ردة جديدة ودعوة جديدة

السيد أبي الحسن علي الندوي

شهد التاريخ الإسلامي حوادث ردة عديدة، أبرزها وأعنفها ردّة القبائل العربية على أثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، الثورة الكبيرة التي وأدها أبو بكر الصديق في مهدها بإيمانه وعزمه الذي ليس له مثيل في التاريخ ومنها حركة التنصر التي انتشرت في اسبانيا على أثر جلاء المسلمين، والتي ظهرت في بعض الأقطار التي استولت عليها الدول الغربية المسيحية ونشط فيها القسوس (والارساليات)، ومنها قضايا شاذة، من ارتداد بعض ضعاف العقول وصغار النفوس من المسلمين عن دين الإسلام واعتناقهم البرهمية أو الآرية في الهند، ولكنها حوادث نادرة جداً، وفي الحقيقة أن تاريخ المسلمين لا يعرف الردة العامة - إذا استثنينا اسبانيا البائسة – إذا صح أن نسميها ردّة - كما اعترف به مؤرخو الديانات.

وتتسم هذه الحوادث كلها بسمتين: أولاهما المقت الشديد من المسلمين، والثانية الانفصال عن المجتمع الإسلامي، فكان كل من يرتد عن دينه يستهدف لسخط المسلمين الشديد، وينفصل عن المجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه بطبيعة الحال، وتنقطع بمجرد ارتداده بينه وبين ذوي قرابته الأواصر والأرحام. وكانت الردة انتقالاً من مجتمع إلى مجتمع، ومن حياة إلى حياة، وكانت الأسرة تقاطع المرتد وتهجره وتقصيه، فلا مصاهرة، ولا زواج، ولا إخاء، ولا توارث، وكانت حركات الردّة تثير روح المقاومة في المسلمين والمقارنة بين الديانات، والدفاع عن الإسلام، وكل قطر من أقطار المسلمين ظهرت فيه حوادث الردّة، تحمس علماء المسلمين ودعاة الإسلام وحملة الأقلام فيه للرد عليها وتتبع أسبابها وعرض محاسن الإسلام ومزاياه، واجتاحت المجتمع الإسلامي موجة عنيفة من السخط والاستنكار والقلق، وكانت هذه الحوادث المقيمة المقعدة - للمسلمين، وكانت الحديث العام والشغل الشاغل للعامة فضلاً عن الخاصة وأهل الغيرة الدينية، هذا ما اتسمت به حوادث الردّة على ندرتها وشذوذها وعلى عدم تأثيرها في الحياة.

ولكن جرب العالم الإسلامي في العهد الأخير ردّة اكتسحت عالم الإسلام من أقصاه إلى أقصاه، وبذّت جميع حركات الردّة التي سبقتها في العنف وفي العموم، وفي العمق وفي القوة، ولم يخل منها قطر وقلما خلت منها أسرة من المسلمين. هي ردة تلت غزو أوروبا للشرق الإسلامي الغزو السياسي والثقافي، وهي أعظم ردة ظهرت في عالم الإسلام وفي تاريخ الإسلام منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم الناس هذا.

ماذا تعني الردة في عرف الإسلام وفي مصطلح الشريعة الإسلامية إبدال دين بدين وعقيدة بعقيدة، وإنكار ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتواتر عنه، وثبت بالضرورة من دين الإسلام، وماذا كان يفعل المرتد؟ ينكر الرسالة المحمدية - على صاحبها الصلاة والسلام - وينتقل إلى المسيحية أو اليهودية أو البرهمية، أو يلحد في الدين وينكر الرسالات والوحي والمعاد. هذا ما كان يعرفه العالم القديم أو المجتمع القديم من معاني الردّة، وكان كل من يرتد عن دينه يدخل الكنيسة إذا تنصر أو يدخل الهيكل أو معبد الأصنام إذا اعتنق البرهمية مثلاً، فيعرف ذلك الجميع، ويصبح شامة بين الناس يشار إليه بالبنان، ويقطع المسلمون الأمل، ولا يكون ارتداده - في غالب الأحوال - سرة من الأسرار.

