المشردون

محمد محمود عبَّار

إلى الجنوب من عاصمة الأمويين « دمشق» استقام شارعان، بُعَيد نكبة فلسطين الأولى... بل نكبة العرب أجمعين في عام 1948م، عرف أحد الشارعين باليرموك والثاني بفلسطين، ومن ثم أطلق عليهما اسم المخيم، فيما بعد تحول الشارعان منطقة سكنية لا بأس بها، ثم صارت حياً حيوياً  من أحياء دمشق وبه كثافة سكانية. وأقام فيه فلسطينيون وكذلك سوريون، اختلط الناس ببعضهم  بلا تفريق ولا تمييز، كذلك سرى عرف الزواج بينهم وكأنهم عائلة واحدة.

اشتهر اليرموك بسوقه التجاري وبجودة بضائعه ورخص أسعاره، وصار الناس يقصدونه من كل جانب، كثير من الناس رغبوا السكن فيه لتوفر الحاجيات والخدمات فيه، منهم من استأجر وكثير اشتروا شققاً سكنية.

في تلك الحقبة الزمنية سهلت الحكومات السورية المتعاقبة أمور أبناء فلسطين، وعاملتهم بالمثل كالمواطنين السوريين، بينما فرضت حظراًعلى يهود الشام، وجعلتهم لا يتنقلون إلا بتصريح رسمي.

هناك مهنة رئيسية يشتغل بها غالبية يهود الشام وهي «تسكيف الأحذية» فهذه مهنتهم الرئيسية، لم يسمح لهم تجار البلد بممارسة أعمال التجارة مثلما يحدث في بلدان العالم.. يمسكون بالتجارة الخارجية والمال وعصب الحياة.

في سوريا عامة وفي دمشق وريفها خاصة فقد استقبل الناس إخوتهم الفلسطينين أيما استقبال، فاحتضنوهم وأسكنوهم ورعوهم وكأنهم قطعة من جسدهم.

* * *

في بداية الحراك الشعبي الذي غمر عدة مناطق في سوريا ظل اليرموك هادئاً محيداً عن الأحداث فيما يبدو أن السكان آثروا أن ينأوا بأنفسهم عن الدخول في معمعة الصراع مع السلطات، فقد اكتفى الفلسطينيون منهم بما أصابهم من النكبات على مر السنين، حتى عندما قتل شاب هناك برصاص «الأمن» في حادثة مفردة لم تصدر ردة فعل ظاهرة، وفي تظاهرة التشييع كان أكثر الذين خرجوا فيها قد قدموا من مناطق مجاورة أو قريبة، مثل القدم وداريا وكفرسوسة والتضامن وغيره من شرق دمشق وجنوبه.

في خضم الأحداث وتطوراتها لم يدع الناشطون هذا القطاع على حاله فشاركوا مع بعض أبنائه في تحركه، ومع تحركه وخروج المظاهرة فيه الرافضة للنظام القائم سرت فيه مثل غيره عمليات الردع بأدوات العنف والإرهاب والقمع.. سقط الشهداء وتكاثرت الإصابات، بذلك انضم «المخيم» إلى المناطق الساخنة، وتسارعت الأحداث فيه على قدم وساق مع ريف دمشق وشرق وجنوب العاصمة وبعض المناطق في غربها.

ومع خروج المظاهرات فيه وقفت الحركات الجهادية الإسلامية على الحياد بينما دخلت بعض التنظيمات اليسارية والقومية في شراكة مع الحكومة لضرب المخيم، فجندت نفسها حامياً للنظام وعدواً للشعب المسالم والنشطاء في ذلك المكان.

انتشرت الحواجز على مداخل اليرموك وفي بعض طرقاته، مما أثر على سير الحياة اليومية للسكان، وجعلها خارجة عن نطاق مسيرتها العادية الطبيعية، كلما خرجت مظاهرة تناولها المترصدون بالرصاص الحي بعد الغاز السام الخانق، فتحدث الإصابات ويرتقي الشهداء، وتحمى وتيرة العنف والمعارضة في آن واحد، يترافق ذلك مع اعتقالات جمة لعدد من الشبان.

ثم صار قصف مدافع الهاون شيئاً غير بعيد عن أسماع السكان وأبصارهم، فجعل الرعب والهلع يدب في صفوف المواطنين مع سقطات قلوبهم عن مواضعها كلما عاد الضرب والقصف.

أخذ بعض السكان ينزحون عن بيوتهم، ويهجرون اليرموك إلى مواقع أخرى.

