آلام

محمد محمود عبَّار

أقبلت الشمس على المغيب، دخل فصل الخريف وأشرف العام على الأفول، لكن الحرارة لما تزل فوق معدلها بمنسوب غير قليل.

كذلك أشرفت أم أحمد على الانتهاء من لملمة أغراضها وتجميع ملابس أطفالها وهي في فسحة هذا البيت المهترىء الجدران في أحد أحياء عمان القديمة الشعبية، حيث إن صاحب البيت المؤجر طلب منها الإخلاء بعدما تعذر عليها دفع مائة وعشرين ديناراً عن كل شهر من الأشهر الثلاثة المنصرمة.

قعدت قليلاً تسترد أنفاسها، شردت بذهنها نحو بلاد الشمال.. هناك كان أبو أحمد أيام العز لا يكل من العمل في أرضهم الزراعية.

أيام الصيف.. بل منذ بداية الربيع.. كل يوم يشغل المحرك الذي يعمل على وقود «الديزل» تتحرك المضخة جراء ذلك فتضخ الماء في الساقية من بئر حفر خاص لري مزروعاتهم.

أم أحمد تعمل بنشاط، تجري أمام الماء لسقي الزرع والأشجار.

هكذا اعتادت أن تسعى على رزق أولادها مع زوجها كما جرت   العادة عند غالبية نساء القرية.

منذ الصباح الباكر استعدت للعمل، هاهو أبو أحمد يعلف الأبقار في الزريبة.. راحت هي تحلب البقرات الوالدات قبل إخراجهن لرعي حشائش البرسيم الخاص لإطعام الحيوانات، جاء الحلاب.. (أي بائع الحليب) فسلمته حصته اليومية من حليب يبيعونه له، والذي تبقيه تذهب لتعمل منه لبناً رائباً أو جبنة بيضاء، قسط منه تجزئه لإفطار الأولاد عليه.. لكل واحد كأس حليب ساخن صغيرة على ريق الصباح، أما هي وزوجها فلكل منهما كأس كبيرة مع كعكة مسمسمة.                                                                   هكذا تمضي معهم الأيام هنيئة سعيدة على وقع العمل الناشط.. بالتأكيد مع هذا العمل الفلاحي يتواكب تعب لا يصل لحد الإرهاق.. إنما فيه ملذة وسعادة، يكفي أنهم مكتفون ذاتياً لا يحتاجون أحداً من فضل الله ونعمائه عليهم.

التجول في الحقل الأخضر ذو شجون.. فيه راحة نفس ومتعة نظر.

ها هي تُصيخ السمعَ لزقزقة عصافير ركبت شجرة التوت ثم انتقلت إلى التين في موسمه، أشياء جميلة.. سريان الماء في السواقي وفي  (مساكب الزرع )، نسمات الصباح وندى غمر كل شيء، والمشي فيه، ثم تأتي شمس الضحى تمتصه مجففة الأوراق والنباتات، كل ذلك وأشياء أخرى في الفضاء المترامي الأطراف له في قلبها حنين، ويحمل لها ذكريات على أجنحة طيارة.

بيتهم الريفي في أقصى الحقل أمامه يمتد السهل والطريق الواصلة بالبلدة القريبة جداً تحفها أشجار على الجانبين.. يخف بقربها جدول ماء رقراق، هناك تتفتح أزهار الربيع بألوانها وعبق أريجها الفواح.. المدرسة أيضاً ليست بالقريبة ولا هي بالبعيدة يصلها الأولاد كل يوم دون عناء.

ما برح شريط الذكريات يدور في رأسها.. يغمر مخيلتها يجري مسرعاً مثل (فيلم تاريخي) فيه إبداع الإخراج وقوة الإنتاج وبراعة الأداء.

في ذات يوم من زمن مضى والقدر فيه انقضى، عندما كان الأولاد عائدين من مدرستهم ظهراً، انهمرت القذائف على بلدتهم دون معرفة السبب، سقطت إحداها قرب الطريق الواصلة لحقلهم، أصيب أحمد في ساقه بشظية طائشة مارقة، تراكض زملاؤه الطلاب خائفين مهلوعين.. لكنهم ما لبثوا أن عادوا إليه بعدما ابتعد الخطر عن طريقهم.

تقاطروا على حمله مسرعين به نحو عيادة الطبيب الخاصة ليست الوحيدة في البلدة والدم ينزف منه، آخرون توافدوا على دار أهله يحملون الخبر غير المبشر بخير إلى ذويه.

