هل تتحوّل الثورة إلى حالة طائفية؟

هل تتحوّل الثورة إلى حالة طائفية؟

عقاب يحيى

لا يمكن أن تتحول ثورة شعب إلى حالة طائفية حتى لو أثقلوها بأطنان الوقائع والمحاولات.. لأنها تموت وقتذاك، وتصبح شيئاً آخر..لكن مخاطر كبيرة تحدق بالثورة في بعض وجوهها، وبعض ما يطفو على سطحها، وفي موقع ودور ردّات الفعل ، وآثار المشاريع الخطيرة التي تجوب عديد بلدان الوطن العربي ناشرة سموم المذهبية، والانقسام العمودي الذي يؤسس لما هو أبعد : في تكريس انقسامات قد تكون تمهيداً لإنشاء كيانات جديدة ترسمها خرائط الغير .

الصراع، ورغم بعض وجوهه البغيضة، والمزيّفة، والمصنّعة لم يكن في أصوله، ومحتواه بين الطوائف والناس المختلفة مذهبياً.. بل كان اجتماعياً، وحول قضايا الإنسان : حقوقه وحرياته الفردية والجماعية، ذلك بالرغم من الموضعات الطائفية التي أقامها نظام الفئوية واستند إليها على مدار حكمه .

ـ النظام، وبتخطيط مسبق، وخبيث، ومن الأيام الأولى لعمر الثورة، وحين فاجأه تصميم الشعب على المضي قدماً، والانتقال من شعارات الإصلاح التي قتلها النظام بالرصاص والقنص، والموت تحت التعذيب، إلى إسقاطه.. خطط، ودفع باتجاهات ثلاث : المؤامرة والفتنة وعصابات الجريمة والإرهاب.. في حين كانت الثورة سلمية تماماً، ووحيدة، كما هي حقيقتها، وشعبية عارمة تشارك فيها أطياف مختلفة...ولو كانت بنسب متباينة، وكان تلخيصها بشعار : واحد واحد واحد الشعب السوري واحد يعكس ويترجم بنيتها، وطبيعتها، مثلما كانت تلك اللحمة الشعبية القوية لمجاميع المشاركين فيها أبرز تعبير عن الوحدة الوطنية، وأقوى ردّ على مخططات النظام وحلفائه .

ـ أجهزة الأمن الخبيرة، ومعها مؤسسات وأطراف عديدة دفعت بكل الوسائل لحرف الثورة عن جوهرها. عن صلبها كي تتخندق في قفص معدّ، وكي توصم بأنها فعل مذهبي على" مجاميع" المذاهب الأخرى التي نصّب النظام نفسه على أنه حاميها، فراح ينفخ في بعابع التخويف، وينسج القصص التخويفية، ويضخّم من أثر بعض التصريحات، والتصرّفات المتخلفة، والطائفية لبعض المحسوبين على الثورة، والذين انغمسوا ـ بوعي، أو من حيث النتيجة ـ في ذلك المغطس، وقدّموا خدمات كبيرة للنظام فيما قالوا، أو مارسوا، وبعض ردّات الفعل على المذابح الجماعية بصبغة طائفية التي ذهب ضحيتها المئات، بله الالاف من السنة، مثلما الحال في عمليات التدمير، والتصفيات، والاعتقالات، والاستهدافات المركّزة، والمبرّمجة .

وعبر مسارات الثورة المتعرّجة، وثقل المهام، وتعقّد الأوضاع، وابتعاد أفق الانتصار الحاسم، بواقع قوة بنى التخلف، وانخلاع، واندحار مشروع النهوض التحرري، الوحدوي، والفشل العميم في تكريس العدالة والمساواة بين المواطنين، وما دخل على الثورة ـ بعد طغيان العمل المسلح، ونمو قوى التشدد، ثم تغوّل عديدها وسيطرتها على الميدان، ومحاربة، وأزاحة قوى الاعتدال التي لم تجد السند والدعم لها، وذلك التعويم الملغوم لتنمية وتقوية اتجاهات إسلاموية متطرفة راحت توظف الفعل الطائفي للنظام بما يقابله من تحشيد، وتعبئات وحقن يصل درجة الاحتقان القابل للانفجار.. تورّمت الظواهر المذهبية، ومثلها الإثنية.. وباتت منتشرة، وتقبض على وعي وحركة وتصرفات عديد الكتائب المسلحة والجهات المحسوبة على الثورة.

ـ هنا علينا أن نقف عند عدد من العوامل المتشابكة :

1 ـ لقد دفع تراكم الفعل الطائفي المنظم، والمتستر بواجهات كاذبة للنظام.. شبه القومية . شبه العلمانية، المدججة بنظام مملكة الرعب، وأجهزة الأمن الأخطبوطية، والخلط بين النظام والدولة، والفرد لصالح قداسة الفرد القائد، بواقع بنية النظام النهبية، المافيوزية، التسلطية، الإخضاعية .. دفع البنى الطائفية إلى الانتعاش الكامن في بطن حواضن الوعي الشعبي، وبدلاً من أن يخفف منها باتجاه تعزيز اللحمة الوطنية على قاعدة المساواة، وتكافؤ الفرص.. انحدر النظام إلى ما قبل الدولة الوطنية، موظفاً، ولاعباً بكل الأوراق التفتيتية، والاحترابية متعددة الأشكال.. وبما يقدّم للبنى السائدة مزيد الوقود الذي ينتظر شرارة الاشتعال .

2 ـ وكما ذكرنا فقد بذل النظام جهوداً خبيثة في جميع المجالات لحرف الثورة عن مسارها : ثورة شعبية لكل سورية، وتحويلها إلى حالة متخندقة مذهبياً.. وقد نجح في عدة مواقع، وفي الدفع نحو ردّات الفعل المشوبة بتلك اللوثة، وتقوية الاتجاهات المتشددة بوسائل عديدة مباشرة، أو من حيث النتيجة .