حملت أوروبا إلى الشرق الفلسفات التي قامت على إنكار أسس الدين وإنكار القوة المصرفة لهذا العالم، القوة الواعية التي أخرجت هذا العالم من العدم إلى الوجود وبيدها زمام الكون (ألا له الخلق والأمر) وعلى إنكار عالم الغيب والوحي والنبوءات وإنكار الشرائع السماوية، وإنكار القيم الروحية والخلقية: منها ما تبحث في علم الحياة والنشوء والارتقاء، ومنها ما تتصل بالأخلاق، ومنها ما تدور حول علم النفس، ومنها ما موضوعها الاقتصاد والسياسة. ومهما اختلفت هذه الفلسفات في ألوانها وأهدافها وأسسها، فإنها جميعاً تلتقي على النظرة المادية المحضة إلى الانسان وإلى الكون، والتعليل المادي لظواهرهما وأفعالهما.

غزت هذه الفلسفات المجتمع الشرقي الإسلامي وتغلغلت في أحشائه، وكانت أعظم ديانة ظهرت بعد الإسلام في التاريخ، أعظمها انتشاراً وأعمقها جذوراً وأقواها سيطرة على العقول والقلوب، وأقبل عليها زهرة البلاد الإسلامية وزبدتها عقلاً وثقافة، وأساغتها وهضمتها ودانت بها - كما يدين المسلم بالإسلام والمسيحي بالمسيحية بكل معنى الكلمة - فهي تستميت في سبيلها وتقدس شعائرها وتجل قادتها ودعاتها وتدعو إليها في أدبها ومؤلفاتها، وتحتقر كل ما يعارضها من الأديان والنظم والعقليات تؤاخي كل من يدين بها، فأفرادها أمة واحدة وأسرة واحدة ومعسكر واحد.

وما هي هذه الديانة وإن أبى أصحابها أن يسموها ديانة؟ إنكار لفاطر الكون العليم الخبير الذي قدر فهدى، وإنكار للمعاد وحشر الأجساد ووجود الجنة والنار، والثواب والعقاب، وإنكار النبوءات والرسالات، وإنكار الشرائع السماوية والحدود الشرعية، وإنكار أن الرسول الأعظم هو الذي فرض الله طاعته على جميع الخلق وحصر الهداية والسعادة في اتباعه، وأن الإسلام هو الرسالة الأخيرة الخالدة المتكفلة لجميع السعادات الدنيوية والأخروية ونظام الحياة الأمثل الأفضل، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره ولا يسعد العالم سواه، وإنكار أن الدنيا خلقت للإنسان وأن الإنسان خلق لله.

هذه ديانة الطبقة المثقفة الممتازة التي تملك زمام الحياة في أكثر البلدان الإسلامية وإن لم تكن كلها طبقة واحدة في الإيمان بها والتحمس لها، وفيها ولا شك مؤمنون بالله متدينون بالإسلام ولكن سمة هذه الطبقة التي تغلب عليها مع الأسف وديانة أكثر أفرادها ورؤسائها هي الديانة المادية وفلسفة الحياة الغربية التي قامت على الإلحاد.

إنها ردّة، أعود فأقول، اكتسحت العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وغزت الأسر والبيوتات، والجامعات والكليات والثانويات والمؤسسات، فما من أسرة مثقفة - إلا من عصم ربك إلا وفيها من يدين بها أو يحبها أو يجلها، وإذا استنطقته أو خلوت به أو أثرته عرفت أنه لا يؤمن بالله. أولا يؤمن بالآخرة، أو لا يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا يؤمن بالقرآن كالكتاب المعجز الخالد ودستور الحياة، وأفضلهم من يقول أنه لا يفكر في مثل هذه المسائل ولا يهتم بها كبير اهتمام.

إنها ردّة ولكنها لم تلفت المسلمين، ولم تشغل خاطرهم لأن صاحبها لا يدخل كنيسة أو هيكلاً "ولا يعلن ردته وانتقاله من دين إلى دين ولا ينتبه لها المجتمع فلا يحاسبه ولا يعاتبه ولا يفصله بل يظل يعيش فيه ويتمتع بحقوقه وقد يسيطر عليه، إنها قضية العالم الإسلامي الكبرى، إنها مشكلة الأمة الإسلامية الكبرى، ردة تنتشر وتغزو المجتمع الإسلامي ثم لا ينتبه لها أحد، ولا يفزع لها العلماء ورجال الدين لقد قالوا قديماً:

قضية ولا أبا حسن لها. وأقول: قضية ولا أبا بكر لها.

