هو الموت يا سيد حسن... رصاصة في الرأس أو خنجر في الخاصرة

كان لا بد لأحدنا أن يكون ساذجًا. مثقوب الذاكرة مرهف المشاعر. يتابع الخطاب الأخير لأمين عام حزب الله وهو يقمع عقله ويستغيث قلبه. ليس ثمة فينا من لا يشتهي صوته ونبرته ولدغته. لكننا ما نلبث أن نتذكر. نتذكره آتيًا من لعبة الدم. من مخاضنا المستحيل. من ضلعنا المكسور في حواضر العرب. هو ذاك نفسه الذي كنا نظنه بطلاً ومنقذًا وأسطورة، قبل أن نعود ونتعرّف إليه بعد سنوات خدّاعات. 

يطيب لي دومًا أن أسترجع عميق ارتباطي بالسيد حسن. كنت أنتظره كما ينتظر الصغار مواسم الثلج. أبحث في حُسن ملامحه عن ضالتي. أنا المأخوذ بسيرة القادة الشجعان. أولئك الذين يكتنزون في شهامتهم ونبلهم كل مفرادت الرجولة. 

يطيب لي أيضًا أن اتذكر. منذ خطاب التحرير في عروس الجليل وسيدة جبل عامل إلى تلك اللحظة التي انتشينا بها جميعًا في عرض البحر. يوم قال انظروا إليها تحترق. وقد نظرنا دون أن يرف لنا جفن أو ترتجف لنا قامة.

كنا يومها أصحاب شكيمة لا يُشق لها غبار. نعيش معه وإلى جانبه فصلاً من فصول الكرامة التي لا تُعطى ولا تُمنح. بل تُغتصب اغتصابًا. من قبضة سجّانها. من نخاع شوكه. ومن رغبته العميقة في قضمنا وهضمنا. نحن الذين لا تلتوي لنا ذراع ولا يموت لنا ميت.

لا شيء فينا تغيّر. نحن كما نحن. كرامتنا هي خبزنا وكفاف يومنا، وقد رأيناها تُسفك مرارًا على مذابح التوسع والسيطرة والنفوذ. فارتصفنا حينذاك مرغمين في عامود من النار، بينما كنا نلملم جثثنا المتناثرة على أرصفة الطرقات وعلى شرفات المنازل. ثم كانت المقتلة في سوريا، هناك حيث جُرحنا النازف، والهاجس الذي لن يفارقنا كل العمر.

في خطابه الأخير, استمعنا ونظرنا جيدًا اليه. إلى أدبياته التي نحفظها عن ظهر قلب. إلى سبابته المسلولة كسيفٍ رشيق. إلى عينيه الغائرتين في بحر من الظمأ. لا شيء بيننا وبينه سوى جدار سميك. استُبدلت السكينة بالذعر، والعاطفة بالبغضاء، والرجاء بخيبة الأمل، فصرنا نراه كما لا نود أن نراه، وما عاد فيه ما يجذبنا سوى الخوف. خوفٌ يقضّ مضاجعنا كلما ربحت إيران أو خسرت. 

كثرتنا الكاثرة يا سيد حسن لم تعد تبحث عن توازن رعب أو انتصار أو تحرير، ولم تعد تُفرّق بين من يرتكب مذبحة في قانا وبين من يقتلع حنجرة ويلقي برميلاً ويدسّ الموت في شهيق أطفالٍ نائمين. يريدون فقط أن يلملموا جراحهم، وأن يعيشوا ما تبقى من سِنيّهم العجاف وهم يخبرون أولادهم وأحفادهم عن زمننا هذا، زمن الحقد والقبح والعار. 

لسنا نريد الحرب، لكنها إن وقعت لا نبالي. الموت هنا سيان، ورصاصة في الرأس أخف وقعًا من خنجرٍ في الخاصرة. لكننا لن نقف إلى الأبد بين خنجرين. وإذا كان النصر صبر ساعة، فأهل الدولة لن يتفرّجوا على تهميشهم وقتلهم حتى قيام الساعة.

وسوم: العدد 840