ليلة القبض على جورج، من الحياة اليومية لمواطن سوري

هذه هي قصة جورج من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي حدثت أمامي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.

 كما ذكرت في قصص سابقة، فبعد تخرجي في الثمانينيات من كلية الهندسة الميكانيكية وقبل سفري إلى أمريكا عملت لفترة وجيزة في مؤسسة انشائية عسكرية بصفة مهندس متدرب.كان مكتبي في المؤسسة مجاوراً لمكتب شاب لايتجاوز العشرين نسيت اسمه ولكن سأطلق عليه اسم جورج كونه من إخواننا المسيحيين والذين كانت تربطني بالكثير منهم روابط صداقة قوية. وكما ذكرت أيضاً في قصص سابقة، فقد كانت نسبة الموظفين والعمال من الطائفة العلوية تتجاوز الخمسين بالمئة، وكانت تربطني بالعديد منهم علاقة زمالة عمل جيدة. وللعلم فقد وقف العديد منهم أيضاً معي حين لفق أحد العناصر المخابراتية في المؤسسة تقريراً ضدي كان الهدف منه إرسالي إلى سجن تدمر السئ الصيت. كان جورج شاباً وسيماً طويل القامة، وكان ملتحياً على الموضة، على شاكلة نجوم السينما وليس على الطراز الاخونجي. كما كان الشاب يمتاز بروح دعابة لاتخفي نفسها وكذلك بابتسامة دائمة وحرارة بالقاء السلام على كل زملائه في العمل. بعد فترة قصيرة من مباشرتي في المؤسسة، وبعد عدة أحاديث فيما بيننا، فهمت أنه يدرس في أحد المعاهد المتوسطة وأنه يخطط للسفر إلى فرنسا بعد أن يتم خدمته العسكرية الالزامية. ولما سألته لماذا فرنسا بالتحديد، قال لأن لديه أقارب وأصدقاء كثر هناك وهم على استعداد لاستقباله ومساعدته لايجاد عمل.

 لم يكن حلم جورج بالمستقبل مختلفاً عن أحلام الكثير من السوريين، وأنا منهم، والذين لم يروا مستقبلاً لهم في بلدهم، فقرروا البحث عن هذا المستقبل في بلد أجنبي. حدثني مرة ونحن نشرب الشاي في مكتبي خلال فترة الغذاء عن أحلامه بالعيش في (باريس) وزيارة (مونت كارلو) في الاجازات وحضور مهرجان (كان) السينمائي كل عام وامتلاك شقة صغيرة وسيارة. ولما سألته إن كان يحلم أيضاً أن يتزوج فرنسية، قال أنه يحب فتاة من القصاع من أيام المدرسة وأنهما اتفقا أن تلحقه إلى فرنسا بمجرد أن تستقر أموره هناك. كان الحديث مع جورج ممتعاً بشكل خاص كونه يعيدني خمس سنوات إلى الوراء إلى أجواء وقصص أيام الجامعة والدراسة، كما أن أحلامه كانت مطابقة لأحلامي من حيث السفر وإن كانت مختلفة من حيث الوجهة. لم يكن جورج ودوداً معي فقط وإنما مع كافة الموظفين والعمال، فكان الجميع يأتون لزيارته في مكتبه أو يدعونه لمكاتبهم أثناء الاستراحات.

 قبل سفري بفترة قصيرة، لاحظت تغيب جورج لعدة أيام متتالية مع بقاء مكتبه مقفلاً، فاتصلت مع أحد الموظفين من الذين كان يسهر معهم في عطلة نهاية الاسبوع، فقال لي أنه مريض. من اللهجة التي تحدث بها الشاب، فهمت أن هناك شيئاً آخر غير المرض، ولكني لم أسترسل بالموضوع كونه حسب مايقال في سورية (الحيطان لها أذان)، بمعنى أن بعض المواضيع من الخطر التحدث عنها بالعلن، خاصة وأن من تحدثت معه كان من (الطائفة الكريمة). ماأن حانت فترة إستراحة الغذاء، حتى فوجئت بالشاب الذي سألته عن جورج يدق باب مكتبي، ومعه ثلاثة موظفين أيضاً يعملون تحت إدارتي، ويطلب الاذن بالدخول. لم يفاجئني أنهم أتوا إلى مكتبي وأنهم جميعاً من الطائفة، فهم كانوا من أصدقائي، وإنما فاجئني أنهم حضروا من دون إتصال مما جعلني أشعر أن هناك أخبار سيئة على وشك أن أسمعها. كان في وجوههم مزيجاً من الحزن والغضب وكان بامكاني أن أرى الدموع تحاول جاهدة الخروج من مآقي عيونهم لولا أنهم كانوا يمنعوها ليحتفظوا بالصورة التقليدية للرجل الشرقي.

