الخيارات العربية المتاحة بعد الانسحاب الأمريكي من سوريا

علينا ان نسأل أولا هل هناك خيار عربي تتوفر فيه الحدود الدنيا من نقاط الانسجام والقوة؟ أم هي خيارات عربية متضاربة بل ومتصادمة على كل ما يطرأ من أحداث أو يواجه العرب كلا أو على انفراد من تحديات؟

أثبتت التجارب الطويلة ومنذ نشوء الكيانات العربية المعاصرة بعد الاحتلالات الغربية للوطن العربي أن أمة عربية واحدة لها توجهات سياسية وفكرية واحدة لم تعد قائمة على أرض الواقع، وذلك بسبب تشبع أجزاء الوطن العربي بثقافات قريبة أو متطابقة مع ثقافة البلاد المنتصرة عليهم لأن الأفراد والجماعات المغلوبة تميل إلى تقليد القوى الغالبة كما نقل عن ابن خلدون، ويمكن تلمس ذلك من خلال مناهج التعليم وسلوك الأفراد بل وتقاليد المجتمع، فالدول التي خضعت للاستعمار الفرنسي تشبعت تقاليدها بالعادات والثقافة الفرنسية، وما يصح على الدول التي خضعت للاستعمار الفرنسي يصح بدرجة أو أخرى على ما حصل مع الدول التي خضعت للاستعمار البريطاني، وربما تباعدت العادات الاجتماعية العربية عن بعضها على نحو لافت على الرغم من وجود رابطة الدين الإسلامي الذي يجمع هذه الدول، حتى صار المرء يرى تقاربا بين الفرد الفرنسي والعربي من بلاد المغرب العربي بدرجة أكبر من اقتراب العربي هناك من عربي يحمل نفس الدين ولكن وطنه خضع للسيطرة الاستعمارية البريطانية، بحيث يشعر أنه أقرب إلى بريطانيا من عربي من بلاد المغرب العربي، كل هذا كان يحصل مع أن الساحة العربية حفلت بنشوء أحزاب وحركات ذات توجه قومي عربي عابر للحدود التي أقامها الاستعمار الغربي ثم كرّسها لاحقا بإقامة إسرائيل كحاجز يفصل بين أفريقيا العربية وآسيا العربية.

ولعل في مقدمة الأحزاب التي انتبهت إلى خطر التجزئة بين أقطار الوطن العربي، حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي نبه إلى خطورة المخططات الغربية التي جزأت الوطن العربي وحولته إلى كيانات متصادمة المصالح، وحارب البعث النزعة القطرية والنعرات الطائفية وعمل على حل مشكلة الأقليات القومية في الوطن العربي، والتي حاول الاستعمار تغذيتها بكل قوة كرصيد احتياطي له قابل للتوظيف عند الحاجة التي تخدم تكريس المصالح الغربية سياسيا واقتصاديا، وحتى وإن كانت ولادة البعث عن الحاجة الماسة إليه وإلى دوره، متأخرة كثيرا فقد استطاع خلال الربع الأول من تأسيسه من تسلم الحكم في العراق وسوريا وطفق في تنفيذ برامج قومية للربط بين أجزاء الأمة، وإن تعرضت تجربته فيهما لامتحانات عسيرة تركت بصماتها الإيجابية والسلبية على الواقع العربي المعاصر ودفع البعث على طريق أهدافه أثمانا باهظة من دماء مناضليه فقد كانت تجربة سياسية في غاية الثراء.

ربما كان هذا الشرخ هو الأخطر الذي حققته القوى الاستعمارية من بين أهدافها الأخرى في توسيع رقعة إمبراطورياتها المترامية الأطراف وتوسيع مصادر الثروة وخاصة أن الدول الاستعمارية كانت في بداية عصر الصناعة وتحتاج إلى المواد الخام، ومن ثم تحتاج إلى أسواق لتصريف منتجاتها الصناعية، ومما ضاعف من مكانة الوطن العربي في استراتيجية التوسع الاستعمار الغربي اكتشاف ثروة العصر “النفط” الذي سيظل حتى أمد غير منظور أهم عوامل تحريك الماكنة الاقتصادية للدول الصناعية، حتى يتم التحول عنه إلى مصدر آخر للطاقة يفي بكل الأغراض التي كان النفط يغطيها، على الرغم من أن النفط حتى في حال التحول عنه إلى مصدر للطاقة إلا أنه يبقى مصدرا لكثير من الصناعات الاستراتيجية الأخرى التي تحتل حيزا كبيرا في حجوم الناتج القومي لكثير من دول الاقتصادات الكبرى.

