وجمَ الحاضرون

1- مشادة داخلية  :

نظر الى ساعته ثم أطلق زفرة طويلة تماثل في حرارتها لهيب الشمس المتقدة في الاجواء كلها ، ما كان يريد بها سوى تأكيد حقه واصراره على عجرفة السائق ،وذاك الذي يجلس في الصندوق الخلفي من (البيك آب ) والذي لم يرفع عنه نظره  أبدا طيلة جلوسه هناك!.

-           لقد مضت ساعه ونصف ،فكم بقي من الطريق؟

-         سنصل بعد قليل ، وراء تلك التلة !! .

أصبح ظنة يقيناً وهو يعني بتلك التلة ذلك الجبل المترامي، فلم يعر لجواب السائق أي اهتمام ، وإنما غاص وسط ضجيج المحرك الذي أخذ ( يعنّ )اكثرمن ذي قبل ، كأنه هو الآخر بدأ يتذمر من الحرارة المنبعثة من داخله، ومن الشمس المسلطة عليه من الخارج .

-         ما الأمر ؟

-         أنها معسرة يا دكتور !

-         كم فات عليها ؟

-         من الليلة الماضية .

رغم جهلة بطبيعة تلك المنطقة وجغرافيتها فإن مثل هذه الحالات تستدعي العجلة والاسعاف الطارئ مهما كانت الظروف المحيطة ، كان يقينة يسبقه فالحقيبة الجلدية الضخمة رفيقته منذ زمن جاهزة لمثل هذه الحالات ،فهي عيادة متنقله ويرافقها الصندوق الحديدي المليء بالمعدات والأدوات المكملة ،.

لم يسألهما عن الجهة التي يقصدونها ،ولا حتى اسم القرية ولا الزمن الذي يستغرقه قطع الطريق، وإنما ساقه يقينه هكذا نحو المهمة من دون تردد لولا ذلك الذي يجلس في الصندوق الخلفي ، والمشادة التي جرت بينهما :

-         لا .. لا نريدك أنت ... نريد الدكتورة .

-         الدكتورة مريضة حاملة، وهي في اجازه راحه ، والطريق يشكل خطورة عليها .

شعر بهزة جلجلت السيارة بمن فيها .. أمسك بطرف المقعد من تحته وكأنها قد هوت بحفرة ،التفت الى السائق بجوارة والخجل يعترية حاول تصحيح جلسته . رفع جثته وأعدل عوده على مسند المقعد رفع رأسة محاولة منه لاستعادة هيبته كدكتور امام غرباء لا يعرفهم .

-   رغب بتعويض ما فاته ، أطلق أصوات يعرفها القرويون أكثر من غيرهم ليلفت انتباه السائق، لكنه لم يفلح وضاعت المحاولة وسط ضجيج المحرك ثانية ، نظر فجأه الى الأمام فوجد السيارة تنهب الارض نهباً سال نفسه :

-         منذ متى زاد السائق من السرعة ؟ ثم اجاب على تساؤله :

-         لعله قدر الحالة وعرف برغبتي  في الوصول بأسرع ما يمكن !

     2-  استباق للتشخيص  :

  كانت الحقيبة العيادة ترقد بأمان بين يديه ورجليه، أطال بها نظره وكله يقين أنهاتشاركة قلقله وتساؤلاته وحتى نفوره ، تذكر المهمة التي ترافقا من أجلها في هذه السيارة العجيبة وراح يقلب الاحتمالات في عسر الولادة : ويفكر في اصعبها واخطرها على الجنين وعلى الأم بأن واحد عاد بنظرته الحنونه الى حقيبته العيادة واطمئن : لكنه سرعان ما انفض عنه وتعكر مزاجه ثانية فقد فاته أن يسأل أحد هذين المتعجرفين .

 - إن كانت قد ولدت من قبل ؟ أم هي  الأولى ؟ .

