدح بالحارة العتيقة استيقظ الأولاد ولم يجدوا أمهم على عادتها كل عام في مثل الوقت تحضّر أكل العيد ، وقبل الساعة الرابعة فجراً سمع الجميع هبوط أقدام فوق سطح المنزل هدأ الجميع ، فمن ذا الذي ساقه حظه العاثر من اللصوص في هذه الساعة ، اشرأبت الأعناق إلى الدرج النازل من السطح وإذ برجلٍ مسلح يهبط ارض الديار بكل خفةٍ  وسط ذهول وترقب من الجميع كشف لثامه وإذ به عمّار الثائر .!

انفجرت أمه بالبكاء وأبكت معها ابنتها ثناء وسط فرح وصدمة أخوته .

حدثها سريعاً عن عبوره أسطح البيوت حتى وصل إلى بيتهم ، طلبت من الجميع عدم بث أي خبر عن قدومه ، نهضت أم عصام بكل نشاط وحيوية قائلة لأبنتها حَسْنَة:

 قومي إلى المطبخ معي ، الآن صار عندي بدل العيد عيدين.

وسوم: العدد 708