مطشّر

لا أعرف لِما أسموه "مطشّر" ، فللبدو في هذه القرية أمور لا تستوجب السؤال والاستفسار ، تفرض على مسمعك ووعيك التعامل معها فقط دون جدال . فكل ما أعرفه عنه أنه أصاب ثروة كبيرة على غفلة ، كيف ذلك ? لا أحد يعرف ، لكن ما يعرفه الناس عنه أن حياته انقلبت فجأة ، فبعد أن كان البرغل غذائه الأساسي بل الوحيد طوال السنين المقفرة من حياته ، أصبح لا يأكل اللحم المتبّل إلا في الملعقة ، كما استبدل للنوم سرواله الخشن المصنوع من الخيش القديم ببيجامة قطنية ناعمة ، وهذا انقلاب وتمرد واضح في هذه القرية.

 "فمطشّر" الرجل الستيني ذو الطباع النزِِقة أصبح بين ليلة وضحاها من أثرياء القرية ، فراح يهتم ويراقب بكثب ما يقوله الناس عنه ، فالأثرياء في هذه القرية هم مثل السياسيين ورجال الفن في العاصمة ، ليست طباعهم وسلوكياتهم ملك شخصي ، بل هم مُلك للعامة. لهذا بنى بيتاً للمشردين وعابري السبيل على سفح الوادي ، وأوقد النار للضيوف ولوجهاء القرى المحيطة ، وقدّم لفقراء القرية ومساكينها الذبائح دون انقطاع ، فلم تنقطع رائحة اللحم من القرية طوال عيشه بينهم ، حتى صار اسمه موصولاً على كل الشفاه.

فاغترَّ في نفسه لأجل ذلك ، وتخايل في مشيه بين الناس ، فنبذ الناس غروره بقسوة ، فلم يعجبه الأمر ، وحتى يحيي ألسنتهم بالحديث عن تواضعه استبدل سيارته واشترى حماراً ، ركبه إبنه الأصغر وسار به أبيه بين الناس مُقصداً في مشيه . فجمجم الناس لرؤياه ، وراحوا يتهامسون فيما بينهم بصوتٍ عالٍ :

- أنظروا لهذا الولد العاق يركب الحمار تاركاً أبيه الشيخ العجوز متعثراً على قدميه ..

- يبدو أن جمع هذا الرجل للمال أنساه كيف يربي إبنه..

سمع "مطشّرّ" ذلك ، فأنزل ابنه عن ظهر حماره واستعجل هو في ركوبه ، فلم يمنع ذلك الناس من أن يتهامسوا من جديد :

- يا له من رجل لئيم ، يركب الحمار تاركاً ابنه الصغير يقوده .. أي أبٍ قاسٍ هو هذا الرجل ..

ومجدداً أسرع "مطشّر" وركب هو وابنه الحمار ، فصاح أحد العامة إليه :

- اتقي الله يا رجل في هذه البهيمة ، فقد أثقلت أنت وولدك ظهر هذا الحمار ، ان كان الله وهبك من فضله مالاً فذلك ليس مسوغاً لأن تتكبر على البهائم أيضاً..

راح ينفث نَفَسه متهدّجاً ،ودون أن ينبس ببنت شفه ، ترجل الأب والابن عن ظهر الحمار وقاداه من رسنه . فضحك الجميع وغلوا في ضحكهم لذلك ، ثم رفعت بعض النسوة من اصواتهن في الحديث :

- مطشّر يتمختر في مشيه مع حماره كما يتمختر الرجل مع عروسه ..  أنظروا لهذا المجنون ، يسوق حماره دون أن يركبه ، قد خلق الله الحمار لنركبه لا لأن نتمشى معه في الاسواق يا "مطشّر" ، يبدو أن كثرة المال أورثتك العمى ..

لم يتمالك "مطشّر" نفسه ، فجدل رأس حماره وجرّه بحنق الى شفة الوادي وحمله بقهر وقذفه ، وفي غفلة منه التف رسن حماره حول كاحله فسحبه معه إلى عمق الوادي تتلقاه الصخور  وتمزق جسده الهيّن أعواد القصب اليابسة .

هرع الناس لمساعدته ، وكل ما استطاعو فعله حمله في تابوت ودفنه في مقبرة القرية .. ولازال الناس لليوم يتحدثوا كيف بَطِرَ "مطشّر" في معيشته فأهلكه الله هو وحماره .

وسوم: العدد 710