 مرت لحظات طويلة وأنا أتنقل بنظري من واحد إلى الآخر، منتظراً من أحدهم أن يبدأ بالحديث، ولكن دون جدوى. لم أكن بحاجة لذكاء خارق لأعرف أن الموضوع يتعلق بجورج، فقررت أن أكسر الصمت وأبدأهم بالسؤال: هل جورج بخير؟ لم أكن أعلم أن سؤالي هذا كان كمن يذهب إلى بركان ثائر ويجده مسدوداً بصخرة فيزيحها. بعد سؤالي انفجر أحدهم وبدأ ينعت جورج بألقاب من شاكلة (حمار، جحش، بهيم، كر ...). ولما سألته لماذا ينعته بهذه الأسماء، قال لي (والله ياأستاذ عم احكي هيك من حبي الو وكمان من قهري منو، وقع حالو بمصيبي مالو فيها ويمكن ماعاد نشوفو، وكلو من طول لسانو وحمرنتو. والمصيبي انو حتى نحنا يللي ايدنا طايلي ومنعرف ناس كتير مافينا نساعدو ومالنا عرفانين وينو). قررت هنا أن ألزم الحذر بالحديث، بالرغم من أني بين أشخاص أودهم ويودوني، ولكن تركتهم يتابعون دون تعليق. حين وصل الشاب بالحديث إلى هذا الحد، كان صوته قد بدأ بالاختناق، فأشعل سيكارة ووجه رأسه باتجاه الأرض كي لاأرى دموعه التي كانت ماتزال بانتظار أن يفك أسرها.

 وهنا سارع أحد صديقيه لاسعافه وتابع الموضوع. قال لي أنهم كانوا في سهرة طرنيب وحليب سباع (مشروب العرق) مع جورج ومع (آخرين) مساء الخميس الماضي، ويبدو أن جورج سكر وتفوه بكلام لم يعجب أحد الموجودين من (الآخرين) فأجرى اتصالاً أدى إلى اعتقاله في نفس الليلة من بيته. وهنا تجرأت قليلاً وسألته: بس مايكون سب الرئيس؟ فكان الجواب: ياريت كانت بتنحل وبياكل كم كف وبيطلع. لابد من الاشارة هنا أن تهمة (سب الرئيس) كانت في الثمانينيات موضة ومن التهم الجاهزة والعادية والتي لاتحتاج لاثبات قوي، وهي التهمة التي سبق ولفقت لي وأشرت إليها في بداية القصة. سادت عدة لحظات من الصمت قبل أن يستلم الشخص الثالث الحديث ويتابع قائلاً: حين سكر جورج، التفت إلينا وقال مازحاً: هل حقاً تصدقون أنفسكم أنكم علويون؟ أنتم نصيريون والدليل أنكم تعبدون (...) المرأة. ثم تابع قائلاً: عند هذا الكلام صحا الجميع من السكر إلا جورج، ووقعت عليهم هذه الكلمات وقع الصاعقة وعرفنا نحن أصدقائه أنه قد أوقع نفسه بمصيبة لن يخرج منها. حاولنا أن نوقفه عن الكلام بأي وسيلة، حتى أننا بتنا نتناوب بوضع يدنا على فمه لاسكاته كي لايستسرل. حين أوصلناه إلى بيته كانت الساعة تقارب الثانية صباحاً وظننا أننا قد أنقذناه، ولكن سيارة الدورية أتت بعد مغادرتنا واعتقلته. إلى اليوم لاأحد يعرف أين هو وأغلب الظن أنه في سجن تدمر أو قد مات تحت التعذيب، وقد وصلتنا تحذيرات من جهات أمنية أن لانحاول تتبع أخباره ومساعدته وإلا سنلحق به، ولن يشفع لنا أننا من (الجماعة).

 هذه هي سورية الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، هنا في سورية تنتهي أحلام المستقبل إما في السجن وإما في القبر بسبب كلمة، أو حتى في أحيان كثيرة بسبب عداوة شخصية ليس لها علاقة بالسياسة لامن قريب ولامن بعيد. فقط هنا في سورية، كلمة واحدة تنقلك من (مونت كارلو) إلى (تدمر)

وسوم: العدد 744