ليلة القبض على أسعد

د. أمان الدين محمد حتحات

في ساحة مبنى قديم متهالك جُمِّع صبيةٌ مراهقون من أرباب السوابق؛ لأخذ فسحة من التنفّس، أو الراحة، وهي وقت لا يتعدّى نصف الساعة يمنحه المساعد أبو أحمد لكلّ المجمَّعِين عنده في مدرسة رعاية الأحداث، عدا المذنِبين الذين يعصُون أوامر الإدارة، أو يرتكبون مخالفات مهما كان نوعها، إذ يُخْضِع أبو أحمد هؤلاءِ لنظام خاصٍّ من الفسحة لا يخلو من فنون الضغط النفسيّ والاضطهاد.

 يُدخِل أبو أحمدَ نفسه داخل كرسي من الخيزران له مَسْندان جانبيّان، يرمي زنديه الضخمتين المترهلتين عليهما، ويتّخذ مكاناً قصيّاً في غرفته في "العلّية"؛ ليكون مشرفاً على باحة المدرسة، ممسكاً بيده عصا اعتاد أن يلوّح بها على الدوام، مستخدماً صوته الذي يبالغ في تخشينه؛ ليزرعَ الرهبة في النفوس، وليضبطَ هؤلاءِ القرودَ الذين شيّبوه قبل الأوان.

 كان لأبي أحمدَ فريقُ عمل من رجال الشرطة مهمتهم ضبط الأمن في المدرسة، بالإضافة إلى الأكل، وأحاديث الثرثرة في سائر الأوقات، كلّ منهم يشكو همومه للآخرين، متذمراً من غلاء المعيشة، منتظراً زيادة الرواتب، وكروشهم تكبر وتكبر...؛ لأنهم لا يتورّعون عن أكل كلّ شيء يُتاح لهم إذا كان في السرّ.

 تناثر الأولاد في تلك الباحة تناثر سِبحة انفرط عِقدها من عل فأخذت حبّاتها تقفز صاعدة ونازلة إلى أن تنزوي في زاوية من زوايا هذه الباحة المحدودة، تجمّع المراهقون في إحدى الزوايا حليقي الرؤوس، يجيدون السكوت والهمس ولغة العيون، لاسيّما إذا كان أبو أحمد أو أحدُ أعوانه قد سقط نظرُه عليهم. ماهر أكبرهم سنّاً وأضألهم جسماً وأنحلهم عوداً، وهو ماهر فعلاً في دخول البيوت من غير أبوابها، يقوى على حمل الأشياء إذا كانت خفيفة ثمينة ويجيد لعبة الكرّ والفرّ، من سطح إلى سطح أو من شارع إلى شرفة، بل من جيب إلى محفظة، ولا يُعجِزه باب مهما كان حصيناً، ولا خزنة مهما بدا أنّها مستعصية، لكنَّه سقط في الشرك في إحدى سرقاته لمّا وقع على الأرض فالتقطه بعض السيارة، وأشبعوه ضرباً حتّى وجد نفسه في مدرسة رعاية الأحداث هذه.

وكذلك فاضل فهو لا يحمل من اسمه نصيباً أبداً، فقد دفع به التفكّك الأسريّ إلى النظر لما هو فوق سنّه، فامتهن التردّد على أماكن الليل من صغره، يغرّر برواد الحانات حيناً ويستعطفهم حيناً آخر؛ ليحصل على مصروفه الذي لم يجد أهلاً يوفّرونه له، فلجأ إلى التعلّم الذاتي، وكثيراً ما كان يحمل حقائب ثياب بنات الليل، وقد يذهب معهنّ إلى البيت إتماماً لعمله إلى أن أوقعه حظّه العاثر عندما دوهم منزل إحداهنّ، وألقي القبض على من فيه ورُمي في مدرسة التهذيب والإصلاح هذه.

 في ليلة باردة ممطرة عاد المساعد أبو أحمد بعد منتصف الليل إلى مدرسة الأحداث، وقام بجولة في أنحائها على عجل، وتفقّد بما تبقّى من روح في بطاريات كشّافه الجدرانَ الخلفية للمدرسة وهي جدران تبعد مترين تقريباً عن نوافذ غرف نوم الأحداث؛ ليجد جسماً ممدّداً بين النافذة والجدار العالي، فرك عينيه ثانية وثالثة، ومسح زجاج الكشّاف من المطر بطرف معطفه السميك وعبث بالبطاريات يحرّكها على عجل، وسلّط بصيص ضوء الكشّاف؛ ليكتشف أنّ الممدّد من النافذة إلى الجدار هو باب غرفة نوم القرود، وبلمح البصر نسي وزنه وبدانته، وقفز الدرجات التي توصله إلى الطابق العلويّ قفزاً غير معهود منذ أن كان في دورة أغرار الشرطة...يا للهول لقد فكّوا إحدى فُرْضَتَيْ[1] باب غرفتهم الطويل، وهذا شأن أبواب المباني القديمة كلّها، ومدّوه بين الجدار والنافذة، وقالوا لرفاقهم أن يعبروا.