هرعت أم أحمد برفقة زوجها ميممين شطر العيادة يركبهما الفزع ويخيم على كيانهما الحزن.

بصعوبة بالغة استطاع الطبيب إخراج الشظية من الساق المصابة ثم عقمها وربطها باللفائف وحقنه بالمضاد الحيوي ومضاد الكزاز، مباشراً إلقاء وصاياه على مسامعهم أن يستروا عليه ما عمل وما فعل مخافة أن يشيع أمره فتنقله ألسنة المريبين إلى فوق فيناله عقاب شديد!!

أردف الطبيب المحترم بقوله:

- أحمد قد يلزمه عملية جراحية لساقه، لكنكم لا تستطيعون إجراءها في مشفى رسمي.. قد تكون العواقب وخيمة هناك، ابحثوا له عن طريق آخر.. أدعو الله أن ييسر له ذلك.. شافاه الله وعافاه.. برعاية الله وحفظه.. اذهبوا سريعاً راشدين.

ثم عاد يقول:

- اطلبوا من رفاقه الطلبة التفرق إلا من يلزم لإعانتكم؟

أبو أحمد يرد عليه جميله بكلماته الطيبات: حاضر دكتور.. شكراً لك.. جزاك الله خيراً وجعلها حسنة في صحيفتك.

تناول أبو أحمد من يد الطبيب وصفة العلاجات مسطرة على ورقة ليست مروسة بعنوان عيادة الطبيب الشهم مغادراً المكان ومعه كل من حضر برفقته.

الطلاب أنفسهم وهم في المرحلة الإعدادية أدركوا بداية مغبة الذهاب بزميلهم إلى (المستوصف) المركز الصحي الحكومي، ذلك يشكل خطراً داهماً على حياته وأزمة تلامس مصيرهم أيضاً، لذلك ذهبوا به إلى عيادة خاصة يتناوب عليها طبيبان.

*   *   *

انفض الفتيان بعيداً لكن أحدهم آثر البقاء عند آل أبي أحمد، الرجل يمعن التفكير فيما يصنع على ضوء المصيبة التي حلت بدارهم، ابنه الأكبر يلزمه عمل جراحي، حين يذهب به إلى مستشفى حكومي سوف تلفق له تهمة ارتكاب جريمة القيام بعمل مسلح ضد الدولة مع العصابات المسلحة، فيكون مصيره غياب عن الوجود.. يغمض عينيه كي ينقذ نفسه من تخيلاتها الواهمة الراهنة.

حين يلقي نظراته في مياه الساقية الراكدة جراء إطفاء محرك الضخ.. يتراءى له مصير ولده البكر منعكساً في مرآة بركة الماء المربعة، مشهد لا يطيق رؤيته بعينين واهنتين.. بقلب لا يملك أن يسمع وعقل لا يستطيع الثبات وقد هوت مداركه.

عندما راق الجو قليلاً نطق الفتى الذكي:

- يا عم.. أنا أدلك على الطريق.

- أي طريق؟

- الدكتور أشار أن أحمد يلزمه عملية جراحية للساق.

- نعم.. ذلك ما قاله.

- إذن.. علينا أن نسعى لذلك.

- وكيف يكون؟.. الأمر خطير.

- صحيح ما تقول.. والدكتور حذر من المستشفيات هنا.. لا يخلو مشفى أو مركز صحي من رقيب، لذلك لازم نخرجه من البلاد إلى البلد المجاور.

- تقصد.. السفر إلى البلد الآخر.

- نعم.. هناك يسهل علاجه.

الرجل يلتفت إلى الفتى:

- وكيف لنا بذلك يا ولدي؟

- أنا أعرف شخصاً.. يوصلكم إلى مبتغاكم.

يطرق قليلاً ثم ينهض قائلاً:

- يدي بحزامك.. عجل لنا بالموضوع.. إنه مستقبل ابني أحمد.

لما تمض سوى أيام قليلة على هذا الحوار حتى كانت الأمور قد ترتبت بعدما قرر الرجل الخروج بعائلته تجاه الحدود الأردنية بواسطة من يعرف الطريق وسبق أن سلكها مراراً وتكراراً.

الموضوع لم يعد يخص أحمد وحده إنما يتعلق بجميع أفراد العائلة.. الخطر داهم والأيام القادمة حبلى بما لا يعرف أحد كنهها وحملها، الخروج أولى.. وإخلاء الساحة لا شيء عنه يعْلا..