سكت قليلاً وعادت له صورة وجبه الغداء التي كانت تعدها زوجته الدكتورة المتعبة بحملها ،فأحس بقرقرات الجوع تعصر امعائه، وضع يده على بطنه وتأكد أنه سيصمد بعضاً من الوقت ريثما يصل الى المكان المنشود .

طغى صوت المحرك على كل مسامعه صمم على فض هذا الصمت الصاخب بأي كلام .. استقام ورفع ظهره على المسند وصرخ بالسائق مباشرة لكنة فوجئ بالوقت ذاته بالسيارة تتباطئ في مشيتها وتنحو الى جانب الطريق ثم توقفت بادره السائق بنبرات صوته العالي :

-         سينتهي الطريق المنتظم المسفلت هنا ،  بعد قليل سنسير بالطريق الترابي !.                                                     

تلقى الخبر كالصاعقة وقبل ان يستنكربادره السائق قائلاً :

-   من الافضل وضع هذه (الجلدة) في الصندوق الخلفي حتى تكون في راحة تامة ،  ولا تؤذيك يا دكتور .؟                                           

3-                        مصالحة مفترضة :

سرت في نفسه طمأنينة عندما خاطبه السائق يا دكتور، نظر الى رفيقته متردداً محتاراً بصفتها الجديدة الجلدة ،ابتسم وهنأها بالأسم الجديد ،لكن الرجل الثاني كان سريعاً يفهم اشارة السائق فكان حاضراً ،فتح الباب وتناول (الجلدة العيادة) بكلتا يديه وضمها الى صدره وذهب بها الى حيث كان يجلس وكأنه لم يفعل شيئاً .

بدأت السيارة تقرض الطريق قرضاً تاره مرتفعه، واخرى منخفضة، حاول أن يمسك بأي شيء يتثبت به فلم يجد القوه لذلك ، بل وجد نفسه كتله خامدة مستسلمة وكأنه في سيرك لا إرادة له به ، عادت اليه صورة الولادة وفطن الى احتمالات نهاياتها ونتائجها ، حاول أن يلملم بعضاً من اجزائها لكنه توقف  عند  أحد احتمالين لا مفر من حدوثه  : موت الأم والجنين أو الولادة بموت الجنين ،  هز رأسة مع اهتزاز السيارة مؤكداً قناعته الطبية العلمية كما مرت معه من حالات سابقة ،أن الفاجعة قد حدثت وأنتهى كل شيء وزاد على ذلك أنه لو كانت الدكتورة زوجته تأخذ مكانه  هنا لكانت حدثت الفاجعتين  معا ،ولم يفكر ولم يحسب لأهل القرية التي يقصدها أي حساب فسيتفاجئون به : كيف وهم يانتظار دكتور (حرمه) واذا الذي امامهم رجلاً !  فكيف سيتقبلون أمرا فرض عليهم ! سيتعرض لمشادة واستنكارلامحالة ، كان أول مشعلها هذين المرافقين السائق وجالس الصندوق ذاك ، تذكره ونظر اليه  وتذكر الحقيبة العيادة ومرافقها الصندوق الحديدي وتخيلهما اسيران لديه من خلال النافذة الخلقية ،فلم يطمئن عليها حيث كانت تتقافز مع قفزات السيارة ، اصابه القلق اكثر عندما رأي براميل وعبوات بلاستيكية كلها تتشارك في حفلة قفز جماعية فلم يمهل نفسه اذا بادر السائق سائلاً .

-         ما هذه البراميل والعبوات البلاستيكي  ؟ .

-         بترول  !!

-         بترول !..ولم البترول ؟..ولم كل هذه الكمية ؟ .

-         وصايات الاهالي ..لمولودات الكهرباء ، ولمن لديه جرار حراثه !!

وتابع ..

-         كما ترى القرية بعيده ومعزولة .