* * *

رانيا امرأة سورية متزوجة من طبيب تخصص عظام يعمل في مستشفى المجتهد الحكومي، لديها أربعة أبناء، العائلة تقطن في اليرموك وهاهي تحكي قصتها على قناة مرئية:

كان نصيبي الزواج من الدكتور محمد رشيد قضينا سنوات هنيئة في بيتنا الكائن في اليرموك وقد رزقنا الله بصبيين وبنتين وهم على التوالي مازن، سيدرا، فاتن، تيم، على مر الأيام احتدمت الأحداث  في حينا، صار قلبي منقبضاً من المفاجآت، ومع ذلك تزايد تخوفي على الأولاد وأخذت أحسب ألف حساب، فلا أجعلهم يخرجون من البيت مطلقاً إلا برفقتي.

ذات يوم تأخر زوجي عن موعد عودته من العمل، ضربت عليه الهاتف النقال فوجدته مغلقاً، اتصلت بالمشفى فأفادوني بأنه غادره على موعده.. تفاقمت الهواجس في داخلي حتى بتنا ليلتنا تلك على مضض وما زال الأمل يراودني بعودته لعل المانع خير.

في صباح اليوم التالي أتى إلينا من يخبرنا بالخبر السيئ حيث إنه  تم اعتقاله على الحاجز وبتهمة أنه يعالج الجرحى والمصابين من «العصابات المسلحة» كذلك احتجزوا معه (سيارته) ليشَبِّحوا بها، عندئذ سقط في يدي وقلت في نفسي: قد يطال العسف أولادي والخروج بهم من هذا المكان الخطر أولى.

على عجلة من أمري طويت ثيابي وبعض ثياب الأولاد في حقيبتين، ثم جعلت مدخراتنا من المال في صدري ويممنا خارج الحي، على الحاجز الميمون استقبلنا بالترحاب!! .. بعد قليل من الأسئلة سهلت مهمتنا وودعنا بالكلمات والنظرات الساخرة.

وقع اختياري على حي الزاهرة المجاور فكان ذهابنا إليه مباشرة.

هناك رحت أسأل عن مكان أو بيت صغير نستأجره ونأوي إليه، فدلتنا امرأة على عائلة من أهل الميدان تستقبل المتضررين دون أجرة، فقصدناها مسرعين.

هناك استضافونا مع غيرنا من المهجرين، وكان عندهم بيت واسع قد فضل عنهم، وكان عددنا هناك خمسين شخصاً.. وقد أغدقوا علينا  من كرمهم جزاهم الله خيراً وبراً.

قضينا أياماً في كنف أهل الخير، لكني استثقلت  ذلك فعزمت على الخروج من البلد، ولما سمعته عن مصر الكنانة واستقبال عهدها الجديد بقيادة رئيسها المخلص محمد مرسي للقادمين من بلاد الشام، ثم اشتريت أو  حصلت على جوازات سفر لي ولأولادي خلال أيام معدودة عن طريق سمسار دُللت عليه.

ودعنا السكان في البيت، وشكرنا أصحابه على معروفهم، ثم  استأجرت عربة سفر تعمل على خط لبنان دمشق عبرت بنا نقطة «جديدة المصنع» دون عناء بواسطة السائق المغوار، وإلى مطار بيروت وإلى مصر مباشرة، كل ذلك حصل بسهولة ويسر، بما أن المال موجود فكل العقبات تذلل وتهون.

حدث كل ذلك في برهة أسبوع  رغم إصرار والدتي بل رجائها بعدم مغادرة البلاد، لكن تصميمي على ما عزمت عليه قد تغلب على العواطف والدموع الراجية والعيون المتقرحة الباكية:

- كيف تسافرين وزوجك معتقل لا تعرفين عنه شيئاً!!؟

- ماذا أفعل يا أمي .. أخاف أن نلحق نحن به .. أو أفقد أحداً من أولادي.

- صبرك يا رانيا هدئي من روعك، عسى ربنا أن يفرجها ويخرج محمد من السجن وتسافرون مع بعض.

- نحن صرنا مستهدفين.. محمد رَكَّبوا له تهم هو بريء منها.. والله ما فعل شيئاً.. من شغله للبيت ومن البيت للشغل.. الله ينتقم من الظالم.

- طيب.. أنتِ ما دخلك في الموضوع.

- هؤلاء لا يفرقون ولا يفهمون.. قد ينتقمون منا، على كل حال أنا ذاهبة في سبيلي، وعندما نصل مصر ونستقر أرسل لكم عنواننا، وإذا خرج  محمد بإذن الله يأخذ العنوان منكم ويلحق بنا..