وكأن ما عانت منه الأمة العربية من ويلات التجزئة والتقسيم لم يكن كافيا لمنع نهوضها الحضاري، فتم تصمم مشروع احتلالي أكثر خطورة من كل الاحتلالات التي سبقته، وهو الاحتلال الإيراني وخاصة بنموذجه المعاد الانتاج بعد وصول الخميني للسلطة في شباط 1979، الذي طرح نفسه في الساحة العربية بشعارين برّاقين جاذبين، الأول هو الإسلام الذي تعرض للتغييب عدة قرون، والثاني مواجهة الإمبريالية الأمريكية وقاعدتها المتقدمة في المنطقة أي إسرائيل، وعلينا أن نعترف أن هذا النموذج هو أخطر الاحتلالات التي تعرض لها الوطن العربي ونجح في تحقيق انجازات ملموسة، لم يحقق مثلها المحتلون السابقون، فالاستعمار الفرنسي وكذلك البريطاني لم يتدخلا لفرض العقيدة المسيحية بقوة السلاح بل وحتى بالقوة الناعمة، فلم يحصل تحول نحو المسيحية في أي من البلاد العربية خاصة وأن اللغة العربية المدعومة بقوة القرآن الكريم كانت تقف حائلا دون أية هزة عقائدية لدى المسلمين في كل من آسيا وأفريقيا، ولكن وخلال حقبة قصيرة من احتلال العراق عام 2003 من جانب الولايات المتحدة وبدعم عربي معروف التفاصيل، جرت عمليات إجبار للسنة على التحول نحو التشيع وبخلاف ذلك فإن مصيرا مجهولا ينتظرهم أو يفقدون كل فرصهم بالعيش الكريم.

كان تسليم العراق لإيران مجانا ومن دون تضحيات منها، وعلى مرأى من “الشيطان الأكبر” ومن دول عربية رأت في التخلص من صدام حسين وكأنه آخر أحلامها للعيش بطمأنينة واستقرار بعيدا عن أي تهديد خارجي، وإذا بها وجها لوجه أمام خطر توسعي عدواني لا يهدد الأرض بالاحتلال وإنما يهدد العقول العربية نفسها باحتلال عقائدي أخطر من احتلال الأوطان، وذلك عن طريق فرض تشيع من طراز خاص هو تشيع ولاية الفقيه، بقوة السلاح وهو ما حصل في العراق وسوريا ولبنان وكاد أن يحصل في اليمن ويوشك أن يحصل في البحرين وبقية أرجاء الجزيرة العربية.

بعد تدمير العراق بفعل التواطؤ الأمريكي الإيراني أو لنقل التقاء المصالح بينهما، وبالمال العربي الذي أنفق بسخاء منقطع النظير على دول التحالف الدولي كي تشارك في العدوان على العراق بعد أن أرهقوه اقتصاديا وعسكريا وغلّقوا بوجهه الحدود كلها إلا مع الأردن، بعد ذلك وجد العرب أن ظهورهم باتت مكشوفة تماما أمام عدو لا يرحم ولم يحسبوا حسابه كما ينبغي بسبب عقدة مستحكمة في عقول بعض العرب من العراق، فلم يشعروا إلا وعدوهم الحقيقي “إيران الولي الفقيه” جاثمة فوق صدورهم بعد أن ظهر لهم بعد فوات الأوان من اطمئنان زائف، ويقف لهم في كل مرصد ويتحين لهم الفرص وينتظر منهم أي خطأ يقعون فيه كي ينقض عليهم ويبتلعهم دفعة واحدة، وعندما شعروا أنهم فرطوا بجدارهم العالي وذراعهم الضاربة أي العراق، راحوا يبحثون عن ضمانات تحمي كياناتهم.

وجدوا أن العراق الذي كان سندا قويا لهم، قد تحول إلى قوة بيد عدوهم الجديد القديم، ولعل العراق في هيئته الجديدة أكثر خطورة من الوجود الإيراني المباشر الذي كان يطرح نفسه بلغة غير لغة العرب أي الفارسية، فقد أتاح العراقيون المنخرطون في المشروع الإيراني عن قناعة أو عن تقية وخوف وطمع، لمشروع ولاية الفقيه أن يحصل على قوة دفع نادرة في بيئة تتحسس من أي مشروع بلكنة أجنبية، وهكذا يمكن رصد ظاهرتين سياسيتين في المنطقة في وقت واحد، الأولى صعود النفوذ الإيراني وخاصة بعد استكمال السيطرة على العراق ومد الأذرع لاستكمالها على بلاد الشام، والثانية حيرة في الصف العربي وتعدد الخيارات غير المتاحة أمام النظام الرسمي العربي لمواجهة التوسع الإيراني العدواني، أي بعبارة أكثر وضوحا أمام شلل عربي سواء في القدرة الذهنية أو القوة المسلحة لإشعار إيران أنها في حال مواصلتها لغطرستها فإنها ترتكب حماقة بحق نفسها، ولعل النظام الرسمي العربي الذي شارك في العدوان على العراق، قدم لنفسه حسابات في غاية السذاجة، وهي أن الولايات المتحدة ستسانده في حال وقوع مواجهة مع إيران كتلك التي قدمتها له ضد العراق عامي 1991 و2003، وما قدّروا أن إزاحة العراق من خارطة الوطن العربي الاستراتيجية، تمت لأهداف صهيونية وغربية وليس عملا خيريا لصالح الكويت أو المملكة العربية السعودية، أو غيرهما من دول مجلس التعاون الخليجي.