سبق المسير نحو الجنوب أن عهد إلى أحد أقاربه برعاية المزرعة من سقاية وما إلى ذلك والاستفادة من ثمرها ونتاجها.

الفتى يغيب عن مدرسته ليرافقهم في رحلتهم الشاقة حتى يصلوا الحدود.. يساعدهم بحمل صديقه أحمد عند تَرجُّلهم من الحافلة التي أقلتهم إلى هناك.

صحبته مع أحمد تطغى على صحبة المدرسة والتحصيل، لما تعد الدراسة شيئاً مهماً مقارنة بما حل بالناس وقد كادت الفأس تصل الرأس.

الفتى الصديق يودعهم وقد أودعهم الخط الحدودي بعد المغيب ليعود إلى بلدته الشماء.

وهم تُغيِّبهم العتمة عن أعين الرقباء كان عليهم تخطي الحد الفاصل الذي رسمته معاهدات الاحتلال الغربي لتقسيم بلدان العرب في زمن غابر.

هناك يتلقفهم نشامى الجيش العربي مستقبلين إياهم في عرباتهم العسكرية المموهة ما بين أخضر وأصفر مرحبين غير عابسين في وجوههم.

أُودعوا الزعتري، قبعوا فيه أياماً معدودات، لم يطل بهم الانتظار وهم على أحر من الجمر المتقد.

يسر الله أمرهم فأتاهم من يتكفلهم، خرجوا من المخيم إلى عمان، استقبلهم أهل الخير وحصّلوا لهم هذه الدار المتواضعة ودفعوا لهم إيجارها على مدى شهرين متتابعين، وراح السعي يجد حثيثاً حتى جاءت كفالة العملية الجراحية مجاناً بدافع محسنين.

كذلك حدث دلالتهم للتسجيل لدى مفوضية الأمم المتحدة لللاجئين، استفادوا خلالها من بطاقة صندوق الأغذية بمعدل 24 ديناراً للفرد شهرياً والعلاج مع علاجات مجانية في مستشفيات ومراكز الصحة الحكومية.

أيضاً تم تسجيل الأبناء والبنات في المدارس بوجه العام الدراسي الجديد.

أما همُّ راعي العائلة فقد كان كبيراً إذ كبرت عليه المشكلة.. منها ترك بلده وداره وحقله وأقبل لاجئاً إلى هنا بأسرته.. أمر لم يكن له في ذهنه مساحة متوقعة فوقعت عليه ثقيلة وأحدثت في داخله شرخاً كبيراً.

كل يوم يرى بأم عينه الشباب ممن حملوا مهناً يذهبون باكراً إلى مشاغل النجارة والحدادة وصيانة السيارات وغيرها للعمل والترزق.

أما هو فما عمل في غير الزراعة ولا يستطيع المضي إلى الريف للعمل هناك في مزارع الناس وقد كان يشغل عنده عمالاً في مزرعته، أمر صعب لا تستسيغه نفسه ولا يهضمه ما حمل صدره.

لا يجد شيئاً يقتل فيه وقته سوى التسكع أو سند الحيطان أوالجلوس إلى بعض العاطلين عن العمل أوالمتقاعدين يروي كل واحد منهم أحاديثه ويقص حكايات من أيام أبيه وجده.. وماضيه الشخصي.

شهور قليلة مضت على هذا الحال لكن الرجل سئم حياة الفراغ وعدم الإنتاج مما يصل بهم إلى حالة الحاجة والعوز وهو ما لا يقبله لنفسه ولا يستسيغه لأسرته.

توجه نحو زوجه قائلاً:

- لئن ظللت على هذا الوضع فسوف أنفجر أو أموت كمداً.                                                           

- وَحِّد الله.. طول بالك يا ابن عمي.

 تنهد قائلاً:

- ممكن ينقطع حبل طولة البال من كثرة المد والمط.

- ما العمل؟ هكذا كتب علينا.

- اللهم طولك يا روح.

- اللهم ارزقنا بالحلال وراحة البال.. اللهم فرجك يا رب.. يا رب أرجعنا بلادنا سالمين.. فَرِّجْ عن كل الناس يا رب العالمين.. آمين. ترفع يديها بالدعاء.

يذهب عنها متأففاً، ثم يعود ساعة أخرى:

- أنا قررت...

- ماذا؟

- قررت الرجوع إلى البلاد.

- هكذا سريعاً.. تفاجئنا بالقرار..

- أعود وحدي..