- كما ترين أما رغبتي أنا أن تقعدي معنا حتى تنفرج الأمور.

- لا أريد أن أضيق عليكم.. البيت صغير وأولاد أخي ما شاءالله فيهم البركة.

- أنت حر..

قبل أن ننطلق عانقتها وقبلتها:

- أمي وداعاً.. ادعي لنا.. لا تنسينا دائماً من دعواتك الصالحة.. سلمي على الجميع.. نلتقي إن شاء الله.

- إن شاء الله.. بأمان الله وحفظه.. رافقتكم السلامة.. نراكم على خير عما قريب.

قالت ذلك وهي تودع الصغار بالدموع والقبلات وتقبيل أياديها من طرف أولادي.

* * *

نزلنا أرض الكنانة، توجهنا إلى حي حتمان الذي قالوا لنا: إن السكن فيه رخيص، من خلال الأيام التي قضيناها هناك وهي معدودة ثبتت لنا حقيقة أنه رخيص في كل شيء.. حتى في الأخلاق، ففيه أيضاً «بلطجية» ومصر ما زالت تضج بالبلطجية، تسمع في كل يوم أنهم يخرجون بالمال المدفوع من أجل تخريب البلد، وإرباك الرئيس ومن معه كي يبطلوا الربيع المزهر الذي كاد يطل على هذه البلاد الخضراء المعطاءة لينهض بها من كبوتها ويأخذ بيدها من بين البلدان النائمة.. فيجعلها في مصاف الدول المتقدمة المكتفية ذاتياً، المتصدقة على غيرها مثلها في ذلك مثل أختها تركيا.

هنا تعرضنا للابتزاز والتحرش خاصة أنه ليس برفقتنا رجل، ومعي أبناء قاصرون، وأنا وحدي لا أعرف أحداً ها هنا، ولا أحد يعرفني أو يكون سنداً لي.

بقينا في محبسنا أكثر الوقت لا نخرج كي لا نتعرض لما لا تحمد عقباه، فكرت في الأمر ملياً، توصلت إلى حل سريع وهو الهروب من هذا المكان.. غير المناسب لنا، فوجدت أحد السكان توسمت فيه خيراً، وهو يملك ناقلة صغيرة.. فأبرمت معه عقداً شفوياً على أن يخرجنا من مأزقنا تحت ستار من الصمت والسرية، كانت أغراضي قليلة ومحدودة.

في غفلة من أبناء الحل والحلال... وقبل أن تنشر الشمس أشعتها الذهبية كانت المركبة البيضاء تنطلق بنا نحو الإسكندرية، وصلناها ضحى، فرحنا بمساعدة الرجل، نسأل  عن منطقة يقيم فيها السوريون، فوفقنا بعد جهد يسير إلى ما سعينا إليه، شكرت الرجل الكريم ودفعت له الأجر رغم تعففه عن تقاضيه مقابل أتعابه.

نزلنا في ضيافة عائلة شامية  مؤقتاً ريثما يجدوا لنا مسكناً قريباً منهم ومناسباً، وهكذا تنفست الصعداء وأخذت قسطاً من الراحة النفسية والجسدية بعد عناء لا يستهان به.

أخيراً استأجرنا بيتاً وانتقلنا إليه، بسهولة تم انتساب الأولاد إلى المدارس حسب التعليمات الرئاسية، علمت أن الناس يسجلون لدى المفوضية.. مفوضية الأمم المتحدة الخاصة بالسوريين فيعطونهم دعماً غذائياً، عبثاً حاولت، فأولادي فلسطينيون وأنا زوجي فلسطيني فلا مخصصات لنا، ولا حتى هيئات الإغاثة الإنسانية لها شأن بنا.

مضت  شهور على هذا المنوال وما لدي من مال يتناقص بمرور الأيام، صرت خائفة، نفسي واجفة أن أصبح خالية الوفاض.. وقانا الله شر ذلك.. يا رب.. يا معين.

على غير حسبان جاءت المفاجأة  فكانت صاعقة!! وإذا بالعسكر ينقلبون.. يقلبون الطاولة رأساً على عقب.. تذهب الشرعية، يلقى بالربيع الأخضر الذي كاد أن يزهر ويؤتي أكله، يُلقى به في غياهب السجون.

إنها انتكاسة أصابت الجميع بالذهول، بل نكبة تساوي للمصريين نكبة أهل فلسطين، نكبة وانتكاسة لكل أبناء العروبة.