لم يعقب الدكتور  ،ساد صمت وسكون وزاد قلقه الشديد ، فقد اخذت قفزات السيارة  تزداد بشكل غير عادي، والسائق خلف المقود يتفاخر بحركات يديه ، مرة يديره يمينا و أخرى يسارا ، رافعاً رأسه كانه طائر صقر يجمع كل حواسة في عينية المركزتين على فريسة  شهيه يتهيأ للانقضاض عليها ، ولم يخب تصور الدكتور في السائق وما هي الا برهة فاذا به يلتفت اليه فجأه ويصرخ في وسط عنين محرك سيارته المستمر .

-   لم يجرؤ  احد على منافستي في هذا الطريق ، في الشهرمرتان أملأ البراميل بالبترول واعود للقرية لكن مركز المستوصف بعيداً جداً عن محطة البترول  .

اجابه الدكتور مداعباً ومنفساً عن نفسه :

-         ها.. ها سأكون منافسك الجديد سأسبقك منذ اليوم .

-         أنت تمازحني يا دكتور ، لا تستطيع أبداً منافسي .

-         سترى .

4-  زلزال محلي  

صمت الدكتور وعض على شفته السفلى ، وكتم غيضاً وأسىً بأن واحد ،عادت وساوسة إليه بنهاية قاسية لمهمته هذه، بل هي نتيجة لابد من حدوثها،  خاصة بوجود هذا الطريق الذي يتلوى بين كتل الصخور النا تئة  المتدلية على بطن الوادي السحيق يحبس صورة النتيجة والنهاية بين اضلعه  فلا يستطيع أن يظهرهما لمرافقية اما غيضاً او خجلاً أو .. ولم تسعفه السيارة ولا الطريق بتكملة تخيلاته اذا عصفت بهم رجه عنيفه مفاجئة اطاحت بالسيارة جانباً بصدمة كان الارض زلزلت من تحتها .

 خيم الصمت المذهل ولم يعرف أي منهم ما جرى للآخر ، لم تحط عيونهم على أي شيء سوى البحث بسرعه عن بعضهم، تلاقت عيونه بعيون السائق الجامد في مكانة ولا حراك لاي منهما ، انفجرت اسارير السائق واطلق ضحكة هزل واستخفاف  ، وهو يشير باصبعه الى الخلف التفت الدكتور حيث يشير السائق باصبعه ، فاصابته الصدمة الثانية وكانت  اشد من الاولى.   

عمت الفوضى بكل من  في الصندوق وكل شيء انلقب على بعضه والمرافق الجالس فيه لا آثر له أبداً .

قفز السائق قفزه مذهله من السيارة واختفى هو الآخر وما هي الا ثوان حتى سمعه  يصرخ به بشكل جنوني .

-         لا تفتح بابك يا دكتور انزل من بابي لا تخف هيا بسرعه  بسرعه .

كان الرجل جليس الصندوق ممدداً على الارض على بعد بضعه امتار من السيارة ركضا اليه تفحصة الدكتور فلم يلاحظ به شيئاً حاول تحريكه ورفع رأسه ناداه صاحبه عدة مرات ، فتح عينيه ثم حرك رأسه ثم يداه سأله الدكتور أن كان يشعر بشيء ..أطلق ضحكه خفيفه .

-   لا  لا ليس في شيء انا خائف ، لقد قفزت من السيارة لما رأيتها تنحرف نحو الوادي وهو  يشير الى السيارة ، ساعداه على النهوض وعاد الثلاثة نحو السيارة ، لم يكن حالها الا من حال كل شيء فيها ، حقيبه العيادة، وصندوق المعدات الطبية يغرقان بالبترول، وبعضاً من محتوياتها قد ضاق بهم الحال كذلك فآثرا الخروج والمشاركة بالكارثة الماحقة المخيفة ،واما السيارة ذاتها فكانت متكئة على نتوء صخرة بينها وبين الانزلاق قيد ثقل شعرة ، انهار الدكتور مما راى وما اصاب عيادته المتنقلة وقوارير الادوية ومعداته الطبية جلس على الارض جامداً خائفاً مرعوباً لا تصدر منه حركة ،وربما غاب عن الوعي هو الآخر.