- ونحن؟

- تظلون هنا.. أنا سأرجع للعمل في الأرض.. حرصاً على مزروعاتنا وأشجارها، أنتم هنا وأنا أرسل لكم مالاً يسد حاجتكم.

*  *  *

في الوقت الذي غادرهم باتجاه الزعتري.. ترك لهم بعض المال يستعينون به لحاجتهم وأبقى في جيبه بعضاً منه.

خلال يومين تم قذفه إلى أرض حوران السورية برفقة آخرين ممن تمنوا العودة إلى ديارهم على ما فيها من علات وما يشوب رحلة العودة من عوائق ومخاطر.

قضى أياماً معدودات مقيماً في المنطقة الحدودية حسب الترتيبات والتعليمات إلى حين موعد قدوم من يقوم بمهمة توصيله إلى بلدته، غير أن الرجل الناشط نصحه بعدم دخول البلدة هكذا جزافاً لأنهم سيوقفونه على الحاجز.. فالأراضي التي تقع على مدخلها باتت تحت سيطرة السلطة المتسلطة.

- ما هو العمل!.. أين أذهب إذن؟

- سآخذك إلى عند جيرانكم.. هناك تجد حلاً مع أقرباء لك قد تجدهم نزحوا إليها وتلتقي بهم، أنزله بقرب البلدة ثم عاد أدراجه وهكذا كان، أما الأشد كوناً أنه لما يجد سبيلاً للحصول على غايته سوى امرأة شَبِّيحة تقيم في ذات البلدة وتعمل في مثل هذه القضايا.

استأجرت مركبة على حسابه، ركبت بجانب السائق وجعلته بالكرسي الخلفي، بكلمتين خفيفتين استطاعت تخطي الحاجز ببساطة ويسر.

تركته على باب مزرعته ووعدته بالتوصية عليه والعودة للإطلالة عليه بوقت قريب، أو الاتصال بها كلما لزمه شيء وقد طبعت رقمها على مقدمة واجهته

هناك علم أن بيته داخل مساكن البلدة قد أصابه برميل متفجر فذهب به إلى دائرة الأنقاض، بقي له بيت الحقل المتواضع.. إنه نعمة عظمى أن وجده مازال قائماً حتى هذا الوقت بعيد شهور انقضت على غربته.

    تجول قليلاً في مزرعته، بدا له حقل الحنطة عن بعد وقد مضى حصاده.. لا بأس أن صاحب الجوار قد رعاه وحصده فاستفاد منه سواء ترك له شوال قمح أم لا، المهم أن الأشجار باقية على حالها والبقرات على قيد الحياة.. يمكن له الاستفادة من ذلك وبعض شجرات زيتون سيقبل موسمها لاحقاً، البئر أيضاً بمحركه ومضخته لم تنهب هذا أمر جيد، ووضع غير ذات بأس، أحس بشيء من الراحة النفسية وقسط من الطمأنينة، فحمد ربه على عودته لأرضه وإن كان بُعده عن عائلته لا يروق له كثيراً، إنما الذي راق له وأسعده قليلاً أن أبناءه في أمان ونجاة من أي مكروه يمكن أن يصيبهم لو كانوا ها هنا وسط الصراع الدامي المدمي الذي شمل البلاد من أقصاها إلى أقصاها سوى مناطق محدودة.

على مدى أيام من ذات العام أرسل حوالة لأولاده لأكثر من مرة حيث كان خروجه إلى المدينة بواسطة تلك المرأة القادرة الواصلة.

من خلال ذلك توطدت العلاقة بين الطرفين فأخذ يطلبها لكل حاجة من حاجاته، وهي بدورها لا تتوانى عن تلبية طلباته «ولا تكذب خبراً» كما يقال.

مع الزمن ازداد ترددها عليه، ومن ثم داومت عنده حتى منتوجاته الزراعية من ثمار وخضراوات وحليب أبقار صارت تنقله بمركبتها المغلقة «باص فان» إلى السوق دون أن يكلف نفسه بمشقة ومغبة الذهاب والإياب، هي أيضاً تحاسب التاجر عنه فتعطيه حصته وتأخذ مالها من نصيب.

صارت شريكة معه بأتعابها وقد تكون شريكة عمره الجديد، فلا أحد يدري عن ذلك شيئاً إذ أصبحت تبيت عنده حين تأخرها، إلى أن ضغطت عليه فجعلته يتنازل عن قسم من أرضه في دائرة الأراضي (الطابو).