ذهبت الأم الكبيرة في طريق لا يعلم مؤداها إلا الله.. هو قدر.. قدر الأمة هكذا.. هكذا كتب علينا.. أهو شقاء.. أم خير.؟ لا بل أقول خير والخيرة فيما اختاره الله.. كل شيء بقدر.. والله المستعان.

دخلت مصر في نفق مظلم كغيرها، سيطر الإنقلابيون على مقدرات البلد، وعادت خيراتها تصب في أرصدتهم من دماء شعبهم وهكذا.

* * *

على الجانب الآخر كان زوجي دكتور محمد رشيد قد أطلق سراحه بعد مثوله أمام «محكمة الإرهاب» كما سموها، ثم استطاع بحنكة المال والأتاوة أن يسترجع مركبته الخاصة، سارع إلى بيعها ولو بثمن أقل مما تساوي ليسارع في السفر، وقد حصل على عنواننا من والدتي إذ كنت زودتها به مسبقاً.

استطاع محمد أن يدخل مصر قبيل فرض التأشيرة على كل قادم من سوريا، لم يكن وحده فقد جاء وبرفقته ابن أخيه، تفاءلنا خيراً بقدومهما لكن التفاؤل لم يدم طويلاً .. فرحنا برجلنا ومعيل عائلتنا فرحة لا يضاهيها شيء في الدنيا فقد منّ الله عليه وعلينا بالفرج غير أن الفرحة انزوت حين أخبرنا أنه مر بنا مرور طريق فقط، وهو مسافر لا مناص من ذلك وعلى وجه السرعة:

- ما الذي تقوله يا عزيزي !!؟

- هو ذاك.

- إلى أين السفر وما الداعي لذلك؟

- إلى إيطاليا.. هجرة.. سعياً وراء اللجوء.

- هجرة.. لجوء..!!

- أجل.. هو ذاك.. إن حصلنا على اللجوء.. نسكن بيتاً مجاناً وكل واحد منا له راتب شهري يكفيه وزيادة.

أمسكت يده وجثوت إلى الأرض:

 - محمد أرجوك.. إبق عندنا.. ودعك مما تقول

- أنا مصمم على السفر من أجلكم.

- محمد.. أرجوك مائة مرة.. أولادك.. لا تترك هذه الزهرات الجميلة.. لا تتركها في مهب الريح.

قال مستنكراً:

- أي ريح يا رانيا ؟ أنا أعمل لأجلكم.

- مصلحتنا جميعاً أن تظل معنا، لا أخفيك أننا تعرضنا...

- لأي شيء !!؟

كنت نويت أن أخبره بمحاولات الابتزاز لكني راجعت نفسي وغيرت رأيي:

- لا شيء.

- إذن ماذا؟

- العيش بدونك.. لا يساوي شيئاً.

- افتكرت حدث لكم شيء بغيابي عنكم.

- لا.. لا.. لم يحصل شيء سوى أننا شردنا عن بلدنا وأهلنا ألا يكفي هذا؟

قمت واقفة فالرجاء لا يجدي هنا.. قد يفيد المنطق والجدل وقد لا يساوي شيئاً عند رجل بدل السجن والاعتقال من شخصيته، وأثر في نفسيّته.

- يعني مصمم لا تراجع عن الفكرة..

- نعم .. نعم دفعت مالاً أيضاً..

- ولمن دفعت ؟

 - للذي سيذهب  بنا ويدخلنا إيطاليا على المضمون.

- ومن يكون يا ترى؟ وكيف تعرفتم عليه؟

قال بطلاقة وبساطة:

- هو شخص معروف .. مأمون موعد.

- مأمون موعد.. يا إلهي!!

- مالك؟ أصبحت ترتعدين بمجرد سماعك الاسم.

- حق لي، هو إنسان سمعته غير طيبية.

- لا يا رانيا.. الرجل تغيّر.. كثير ناس أمّنهم إلى أوروبا وأمّن لهم اللجوء.

- معنى ذلك أنه امتهن العمل.

 - صحيح أنه رجل (حربوء) لكنه يفيد ويستفيد.

سالت دموعي على وجنتي عندما رحت أقول:

- حربوء.. ولا ريب ها أنت قلتها.. على كل لا بأس، وكم يأخذ على العملية؟

- ثلاثة آلاف على الشخص.. ثلاثة آلاف دولار..

- وهل دفعت؟

- طبعاً دفعت وابن أخي أيضاً.

