وجه القمر

القمر عالق بين الأسلاك الشائكة المسيجة للمخيم, يخبئ عار الأسر خلف مزق من السحاب المقطع, والبرد يخترق الثياب والأجساد ليصل الى العظام فيزلزلها ارتجافا, الأرض الطينية تحولت الى سطح مجعد شديد الصلابة, الجليد على سطح البرك الصغيرة التي شكلها وقع الخطى يتكسر تحت قدمي الأستاذ نوري مصدرا صوتا رقيقا كصوت تحطم قلب كليم في ليل هذا المكان المرمي في أقصى الشرق, والمنسي من كل الجمعيات والمنظمات الانسانية.

 اسبوع مضى, في كل ليلة يخرج الأستاذ نوري من خيمته يهده القهر, يعد مئة وعشرين خطوة, هي المسافة الفاصلة بين خيمته والحمامات العامة, يمشيها ببطء محاولا اطالة الزمن, لا مكان آخر يهرب اليه سوى هذا الدرب, الحي مقفر والمسجد أقفله المؤذن بعد صلاة العشاء, الليل تجاوز منتصفه بقليل, كل الناس نيام, أو ساهرين ملتحفين بالبطانيات يحاولون بها درء البرد العنيد, وأين منهم الدفء وقد تجاوزت درجة الحرارة نقطة الصفر بكثير, بكاء أمينة المرّ يجرح سكون الليل, يخترق ستار خيمتها ويؤرقه في خيمته, في هذا الاسبوع بدأت تتراجع في درسها, وتهمل وظائفها, تمضي الحصة الدراسية صامتة شاردة, لا يثير انتباهها أي شيء.

*****************

أنا أستاذك يا أمينة احك لي..لن أخبر أحدا, ما الذي يبكيك في الليل؟

 أطرقت أمينة بنظرها وانحدرت دمعتان ساخنتان من عينيها, سالتا بهدوء على الخدين الجافين المشققين من أثر ملوحة الدمع, ضمها الى صدره, مسح شعرها بيده ثم عاد لينظر في وجهها

 أنا أحبك يا أمينة مثلما أحب ابنتي آية, بل أحبك أكثر منها, أنت مجتهدة في الدرس وهي مقصرة

 ارتخى طرفا فمها, وضربت وجهها موجة من التقلصات, ثم راحت تنتحب, جفف دموعها بمنديله, وقدم لها بعض السكاكر, شبكت كفيها خلف ظهرها رافضة هديته, واستمرت في نحيبها, دخل المدير ليستفسر عن سبب بكائها فاستغلت الفرصة وجرت راكضة الى باحة المدرسة, لتجلس وحيدة في العراء, مواصلة بكاءها.

 *******************

 جاءته زوجته بالخبر اليقين, أمينة ترى أباها في المنام, لكنها لا ترى وجهه, تخاله غاضبا منها, ولا تدري السبب الذي أغضبه, تراجع نفسها, تراجع أقوالها وأعمالها, ولا تجد لنفسها ملجأ سوى البكاء, أخبرتني أمها أنها تعتزل اخوتها, وتدخل بين ستارتي الخيمة, لتجلس صامتة ذاهلة, لا ترد على نداء, ولا تشارك في حديث أو ألعاب.

وقالت زوجته, لو حسبنا بالأرقام, الطفلة عمرها ثمان سنوات, ثلاث منها عاشتها هنا في المخيم, وسنة قبلها كان والدها مشغولا بالثورة, لا بد أنها نسيت ملامحه لطول العهد, لكنها لا تعي ذلك, حملت نفسها عذاب الضمير عقابا على النسيان, مسكينة, كم من الأطفال يعانون مثل ما تعاني؟

 لقد هربت الأم بأطفالها من الموت الراكض في كل شوارع البلد وأزقتها, النابع من الأرض والمتدحرج من الفضاء معبأ بالبراميل, جاءت بما ترتديه من ملابس, لم تحمل متاعا ولا صورا, هاتفها الجوال ضاع منها, لا تذكر متى ولا أين ولا كيف ضاع.