 ليلة طويلة قضاها أبو أحمد مع بعض عناصره المناوبين إلى أن استُدعِي محقّقون آخرون يستجوبون الأحداث حيث خلصت التحقيقات إلى أنّ الهاربين ثلاثة: ماهر، وهو البارع في فنون الخفّة، ومستلزماتها وفاضل الذي أدمن مصاحبة بنات الهوى، يقضي مصالحهنّ دون أن يقضيْن له مصالحه، ومعهم أسعد، وهو فتى قليل الكلام، بل قليل القدرة على الكلام، فقد ساقته الظروف إلى مكان لم يألفه من قبلُ، إذ كانت معاشرته لأولاد السوء في حارته ـ وهو الطيّب إلى حدّ السذاجة ـ سبباً جعل الأولاد يجرّون رِجله معهم مدّعين بأنّه كان معهم وقت الدخول إلى إدارة مدرسة حيّهم ليلاً عن طريق الكسر، والخلع؛ لسرقة الأسئلة وبيعها، فوجد نفسه في أحضان أولاد سوء متمرسين منذ الصغر في أمور لم يرها مع أولاد حارته السيّئين.

 خطّط المراهقون الثلاثة لهذا الهروب الكبير منذ مدّة حيث كانوا يتحدّثون باستمرار عن رغبتهم في الهرب من المدرسة فلكلّ منهم دوافعه التي شبّ عليها إلاّ أسعد فلم يفصح يوماً عما يختلج في نفسه، لقد حضّر كلّ منهم أغراضه وحاجياته خلسة، ولم ينس أسعد صرّته الصغيرة التي وضع فيها بعض الفاكهة التي كان يحلو له أن يخبّئها على الدوام.

 انتشرت عيون الأمن في كلّ مكان، لاسيما في المنطقة القريبة من المدرسة، نبشت العيون الساهرة كلّ مراتع الليل، وأماكن الازدحام وكلّ الزوايا المعتمة الرطبة في جسد المدينة الكبيرة بحثاً عن المراهقين الثلاثة، مستندين إلى إفادات بعض زملائهم التي أشارت إلى أنهم يتردّدون إلى مواطن محدّدة موبوءة، واضعين في اعتباراتهم احتمال تفرّقهم عن بعضهم بالإضافة إلى قدرتهم على التخفّي والاختباء والهرب.

 عُرضت صورهم على كثير من أصحاب المحالّ التجارية، والمقاهي والأماكن التي يعتقد أنهم يأنسون لها. وجاءتهم إشارة من أحد عيونهم أنّ واحداً من هؤلاء المراهقين يتردّد باستمرار على أحد المباني القديمة، بل أحد البيوت فيها؛ بيتٍ لا جلبة فيه ولا ساكنين. روقِب البيت عن كثب طوال اليوم فلم يجدِ العسس فيه حركة ولا بركة... إلى أن خيّم الظلام في تلك الليلة الشتوية القاسية، وعيون من هم في خدمة الشعب متسمّرة تراقب باب البناية الحديديّ الكبير إلى أن دلف من بعيد مراهق رسم الضوء المنبعث من عمود الكهرباء في زاوية الشارع شبحه على بركة الماء في الأرض، وانسلّ مسرعاً دافعاً باب البناية بيده مصدراً صوتاً يضفي على العتمة رهبة وخوفاً، ثوانٍ والمراهق داخل البيت الذي لاحركة فيه على مدار الساعة يغلق خلفه مزلاج الباب مطمئناً إلى أنه لا أحد يتبعه.

بإيماءات وإشارات ومصطلحات تنادت عناصر الأمن يصحبهم أبو أحمد لتأتي الأوامر باقتحام الشِّقَّة قبل فوات الأوان مع أخذ الحيطة والحذر من هذا المراهق الذي قد يكون مسلحاً فيؤذي أحد العناصر أو يؤذي نفسه فتنقطعَ خيوط بقية العصابة، تسلّقوا درج العمارة المعتم، منتشرين على مفاصله مستعدّين لكلّ طارئ، واقترب أبو أحمد من باب الشِّقَّة يسترق السمع فتهادت إلى مسمعه همسات وآهات وكلمات وتمتمات لم يستطع أن يفكّ رموزها لكنّه بفطنته التي اكتسبها وخبرته في ملاحقة المجرمين وشذاذ الآفاق تيقن أنه وضع يده على أفراد المجموعة كاملين، ويكون بذلك قد كفّر عن تقصيره في حفظ أمن المدرسة أمام المسؤولين، ومن يدري ربّما يعلّقون على صدره وساماً مكافأة له على دهائه وسرعة تحركه...صور متلاحقة وأحلام دغدغت خياله جعلته يعطي الأوامر بكسر باب البيت، ركلةٌ واحدة جعلت الباب يترنح تحت أقدام عناصر الاقتحام؛ ليجدوا أسعدَ جاثياً على ركبة ونصف يفكّ صرّته؛ ليطعم بعض ما خبّأه فيها لأمّه المقعدة. 

[1] الفُرْضَة : ج فُرَض و فِراض وهي نصف الجزء المتحرك من الباب

وسوم: العدد 708