3 ـ إن دخول حزب الله العلني المباشر، والواسع، ومعه مجاميع المليشيات الطائفية من شتى البلدان، إلى القتال الشامل مع النظام المجرم رفع وتيرة الصراع المذهبي إلى مستويات خطيرة، واستكمل ذلك بدخول إيران الكاسح الساحة السورية وتولي زمام القيادة العسكرية للعمليات القتالية ضد الشعب السوري، بما يقترب من الاحتلال... أسهم في اتساع الخندق، وفي الزجّ بفئات شعبية وسياسية "سنية" إلى القتال من تلك الخلفية المذهبية، وبعقلية الدفاع عن الوجود، والمذهب .

4 ـ إن ما يحدث في العراق من تفتيت للدولة العراقية على أسس مذهبية وإثنية، وما يمارسه النفوذ الإيراني فيه من عمليات إبادة منظمة، وتغيير للديمغرافيا، وعمليات التمليك والتجنيس، وهوية" الحشد الشعبي" الطائفية، والتي تستهدف جميعها السنة العرب... ثم التحوّلات الدرامية بعد سيطرة "الدولة الإسلامية" على أجزاء واسعة من العراق، ودخول قوات الحرس الثوري بشكل مباشر، وخضوع القوات العسكرية العراقية، والمليشياوية للجنرالات الإيرانيين بقيادة قاسم سليماني.. وسّع الحاضنة الشعبية المذهبية الباحثة عن الحماية، وعن وسيلة لمقاومة هذا الغزو الاجتياحي الجديد..وتوسّع تلك المخاوف بعد انقلاب الحوثيين وسيطرتهم على معظم أرجاء اليمن بمساعدة إيرانية وقحة .

5 ـ إن تخاذل، وتواطؤ، وتملّص أطراف كثيرة، في مقدمها الإدارة الأمريكية، عن مساعدة الشعب السوري بالحدود الدنيا لتحقيق الانتصار، والسكوت المريب على نمو، وتغوّل داعش، والقوى الشيعية المتطرفة وما تقوم به، وأفعال النظام الإبادية بطعم طائفي لا يُخفى على أحد.. ساهم ـ بدوره ـ في تعميم الصراع المذهبي، ونقله إلى سطح المواجهات..

هنا.. لا بدّ من الإشارة إلى مرتكزات مشاريع التقسيم التي تعمل عليها قوى دولية عاتية، وفي مقدمها الصهيونية العالمية، والتي تضخّ سموم المقويات لشتى أنواع الصراع المذهبي، والإثني وصولاً إلى حروب طائفية وأهلية تستنزف المنطقة بالكامل، وتحطم بناها ودولها القطرية، وتمهد الطريق لما تحتويه تلك المشاريع من مخططات قادمة خطيرة .

كما لا بدّ من الوقوف الشجاع عند السياسة الأمريكية ببعديها البارزين : مكافحة الإرهاب، والتسوية مع إيران حول ملفها النووي، فاقتصار " الحرب على ىالإرهاب" ضد تنظيم" الدولة الإسلامية" فقط، ومهادنة النظام السوري عمليا، ووضعه جانباً، ثم الحديث عن بقاء النظام ورأسه، والتفاوض معه، وتسليح القوى العراقية : المليشياوية الطائفية، والجيش المبني على تلك الأسس، ودعمه، والصمت على جرائم الإبادة للعرب السنة في العراق.. يدّعم الحاضنة الشعبية لداعش، ويدفع عديد "أهل السنة" على الالتفاف حولها، أو اللجوء إليها.... بينما يثير الملف الإيراني، وهذا التصميم الباعث على مزيد الأسئلة حول مسارات العلاقة مع إيران... المخاطر الواقعية عن قابلية الاتفاق مع إيران مقابل أدوار فاقعة في وطننا، وعلى حسابه.. في حين تصول وتجول الحالة الإيرانية القومية.. براياتها الطائفية ..

6 ـ إن قوى التطرف، والتخلف، وأصحاب المصلحة في استبدال النضال الاجتماعي الديمقراطي، والوطني، في جميع الجهات، ومنهم راكبي الموجة السنية، والنافخين في أبواق الخوف على السنة ومصيرهم.. تجد المرتع الخصب لها في هذه الأوضاع، وتدفع بكل قدراتها الكثيرة والكبيرة نحو الاقتتال الطائفي الحارق..بينما تبنت على الهوامش، وعبر التماوج العاصف أفكار غرائبية عن إمارات إسلامية تشوّه جوهر الإسلام الحنيف، وتمنح الأعداء المباشرين، والمتلفعين بعديد الرايات، مزيد المبررات لشنّ حروب شاملة تتجاوز المعلن إلى أهداف أخرى .

*****

اللوحة البارزة على السطح تتسم بهذه الصفات، وهي نجاح كبير للقوى المعادية للمصير العربي، وثورة شعوبه لانتزاع الحرية.... لكنها ليست قدراً لا فكاك منه.. حيث أن عديد قوى الثورة، وفعالياتها المخلصة، وفئات شعبية وسياسية ومثقفة واسعة تدرك المخاطر التي تنجم عن توريطنا في المحرقة الطائفية.. لذلك تعمل على مقاومتها، وعلى العودة بالثورة على روحها، ونيتها الأصيل : ثورة شعبية لا تعرف المذهبية، ولا الخندقة الإثنية.. ولأجل سورية الحرة، الموحدة . سورية المهيّأة للعب دورها الفاعل في محيطها العربي، والمنطقة، وفي التصدي لأورام الطائفية، والنزعات التقسيمية ..