ترمب والبلطجة الدبلوماسية في فنزويلا

إن البلطجة الدبلوماسية التي يمارسها الرئيس ترمب في فنزويلا من خلال تدخله السافر في شؤونها الداخلية من شأنه أن يؤسس لسابقة خطيرة في العلاقات الدولية تمنح السلطة للدول الكبرى في تغيير الأنظمة السياسية بطريقة غير شرعية.

كانت أمريكا في الستينات، وقبل ذلك وبعده، تلجأ إلى تدبير الانقلابات العسكرية لتغيير الأنظمة في أمريكا اللاتينية والعالم الثالث عموماً، وكانت أحياناً تلجأ إلى الغزو المباشر؛ ولكنّها لم تتجرأ على أن تسعى لإسقاط نظام من خلال الاعتراف برئيس برلمان رئيساً للدولة، وبوجود رئيس منتخب، قررت الإطاحة به.

صحيحٌ أن الإطاحة بالأنظمة -التي تعارضها من خلال الانقلاب العسكري، ومن ثَمّ الاعتراف بشرعيته فوراً، إذا ما انتصر- يعتبر تدخّلاً سافراً بالشأن الداخلي لدولة ذات سيادة، ولكن في تلك الأيام كانت الانقلابات العسكرية تعمل في الاتجاهين المعارض لأمريكا والممالئ لها، الأمر الذي دخل في لعبة الصراع الدولي باعتباره تغييراً داخلياً مشروعاً، لا أحد من خارجه له الحقّ في الطّعن بشرعيته، وإذا كان من اعتراض فمن داخل البلد نفسه.

أما الغزو الخارجي، كما حدث مثلاً في بنما بإسقاط مانويل نورييغا، فكان مداناً باعتباره عدواناً خارجياً قبل أن يكون تدخلاً في الشأن الداخلي لتغيير النظام، أو في الأدق حمل الآفتين، وإن كانت آفة الغزو الخارجي هي الطاغية.

ولهذا يمكن اعتبار ما تفعله أمريكا اليوم في فنزويلا نمطاً من التدخل الفظّ والوقح في الشأن الداخلي لدولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة؛ لأن اعترافها برئيس آخر -غير الشرعي المنتخب بثلثَي أصوات الناخبين- يجب أن يُنظر إليه كسابقة خطيرة في العلاقات الدولية؛ لأن المرور بها مرَّ الكرام أو تمريرها بلا معارضة واسعة جدّاً بل بلا إفشالها، سيدسّ السمّ في العلاقات الدّولية، ويعطي لأمريكا حقّ إسقاط الأنظمة ببلطجة دبلوماسية دولية، تتمثّل في سحب الاعتراف بشرعية رئيس شرعي والاعتراف بشرعية رئيس بديل اختير من المعارضة.

والأنكى- ولكي تكتمل اللعبة الخطرة، أو يكتمل التدخل الخارجي في الشأن الداخلي لدولة ذات سيادة- انضمت عدة دول حليفة للموقف نفسه، لا سيما أوروبا التي وجدت نفسها مرّةً أخرى متضامنة مع أمريكا، أو شريكة لها، في عملية افتراس دولة من دول العالم الثالث المستعمرات وشبه المستعمرات سابقاً. وقد بدا الحنين هنا لأيام الاستعمار أقوى مما أخذ يظهر من تناقضات أوروبية مع أمريكا ترمب؛ فأوروبا بهذا -وإن فصلت بين الأمرين- ستدفع ثمناً غالياً؛ لأن الانضمام لموقف ترمب في التمهيد لافتراس فنزويلا سينقلب قوةً له؛ أي سينقلب ضدّ أوروبا، وهي تعارض سياساته حول المناخ، أو حول العودة إلى الحمائية، أو سياسة ابتزازها مالياً في مقابل "حمايته" لها، أمّا هي فستخرج منه بخفي حنين.

