فرشاة ألوان

يبدو أنني غير مرحب به في هذا العالم، فكثيرون لا يشعرون بوجودي بينهم، أفكاري مما عفى عليه الزمن، فقد نشأت في بيت يميل للحذر في كل شيء، حتى ظن من يعرفوننا أننا أكثر دهاء، هذه عادة نشأت عليها، فالباب الكبير يوصد بعد صلاة العشاء فلا مفر من البقاء داخل المنزل، علينا أن نتجنب الغرباء فهم مثل النداهة تسرق الأطفال في جوال وتذهب بهم بعيدا؛ فطاحونة الغلال لاتدور إلا إذا تناثر فوقها دم، أو أن أبا رجل مسلوخة يفزع الصغار حين يخطفهم وقد غفلت عنهم أمهاتهم.

بدأت الأفكار المشاغبة تتسرب إلى جيلنا؛ فالحاكم العجوز ترهل بما فيه الكفاية والنهر لا يظل حبيسا وراء سد صخري يعجزه، كان مما لا بد منه،

أورثني هذا كله حياة تسير بخطى سلحفاة عجوز، ثيابي بل وحتى أفكاري تبقى كما هي فلا جديد فيها، هذه الأيام بدا لي أن أعيش في العالم المحيط بي عوضا عن الانزواء في مكان بعيد أرقب الجميع وهم لا يشعرون بي، مللت ثيابي التي يسخر منها كل من يراني، يحلو لي أن أطالع صحف الصباح وأنا أحتسي القهوة مثلما كنت أرى من سايروا عصرهم يفعلون، بل فكرت أن أمشي على طريقتهم، أضع رابطة عنق وأخرج منديلا معطرا من سترتي، شيء جميل أن تجد نفسك تفعل ما كنت توده يوما ما.

هناك أشياء لن أستطيع البوح بها، فقد مضى عهد الصبا ولعلها صارت اليوم أما.

ثمة حلم لما يتحقق بعد، أن أمسك بفرشاة الألوان التي عجزت يوما أن أمتلكها، الطفل الذي عاش في داخلي تمنى أن يرسم السماء وقد امتلأت بطيور جميلة تسبح في فضاء لا ينتهي وأنا أعدو خلفها مبتهجا وقد ارتديت ثياب العيد.

الآن قد كبرت أكثر مما كنت أتمنى، لكنني امتلكت أموالا تكفي، تنازعني هذه الرؤى ذات الأجنحة السبعة، قررت صباح هذا اليوم أن ألبي للطفل الذي كان يسكنني كل أحلامه، اشتريت علبة الألوان المائية، وقفت عند مدخل بيتها فقد عرفت أنني أتمنى عودة طيف الحلم الذي توهج داخلي، ابتسمت في براءة طفولة ودت أن تعود إليها، لوحت إلي محيية، ابتسمت في حبور، فهذا أوان تفتح زهور الربيع، شجيرة الياسمين التي تطوق بيتها داعبت أنفي برائحة زكية، عصفوران يتراقصان في سعادة، لقد خيل إلي أنني عدت ثلاثين عاما إلى الوراء، أمسكت بيد صغيرتي التي أصرت أن تأتي معي؛ لتشاهد كيف تغدو الأحلام بهية حتى ولو مضى عليها حبيسة عمر طويل.

تمنيت أن أبقى هنا ساعة أخرى لكن الصغيرة ملت هذا الوضع، فقد شاهدت أباها يرسم أشياء لا وجود لها إلا في أفلام الأبيض والأسود، كلب أسود أخذ ينبح بصوت عال؛ إنه لم يألف رجلا يجلس كل تلك الساعات صامتا فلا تتحرك منه غير يد واحدة، أما الأخرى فقد أصابتها شظية - مما طاف بالوطن من شرور لم تنته بعد- وبقي للطفل يعتصر ألمه الذي حاول أن يفر منه،رغم هذا فقد جاءت العصافير بجناح واحد.

وسوم: العدد 737