هي امرأة قوية الشكيمة من طائفة رافضية امتصته مثل نوع من الفراشات الهائمة تمتص رحيق زهرة عن آخرها.

هكذا كانت وقعته بين يدي هذه المرأة، إذ أصبح الوضع العام في البلاد لا بد لأي من أصحاب الأعمال كبيرة كانت أم صغيرة من استخدام بعض الشبيحة لقضاء حاجاته بل وحمايته من عصابات مختلفة المشارب والمآرب، أما الشبيحة فهم مختلفو المنابت والمشارب.

حتى كاد الرجل ينسى أن له عائلة تحتاج إليه في بلاد الغربة، أخيراً غدت المرأة الغريبة القريبة.. بل عادت أقرب إليه من حبل الوريد، راحت تعطيه من ماله النزر اليسير وتأخذ هي القسط الأكبر مما أثار حفيظته عليها، فصرخ في وجهها وعنفها ناسياً ما تملكه من قوى في يدها.

ما مضى غير يوم واحد حتى جاءت الدورية في طلب أبي أحمد.. ذهب الرجل إلى غياهب النسيان ولم يعد، لقد شقي كثيراً في السنوات الأخيرة.. قد يكون بالحل الأخير ذهب إلى راحة أبدية!!..

خلا الجو للمرأة وأصدقائها فسيطرت على كل شيء، وقد طق عرق الحياء عندهم فأوغلوا في غيهم سادرين.

*  * *

بكل بساطة فقدت الأسرة معيلها وهي ما زالت في الغربة.. الغربة ليست سهلة.. الغربة طالت يا ربي.. بلسان حال غير ناطق تقولها، ماذا تفعل؟ وما الذي تملكه من حلول!!

في الشهور الأخيرة قطعت المفوضية المساعدات عن اللاجئين بحجة ضعف الموارد، سبق ذلك أن ألغت وزارة الصحة العلاجات المجانية بالتوافق مع المفوضية.

أما الجمعيات الخيرية والروابط المحلية فقد جفت مواردها إلى حد غير قليل من طول الأمد، ولم تعد قادرة على تغطية حاجات اللاجئين لكثرة عددهم، خاصة المحتاجين منهم، في ذات الوقت توجد فئة غير محتاجة ومكتفية، لكنها تلح في الطلب وتلح في السؤال وتعتب، أو يمكن لها أن تناوش المتطوعين في عمل الخير على ذلك.

أحمد، الولد الأكبر في الأسرة، مضى عليه عامان منصرمان منقطعاً عن الدراسة بسبب عاهة في ساقه تعيقه عن الانتظام وكذلك العمل.

في هذه السنة انتظم في دوام مسائي بعد الظهر مدرسي مخصص للسوريين يسعى إليه بعرجته، الابن الثاني سعيد في الثالثة عشرة من العمر أخرجته أمه من المدرسة كي يعمل لحاجتهم، ذهب وعمل في «ورشة» تكييف في الأبنية الجديدة، مارس ذلك فترة ثم جاءتهم دورية العمل ومكافحة الوافدين فأخذوه عنوة، هناك كتبوا عليه تعهداً أن لا يعود للعمل وإلا سَفِّروه عن طريق المخيم الذي جاء منه.

تفاقمت أوضاعهم وساءت حالهم، ولم تعد أم أحمد تجد الحل المناسب لمشكلة أبنائها وبناتها، وقد سدت في وجوههم كل السبل، وتتالت عليهم المصائب والنوائب.

من باطن آلامها الداخلية توصلت إلى شبه قرار بأن العودة إلى البلد الأم على ما فيه من سيئات وسلبيات.. مشاكل ومخاطر.. عنف وقتل بلا حساب وبلا أسباب، قد يكون الحل الأمثل لخروجهم من واقع أحدق بهم.

يمكنها أن تعود إلى هناك لتبحث عن حق أبنائها قبل أن يضيع كل شيء، وتطالب بزوجها أيضاً، هكذا تهيأ لها الأمر وعرضته على الأسرة بتجاربها اليسيرة فكانت بالإيجاب.

بمناسبة عيد الأضحى المبارك حصلت كغيرها على كمية من لحوم الأضاحي كادت حتى الآن أن تنفد.

عند اتخاذها قرارها وبعد التأكيد عليه حصلت على مبلغ مالي يسد الحاجة إلى حين الوصول للبلد من جمعية خيرية مسجلة فيها.