 هجع جميع من في المخيم وظل الأستاذ نوري مؤرقا يمزق سكونه بكاء أمينة من الخيمة المجاورة, يفكر بطريقة يساعدها بها ولا يهتدي, والدها كان صديقا له, ومعلما زميلا في المدرسة ذاتها, استشهد الرجل في المعركة الأخيرة, بينما حمل الأستاذ نوري جراحه, ولحق بأسرته الى المخيم, ليجاهد مع زملاء آخرين, من أجل إنقاذ جيل من الأطفال, من براثن الجهل والأمية, ابتدعوا مدارس داخل الخيام, وراحوا يدرسون التلاميذ ما تحفظه ذاكرتهم من العلوم, بلا كتب ولا دفاتر ولا أقلام.

 فكر, لو أن لديه صورة لصديقه الشهيد يقدمها لأمينة, يعيد اليها ملامح وجه أبيها, وينقذها مما يؤرقها ويؤرقه كل ليلة, لكنه نقل من ساحة المعركة الى المستشفى , وهو لايملك سوى ملابسه المبللة بدمه, ونقل, حين بلغ طور النقاهة, الى المخيم, ولا يعلم شيئا عن أجهزة الحاسوب والهواتف النقالة التي كان يملكها والتي خزن بها كل مالديه من صور ووثائق.

 في اللحظة الفاصلة بين نومه وصحوه, تذكر بأن والد أمينة كان صديقا له على برنامج فيسبوك, ادارة المخيم خصصت قاعة للأنترنت, وهنا يكمن الحل, نام نوما قلقا, وفي الصباح, استعار حافظة صغيرة من أحد زملائه وقصد تلك القاعة, فتح موقعه فطالعته صورا ومنشورات مخزنة من شهور طويلة, راح يستعرضها على مهل, نسخ صورة منها على الحافظة وقصد مستوصف المخيم, صعد الباص مع الذاهبين الى المشفى, وانفصل عن الركاب ليقصد أقرب مكان للتصوير, طلب صنع صورة كبيرة في اطار لصديقه الشهيد, تأمل العينين الحازمتين وبكى, ثم سارع ليلحق بحافلة المشفى عائدا الى المخيم, ليهدي تلك الصورة لتلميذته أمينة.

 القمر يتوسط قبة السماء, ينشر ضياء ساطعا يكاد يكون نهارا, أو شبه نهار, النجوم تومض بقوة في الفضاء الذي غسله المطر, تنظر بصمت الى آلاف الخيام, آلاف الأسر, يضمها هذا المخيم المرمي في هذا البلقع من الأرض بعيدا عن كل المدن والقرى, ريح جليدية قارسة البرودة تسفع وجه الاستاذ نوري في مشواره اليومي الى الحمامات, لكنه يغفل عنها غارقا في سعادة منحتها له هذه الليلة الهادئة الخالية من بكاء أمينة, صخب الطفلة واخوتها تعبيرا عن فرحهم باستقبال صورة أبيهم وصله كاملا الى داخل خيمته, هذا الصخب همد الآن يبدو أنهم استسلموا لسلطان النوم, لم يسمع هذه الليلة بكاء أمينة, لكن أسرة جديدة سكنت في خيمة مقابل خيمته, لديهم طفلة عمرها خمس سنوات لم تدخل المدرسة بعد, اسمها لطفية, هذه الطفلة تدخل بلا سبب في نوبات هيستيرية من البكاء, تقلب الأواني تسكب الطغام على الأرض, تضرب رأسها ووجهها بيديها حتى يوصلها التعب الى الاعياء, ويقف والدها وزوجته عاجزين عن فعل أي شيء يقطعان به هذا البكاء.

 لطفية شاهدت ثلاثة رجال من أعمامها, كما شاهدت أمها, أشلاء متناثرة تغطيها الدماء إثر سقوط برميل متفجر على منزل كانوا يسكنونه, فما السبيل الى انقاذها مما تعانيه؟ الأمر يحتاج من الاستاذ نوري مزيدا من التفكير والتدبير, توقف في منتصف الطريق وراح يتأمل وجه القمر.

وسوم: العدد 737