إزاء المعضلة القائمة وبسبب ضيق الوقت وانعدام الخيارات أمام الدول العربية المهددة مباشرة بغزو سياسي عقائدي مذهبي إيراني، راحت تبحث عن ضمانات مطمئنة لها ولو إلى حين، خاصة بعد ثمانية أعوام من إطلاق يد إيران في المنطقة والعالم نتيجة السياسات الخرقاء للرئيس الأمريكي السابق باراك حسين أوباما الرئيس الأسوأ للولايات المتحدة والذي كان خلال جلساته الرسمية يعبر عن أعجاب يفوق الحد بالحضارة الفارسية، ويحتقر العرب الذي لا يرى فيهم غير البداوة والتخلف، وجدت دول مجلس التعاون الخليجي في الشعارات العالية الوتيرة في التصدي لإيران وقطع أذرعها في المنطقة والتي قطعها الرئيس الأمريكي القادم من عالم التجارة والعقار، واستبشر كثيرون من المراقبين غير العارفين ببواطن الاستراتيجية الأمريكية ومحركاتها الحقيقية، بشعارات ترمب وراحوا يؤملون أنفسهم بتلمس خطوة حقيقية واحدة على طريق تنفيذ شعار تحجيم النفوذ الإيراني وقد أعاد أوباما جوهر العلاقات الأمريكية الإيرانية إلى أفضل عهودها في زمن الشاه وإن كانت شعارات الشيطان الأكبر لم تختف من شوارع طهران ولا من على ألسنة الساسة الإيرانيين، وكذلك لم تختف شعارات مواجهة إيران في الخطاب السياسي الأمريكي المعلن.

وخلال السنة الأولى من رئاسته أثبت ترمب أنه يقود أمريكا بعقلية المضارب بعالم العقارات وليس بعقلية رجل الدولة الحاذق الذي يخطط لمرحلة بعيدة، وهذا ما أدى إلى انفضاض مجموعة من أقرب مستشاريه ووزرائه من حوله، بعد أن وجدوه رئيسا متقلب المزاج لا يمكن التنبؤ بخطواته اللاحقة، ولعل ما حصل مع ترمب من استقالات للوزراء وكبار المستشارين لم يحصل مع أي رئيس أمريكي سابق.

على العموم كانت زيارة ترمب إلى المملكة العربية السعودية التي حصل فيها على عقود عسكرية تحت لافتة تنشيط فرص تشغيل الأيدي العاملة في بلاده، أو عشرات المليارات مقابل تعهدات بضمانات أمنية للمملكة أمام أي خطر خارجي، مما لم يكن ممكنا الركون إلى جدواه من النواحي الاستراتيجية، لأن الأمن لا يمكن أن يستورد من الخارج مهما كان صادقا أو جديا لأنه قابل للمتغيرات السياسية التي لا يمكن التحكم بسرعة حصولها في زمننا الراهن.

إن تعهدات الحماية الخارجية ومهما بلغت درجتها لا يمكن أن تكون بديلا عن القوة الذاتية لحماية النفس، فضلا عن أن من يقدم ضمانات الحماية اليوم يمكن أن يتحول إلى عدو في الغد، وإذا نظرنا بعمق إلى أحداث اليمن على سبيل المثال فإننا سنرى أن الأمريكان هم الذين دوّلوا قضيته ومنعوا التحالف العربي من حسم المعركة وخاصة في الحديدة والتي ينظر إليها الحوثيون على أنها الميناء الذي ترد منه إمدادات السلاح الإيراني وباعتبارها مصدر التمويل الرئيس لهم لتغطية نفقاتهم الحربية والكسب الحرام لقادة المليشيات وكانت قضية الحديدة كلما أوشكت أن تعود إلى الشرعية يتحرك المبعوثون الغربيون لكبح اندفاعة القوات الشرعية من المضي في التحرير، بل كانوا يغضون النظر عن تدفق مختلف أنواع الأسلحة بما فيها الصواريخ البالستية إلى الحوثيين لتهديد المملكة العربية السعودية خاصة ودول الخليج العربي عموما، وكذلك يمكن رصد تنصل أمريكي في موضوعات التنسيق الأمني بين الرياض وواشنطن في أكثر من قضية مما أدى إلى إلحاق أذى كبير بسمعة السعودية من خلال تعمد الجانب الأمريكي كشف بعض العمليات الإقليمية للمملكة مما أوقع السعودية في دائرة الحرج السياسي وتم إضعاف موقفها السياسي إقليميا ودوليا، وشواهد ذلك كثيرة جدا ولا تكاد تحصى ولسنا بموضع تقديم جرد لها في هذا المقال.