- أولادك كانوا أوْلى بهذا المال.. ننستر به.. وأنت طبيب بارع في تخصصك جراح عظام مهول، يمكن أن تجد عملاً في أي مكان.. ونحن تحت أعينك.

- رانيا.. أرجوكِ لا تقفي في طريقي.

- مهلاً.. مهلاً.. لا عليك كما تريد.. سامحني إن كنت أزعجتك..

تنهد وأطلق زفراته:

- استغفر الله.. الله يلعن الشيطان..

قلت في نفسي.. الشيطان الذي أغواكم.

- متى السفر؟

- هذه الليلة.. سنركب البحر..

- كان الله معكم.. الله يحميكم..

* * *

لم يمكث زوجي عندنا سوى ليلتين أو ثلاثة، لم نكد نراه أو نهنأ بوجوده، كان على أحر من الجمر في إقامته وبوداعه كأن الطير على رأسه.

في هذه المرحلة ما عدت أُركّز كثيراً فقد ضاع ذهني مني، حمدت الله على كل حال.. قد سبقت شقوتنا وما حل بنا ليس سوى عينة صغيرة مما حل ببلدنا وما حدث لأهله.

مضى ما يقارب الشهر على الوداع وانقطعت أخبارهما.. لا اتصال ولا رسالة ولا بسمة عبر الأثير ولا عبسة في الهواء، وأنا لا أعرف أي رقم جوال جديد لزوجي، وقد أبلغنا مسبقاً أنه هو سوف يتصل بنا ويطمئننا، إنما لاشيء من هذا حصل.. وصرت أبيت قلقة وأصحو من أحلام مزعجة.. على نار مشتعلة في جوفي أمضي الليالي وأقضي الأيام.

ومن ثم على حين غرة وردت إلي الرسالة، نزلت عليّ كالصاعقة  وكانت القاصمة، أو أستطيع أن أسميها نعوة لزوجي ومواساة لقلبي مرسلة من ابن حموي:

بسم الله الرحمن الرحيم: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس).. (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: امرأة عمي العزيزة..  سامحيني على تقصيري.. فقد تقصدت أن لا أرسل لك شيئاً حتى نصل إيطاليا وتتبلور الأحداث معنا، أيضاً سامحيني للخبر المفجع.. ولا بد أن أعلمك عن وفاة عمي رحمه الله، حين ركبنا المركب وابتعدنا قليلاً عن الشاطئ فقد أطلق علينا خفر السواحل المصري الرصاص، فأصيب عدد من الركاب وكان من بينهم عمي، ثم وافته المنية ونحن في الطريق تقبله الله مع الشهداء، وعندما نزلنا إيطاليا كان دفنه هناك.. وهذا كل ما عندي، نحن ننتظر الفرج، البقاء لله.. كان الله في عونكم.. وعوضكم خيراً.. أعظم الله أجركم . وجعلكِ من الصابرات المحتسبات والسلام.

مثل هكذا خبر يمكن أن يقطع أوصال القلب، انهمرت دموعي غزيرة.. بللت الكلمات في خشوع.. أحسست أنه تكسرت مني الضلوع.

ثقيلة أيام الحزن.. وئيدة لياليه.. مغرقة الهموم.. سقيمة المرور.

كثير من المهاجرين تهريباً أكلتهم لجة البحر فماتوا غرقاً، فالمأساة عامة وليست خاصة بنا.

قد تعبت من شدة الكدر.. أصاب جسدي وتفكيري الوهن.. ثم خطوت إلى الأمام في مقام رجل حمل مسؤولية أسرة ليس لها سواه من عائل.

لكل شيء نهاية، سلمت أمري لله.. حسبي الله ونعم الوكيل، أخذت أعد أيام العدة كي أخرج وأبحث عن مخرج من مأزق وقعنا فيه، وصار حالنا عليه بما لا يرضي صديقاً أو قريباً، المال الذي لدينا كاد ينفد، ومع الشهور المعدودة تراكم علينا دين من إيجار المسكن.

إلى أن اضطررت «مكره أخوك لا بطل» إلى ترك السكن، وأخيراً أسكنتنا هيئة سوريا الغد مشكورة مأجورة في منطقة «ابنِ بيتك» مجاناً مع بعض أغراض لا بد منها للسكن، ولا بد من أن أعمل لأطعم أبنائي «المشردين»، بعد بحث يسير وفقت إلى عمل.. أكلات  شامية وأسعى في تسويقها أو حسب التواصي..

وسوم: العدد 743