*  * 

في صباح اليوم التالي جاء صاحب الدار لتسلمها أعطته مفاتيحها وتركت فيها «العفش» أو ما يسمى بالفرش بدل ما انكسر عليها من إيجار، أحست به قد فرفش وانتعش على وقع لحن رائحة الدار وما فيها، تركته يتجول فيها يعاين أغراضها ليؤجرها بمبلغ يفوق المائتي دينار.. الآن صارت تسمى «شقة مفروشة للإيجار» على علاتها وسلبياتها

أسرعت الأسرة إلى الحافلة التي تنتظرهم في الخارج لنقلهم إلى ضواحي مدينة المفرق حيث مخيم الزعتري الذي قدموا منه قبل سنتين ونيف.

إحساس جارف بأنهم خرجوا من السجن للتو.. تنفسوا هواء البراري بطلاقة.

حنين قاتل إلى الحقل والفضاء الفسيح الممتد أمامه وإلى زقزقة عصافير الدوري والتين والشحارير وغيرها التي كانت في أيام الماضي، يا ترى هل تعود؟ ويعود الصياد الذي كان يرتاد مزرعتهم لصيد عصافير التين الزاكية الشواء حيث كان في بعض الأوقات يعطيهم منها، لئن كان الصياد ذاك حراً طليقاً  أو باقياً على قيد الحياة، ورَجُلها هي، ما مصيره الآن؟!!

أَم الحلاب والحليب والبقرات السمان، أشياء كثيرة تراود خاطرها.. قد عاد شريط الذكريات يغمر مخيلتها طيلة الطريق حيث عبرت الحافلة بهم كثيراً من مصانع ومستودعات ومحرقة المياه العادمة ومصفاة البترول ومداخن كثيرة تلوث أجواء مدينة الزرقاء وما حولها.. أيضاً هناك جامعات ومنطقة حرة لا يمرون عليها.. على كل حال أم أحمد لم تر شيئاً من كل ما حولها وحتى بعض المزارع.. لئن رأتها فقد رأت فيها مزرعتهم وحقلهم ليس غير.

سماء الخريف تكاثرت فيها الحبك البيضاء الجميلة، أما هي فلم تر منها شيئاً ولم تثر انتباهاً لديها.

بعض الأولاد كانوا يتأملونها تروق لهم وتسعدهم هنيهة أو ساعة.. يرون في تعرجاتها بصيص أمل على ما في الجوانح من آلام وما يكابدونه من عناء ووعثاء.

أخيراً عبروا المخيم وباتوا فيه بانتظار الترحيل أو القذف داخل الأراضي السورية.

حان الوقت الموعود بعد تجمع العائدين، حافلتان اثنتان أقلتاهم مع شارات الوداع وتدوين أسمائهم في سجلات خاصة للموضوع إياه، هناك أفرغت حمولتها على الخط الفاصل بين القطرين المتشابكين المتداخلين في أصل الأصول وقبل حصول مسرحية الفصل والفصول.

الجيش الحر على الطرف الآخر تلقفهم بدوره لتأمينهم إلى مناطق شبه آمنة

انسكبت راحة مؤقتة في الصدور، أم أحمد تمعن التفكير في أمرها وأمر أسرتها.. تبحث عن أحد تستشيره فيما تفعل.. إذا وجدت أحداً خالي البال.. يندر أن تجد من يسعفها فلا أحد خالي الوفاض، الجميع مشغول بحاله وآلامه وبحال واقع أليم يحيط به، وقد جاء العدوان الروسي القيصري الهمجي داعماً للعدوان الفارسي الأسدي السابق بإيحاء غربي صليبي وتنسيق مع العدو الصهيوني صاحب المصلحة الأولى في كل ما يحدث من دمار وخراب، آخذاً في التمدد من الشمال إلى الجنوب.. حتى طفح الكيل مؤخراً بقصف إجرامي تدميري لبلدات في الغوطتين.

لا تدري ما تفعل هل تستعين في حل مشكلتها بشبيحة جدد أقوى على شبيحة لصقت بزوجها فأردته غائباً عن الوجود!!

أم تستعين بقوة الأقوى والأعظم والأقدر على كل متجبر متسلط على رقاب الخلق.

إنه ربها ورب كل شيء، به تستغيث وتستعين تتوكل عليه وتلجأ إليه وليس سواه من معين.. تبرأ إليه من ذنوب الخلق.. وهو أحسن الخالقين.

30/10/2015م

وسوم: العدد 744