كما أن ما حصل في سوريا ومن قبلها العراق يمثل أكبر إخفاقات السياسة الخليجية وتحالفاتها مع الولايات المتحدة، ففيهما أغدق ترمب على حلفائه وعودا لا حصر لها من أنه سيواجه التمدد الإيراني باعتبار إيران أكبر دولة راعية للإرهاب، واعتبر كثيرون أن الساحة السورية هي المرشحة لاختبار جدية النوايا الأمريكية بهذا الخصوص، وراحوا يعيشون حلم كنس النفوذ الإيراني تمهيدا لفعل الشيء نفسه في العراق ولبنان وإعادة إيران إلى حدودها الطبيعية، ولكن هؤلاء استفاقوا من كابوسهم المرعب وإذا بترمب يعلن بصورة مفاجئة سحب قواته التي لا يزيد عديدها عن ألفي عسكري من سوريا، فأكد بذلك عدة حقائق، أولها أن ترمب يتخذ قراراته بصورة منفردة وليس تعبيرا عن استراتيجية أمريكية بدليل استقالة المسؤولين عن هذا الملف خاصة، ولا يمكن أن نفترض أن ترمب رجل استراتيجي أكثر من وزير دفاعه على سبيل المثال، وثانيها أن الولايات المتحدة خدعت الأكراد وخذلتهم مرة ثانية وثالثة ورابعة وربما خامسة ستفعلها معهم دائما حيثما اقتضت مصلحتها، وثالثها أنها أهدت إيران هدية ثمينة بمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية وهي فرصة للتمدد على مناطق تواجد قواتها سابقا إما عن طريق استعانة “قوات سوريا الديمقراطية” بحكومة النظام السوري والذي لا يمتلك فائضا من القوات المسلحة لزجه في منطقة صدام محتمل مع تركيا، لذا فسوف تشغلها قوات إيرانية بسبب التفاهمات المتعددة بين أنقرة وطهران، أو مليشيات شيعية من العراق بهدف تحقيق حلم إيران بفتح طريق برية تمتد من طهران عبر العراق وسوريا وصولا إلى المتوسط، وهذا معناه أن ترمب خطط أو لغفلة منه قدم لإيران هدية جديدة تعزز من وجودها في سوريا والمنطقة، فهل ينسجم هذا السلوك مع التعهدات الأمريكية لدول الخليج العربي وخاصة المملكة العربية السعودية؟

بالمقابل هناك من يفسر سحب ألفي جندي أمريكي من سوريا على أنه توريط لتركيا واستدراجها لحرب استنزاف طويلة مع مقاتلين أشداء جربتهم ساحات المواجهة مع داعش فضلا عن أنهم تلقوا تدريبات شاقة من مستشارين أمريكان وجهزتهم الولايات المتحدة بأسلحة حديثة جدا، وقد لا تمتلك تركيا القدرة على مواصلة حرب استنزاف طويلة لا سيما وأنها تعاني من أخطار مماثلة على حدودها مع العراق وداخل أراضيها في الإقليم الكردي، وهناك من يقول إن أمريكا أرادت استدراج روسيا أيضا إلى مستنقع سوري شبيه بالمستنقع الأفغاني، بعد أن وجدت أن الرئيس بوتين بدأ يتصرف وكأنه قيصر جديد قادر على تحدي الولايات المتحدة بسلسلة من الصواريخ البعيدة المدى، ويعتبر ترمب أن منظومة القوة ليست أسلحة فتاكة أيا كان حجمها التدميري، ولكنها منظومة دولة دوية تمتلك كل أسباب التحدي والانتصار وعلى خوض أكثر من معركة في وقت واحد وهذا غير متاح لغير الولايات المتحدة على ما يظن المسؤولون الأمريكيون.

وسوم: العدد 804