"خاطبوا الناس على قدر عقولهم " ... ليس حديثا نبويا .. والحمد لله الذي أتم على خلقه النعمة ..

والحمد لله الذي جعل العقل الإنساني مناط التكليف ..

والحمد لله الذي خاطب الناس جميعا بخطاب واحد ليس فيه ظاهر ولا باطن ؛ فنادى عليهم أولهم وآخرهم ، ذكرهم وأنثاهم ، صغيرهم وكبيرهم ، غنيهم وفقيرهم ، عالمهم وجاهلهم : يا أيها الإنسان .. يا أيها الناس ...يا بني آدم ..

والحمد لله الذي خاطب المؤمنين على سواء : يا أيها الذين آمنوا ..وأوجب على من يعلم أن يعلم من لم يعلم ، كما أوجب على من لم يعلم أن يتعلم ما يهمه بسؤال من سبقه إلى العلم ..

والحمد لله الذي جعل شريعة الإسلام واضحة منيرة  ليلها كنهارها وباطنها كظاهرها . وجعل الإسلام دينا بلا رموز ولا أسرار ، ولا كهنوت ولا سدنة ..وأوكل أمر الناس إلى كتاب " ينطق بالحق " نص خالد معجز قابل للعطاء في كل حال وفي كل حين ..

وفي زمن تكريس الجهل أو تقديسه ما أن تفتح فمك بكلمة تهدم بها ما ظل يصنع آزر على مر العصور ، فتقارب مسلمات الجهل في عقول الناس ، ورواسب الوهن في قلوبهم فتحدث بما تلقي إليهم من علم وحكمة اهتزازا في آسنهم وراكدهم حتى يبادرك قوم من يمين وشمال : خاطبوا الناس على قدر عقولهم ..وكأن عقول الناس ليست موضع تكليف !!

وهو قول فيه ما فيه من عنصرية وعنجهية واستعلاء على الناس . وفيه ورد لقوله تعالى عن الإنسان المخلوق في أحسن تقويم : أحسن تقويم في جسده كما في عقله وروحه وإنما تجتاله شياطين البغي والإثم والشهوة والضعف ..

إن عقل الإنسان الذي كان مؤهلا لاستقبال كلمات الله بكل ما فيها من آيات بينات وإعجاز وعلوم وفنون لن يعجز بكل تأكيد أن يحيط بكلام مخلوق إلى مخلوق يشاركه خاصية الضعف البشري والقدرة على الاستقبال والرقي ..

ولو خاطب سيدنا إبراهيم قومه على قدر عقولهم لما سخر من آلهتهم صغيرها وكبيرها . ولو فعل ذلك موسى وعيسى ومحمد عليه من ربي الصلوات والتسليم  لما حطموا مرتكزات الجهل في العقول والإثم في القلوب والنفوس ..

إن حربنا مع تراكمات الجهل في مجتمعاتنا يجب أن تظل مستعرة مفتوحة . الجهل الموروث في ثوب العادة كثيرا ما تختلط بالدين ظلما وعدوانا والجهل الطارف المستورد تحت عناوين الحداثة والعصر ، ودائما نزين الأمور بميزان العقل الراشد المستنير بنور الله الملك العدل ..

سيكثرون علي فيما حفظوا ولقنوا مما سموه بحديث وما هو بحديث . ومما يحالون أن ينفخوا فيه الروح وليسوا بنافخين ...

حديث خاطبوا الناس على قدر عقولهم ...لا أصل له

في البخاري عن علي موقوفا - أي غير مرفوع للنبي صلى عليه وسلم - حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله .

وفي مسلم عن ابن مسعود ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ...

والحديثان الصحيحان الموقوف والمرفوع ليسا في السياق الذي نريد ولا الذي يرمي إليه قدر العقول ..

وفي كشف الخفا  للعجلوني : أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم : رواه الديلمي بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا ..

وفي المقاصد الحسنة للسخاوي : عن ابن عباس مرفوعا أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم . قال السخاوي سنده ضعيف جدا ..

وفي خاطبوا الناس على قدر عقولهم قال ابن تيمية الفتاوى / 18 / 338 -339 : " لم يروه أحد من علماء المسلمين الذين يعتمد عليهم في الرواية . وليس هو في شيء من كتبهم . وخطاب الله ورسوله للناس عام يتناول جميع المكلفين : يا أيها الناس . يا أيها الذين آمنوا . يا بني إسرائيل . وكذلك النبي كان يخاطب الناس على منبره بكلام واحد يسمعه كل أحد ."

وهذا لا يمنع أن  الناس يتفاضلون ..

يا معشر الذين سبقتم إلى العلم ..

إن ما تعيشه أمتنا من ذلة وقلة وهوان سببه جهل أحاط بالبلاد والعباد وأقام بعض الناس من أنفسهم سدنة عليه بعضهم بحسن نية وبعضهم بأخيه ..

الجهل وحده وأشده ما كان باسم الله والرسول والشريعة والدين هو الذي وطأ المنابر للظالمين . وبسط بساط البغي والإثم والفجور .

الجهل الذي يعظم الصغيرة ويستصغر الجريرة . ويخادن الذلة ويأنف من النصيحة . فاكسروا أسواره اهتكوا أستاره ..

لا تستعلوا على الناس ..

ولا تتكبروا عليهم ، ولا تروا أنفسكم أحق بالعلم منهم ..

ارتقوا بالعقول فهي مؤهلة ، لا تحتكروا علما ولا تضنوا به ، ولا تنظروا شذرا لطالب معرفة ..أنيروا ظلمات القلوب بنور المعرفة . وأحيوها بماء السماء يفض كل واد بقدره .

(( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ))

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 813