إن خطر التدخل الخارجي الأمريكي-الأوروبي من خلال نزع الشرعية عن الرئيس الفنزويلي نيقولاس مادورو، والاعتراف الفاضح بشرعية خوان غوايدو، ولو كان رئيس البرلمان، يكمن في تمهيده للعدوان المباشر من جهة، أو في دفع فنزويلا من جهة أخرى إلى حرب أهلية؛ لأن مادورو مؤيَّد من قطاع شعبي هام، ومن الجيش وليس رئيساً هشّاً يكفي أن تنفخ عليه أمريكا وأوروبا حتى يستسلم، هذا من دون الإشارة إلى أهمية ما يلقاه من دعم خارجي دولي وشعبي.

هنا يجب أن يُلحظ نقطة ضعف لا يستهان بها، أخذت تنشأ في أمريكا اللاتينية بانضمام دول مثل البرازيل والأرجنتين وتشيلي وغيرها إلى الحملة الدبلوماسية الموجهة لإسقاط مادورو، فهذا الانشقاق بين دول أمريكا اللاتينية سيشكّل خطراً بالعودة إلى التبعية لأمريكا، بعد أن حققت تلك الدول في السنوات الماضية خطوات في التحرر منها.

من هنا فإن صمود فنزويلا وإفشالها لهذه الهجمة الأمريكية سيؤدي إلى عودة الكرَّة مرة أخرى لتحرير دول أمريكا اللاتينية من التبعية الكارثية لأمريكا؛ لأن ما يجري من تحوّل في البرازيل بعد انتخاب الرئيس الجديد جايير بولسونارو شكّل نكسة للآمال والنضالات، التي أرساها لولادو سيلفا وموراليس وكاسترو وسلفادور أليندي وتشافيز ومادورو.

الأمر الذي يبرز ظاهرة جديدة في الوضع العالمي الراهن، ولا سيما في أمريكا اللاتينية؛ أن الشعوب دخلت في مرحلة كرّ وفر بين الثورة والثورة المضادة، أو"يومٌ لك و يومٌ عليك"، ليعود"اليوم لك"إن شاء الله.

فعالم الشعوب الذي أخذ يتخلّص من العالم القديم الذي سادت فيه السيطرة الاستعمارية والإمبريالية دخل ما يسمَّى بحالة شبه التوازن الاستراتيجي العام.وهي الحالة التي يكون فيها القديم قد انتقل إليها بعد أن فشل في هجومه الاستراتيجي العام، ويكون الشعب قد أفلت من حالة الدفاع الاستراتيجي العام. وانتقل إلى شبه التوازن الاستراتيجي، التوازن الرجراج الذي يهيئ فيه كلّ طرف إلى مرحلة الهجوم الاستراتيجي.

هذا ما يسمح بقراءة ما تواجهه أمريكا اللاتينية من حالة رجراجة بين الثورة والثورة المضادة، الأمر الذي يوجب على الثوريين وممثلي الشعب ألاّ تضيع بوصلتهم إذا حدثت نكسة هنا أو هناك، كما يوجب فيهم ألاّ يفقدوا يقظتهم وألا يصابوا بالغرور إذا ما حققوا نجاحاً هنا أو هناك (البرازيل مثلاً)، ولكن الأهم عليهم أن يثقوا بأن الانتقال إلى مرحلة شبه التوازن الاستراتيجي، يعني -أول ما يعني- أن العالم القديم دخل في مرحلة الضعف أو الشيخوخة أو التراجع، حتى لو تمكّن من استرداد ما قد فقد، سيبقى وضعه ضعيفاً وهشّاً، فعهد الشباب إن ولّى لا يعود.

فترمب الذي يعرض عضلاته على فنزويلا يواجه وضعاً لا يُحسد عليه، فهو ضعيف مأزوم في الداخل، ومتخبّط ومعزول في الخارج، ما يجعل فرص الانتصار على تدخّله في فنزويلا عالية، وهي مسألة تهمّ كلّ شعوب العالم، وليس فنزويلا وحدها، ولا أمريكا اللاتينية وحدها.

وسوم: العدد 810