لم يشعر الدكتور بالوقت الذي مضى الا وصاحبيه يناديانه :

-         هيا يا دكتور ، هيا نتابع لقد تأخرنا كثيراً وغروب الشمس ادركنا 

رفع رأسة ونظر الهما ساخراً وسألهما .

-   تأخرنا على ماذا والى اين نذهب وهل من فائدة لوجودي معكما اذهبا لوحدكما سابقى هنا ريثما تأتي سيارة تعود بي الى المركز .

اطلق الإثنان ضحكة سخرية :

-         الرجعة مستحيلة يادكتور، ثم ان السيارة لا زالت قوية انظر اليها لم يصبها شيء !.

ركز نظره بالسيارة وهي مفتوحه البابين ، تخيلها طائرة جاثمة في وسط الطريق العتيد تستعد للإقلاع والطيران .

اطلق ضحكة ولا يدري  هي للسيارة ام لنفسه ام لصاحبيه ،عادت السيارة العتيدة الى قفزاتها لكن خفت كثيراً عما عهده منها  سيما وقد شاركه الرجل الثاني مقعده الى جانبه .

لم يعد يقدر على حصر أي مصير سواء لنفسة ام لتلك الأم المعسرة او لجنينها أم للسيارة أم لمعداته وعقاقيره الطبية ،ونسى زوجته وحالها تماماً .

  5- إنفراج شامل

هربت الشمس واختبأت وراء المرتفعات لاحت له اسراب من الطيور الهاربة في أفق السماء .

انتعش قليلاً واحس بخيوط من الحياة تنساب وتتلوى على صدر ذاك الجبل المتراكم بلا انتظام ،اقتربت الطمأنينة  من قلبة عندما تهادت السيارة وتوقفت بجانب حوض ماء يتساقط من بين الصخور الصماء ، دعاه السائق و مرافقه الى الاغتسال والشرب  ،وكأنهما يقرآن مكنونه ،فقد كان الماء بارداً عذباً رقراقاً ، انظر يا دكتور هذا الماء وذلك النجم المتلألئ هما مدخلان لقريتنا.

لم يعقب بشيء وظل صامتاً مذهولاً لم يصدقهما ونباح الكلاب اخذ يعلوا اكثر من قبل تلقاهم حشد الاطفال يتراكضون حولهم كثرت واختلطت الاصوات مع بعضها ، انهارت السيارة وتوقفت من تعبها ،والرجال والنساء خرجوا يستقبلون ويبشرون مهللين، لقد ولدت ولدت ام راشد سالمة غانمة .

نسى الدكتور كل مالاقاه من الطريق وأهواله وذهب كل خوف ورعب وقد سمح له ابو راشد بالاطمئنان على ام راشد وولدها بحضور (داية القرية) ونساء أخريات .

راح يشرح لجمع أهل القرية بالرواق الكبير ،أسباب عسر الولادة وصعوبة الطريق معاً إختلطت الجمل والكلمات ببعضها تارة يتكلم باندهاش عن الولادة وباندهاش اكثر عن وصوله سالماً ، كان المولود كبير الحجم  وخروجه بهذه الحالة امراً محيراً ،حاول مساواة الاسباب والنتائج في كلا الحالتين لكن احداً على ما يبدوا لم يفهم منه ما يقول : !! ووسط ضجيج صوته المتهدج دخلت عليهم فجاه أمرأه تصيح :

أين انت يا ابو سليم ؟ تعال ساعدني لقد اتعبتني (المالحة) من الصباح !؟

وجِمَ الحاضرون جميعاً وسادهم صمت وترقب ،انها بقرة ام سليم الغالية معسرة هي الاخرى في ولادتها الأولى اتجهت عيونهم جميعاً نحو الدكتور وكأنهم اتخذوا قراراً ما .

وسوم: العدد 724