إنها قضية لا تطلب حرباً ولا تطلب تهييج الرأي العام، ولا تطلب ثورة، ولا تطلب عنفاً، بل إن العنف يضرها ويهيجها، والإسلام لا يعرف محاكم التفتيش، ولا يعرف الاضطهاد، إنها تطلب عزماً وتطلب حكمة وتطلب صبر واحتمالاً، وتطلب دراسة.

لماذا انتشرت هذه الديانة في الشرق الإسلامي؟ ولماذا استطاعت أن تغزو المسلمين في عقر دارهم؟ ولماذا استطاعت أن تسيطر على العقول والنفوس هذه السيطرة القوية؟ إن كل ذلك يطلب التفكير العميق الدقيق... والدراسة الواسعة.

ضعف العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر المسيحي في الدعوة والعقيدة والعقلية والعلم وبدا عليه الإعياء والشيخوخة، والإسلام لا يعرف الشيخوخة والهرم، إنه جديد كالشمس، وقديم كالشمس، وشاب كالشمس ولكن المسلمين هم الذين شاخوا وضعفوا: فلا سعة في العلم ولا ابتكار في التفكير والإنتاج، ولا عبقرية في العقل، ولا حماسة في الدعوة، ولا عرضاً جميلاً مؤثراً للإسلام ومزاياه ورسالته، إلا النادر القليل.

ولا صلة بالشباب المثقف وتأثير في عقليتهم وهم أمة الغد والجيل المرتجى، ولا محاولة لإقناعهم بأن الإسلام هو دين الإنسانية والرسالة الخالدة، وأن القرآن هو الكتاب المعجز الخالد الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنفد ذخائره ولا تبلى جدته، وأن الرسول هو المعجزة الكبرى ورسول الأجيال كلها وإمام العهود كلها، وأن الشريعة الإسلامية هي الآية في التشريع وهي الصالحة لمسايرة الحياة وقضاء مآربها الصالحة والإشراف عليها، وأن الإيمان والعقيدة والأخلاق والقيم الروحية هي أساس المدينة الفاضلة والمجتمع الكريم، وأن الحضارة الجديدة لا تملك إلا الوسائل والآلات، وأن تعاليم الأنبياء هي مصدر العقيدة والخلق والغايات ولا مطمع في المدنية الصالحة المتزنة إلا بالجمع بين الوسائل والغايات.

في هذه الساعة هجمت أوروبا بفلسفتها التي تعب في تدوينها وتهذيبها كبار الفلاسفة ونوابغ العصر، وصبغوها بصبغة علمية فلسفية يخيل إلى الناظر أنها غاية ما يصل إليها التفكير الإنساني ومنتهى الدراسات والاختبارات ونتاج العقول البشرية وعمارة التأملات، وكان فيها ما يقوم على الاختبار والمشاهدة وتصدفه التجربة وما يقوم على الافتراض والتحكم والتخيل والتوهم، وفيها الحق والباطل والعلم والجهل والحقائق الراهنة والتخيلات الشعرية، وليس الشعر محصورة في النظم والقوافي، هو في الفلسفة والعلم أيضاً.

ووردت هذه الفلسفات مع الفاتحين الغربيين فخضعت لها العقول والنفوس الشرقية وأذعنت لها وقبلتها الطبقة المثقفة في الشرق، وفيها من يفهمها - وهم القلة القليل - وفيها من لا يفهمها وهم الكثرة الكاثرة، ولكن كل مؤمن بها، مسحور بسحرها، يرى الظرافة والكياسة في اعتقادها، ويرى ذلك شعار المثقفين الأحرار.

وهكذا انتشر الإلحاد والارتداد في الأوساط الإسلامية من غير أن ينتبه له الآباء والأساتذة والمربون وأهل الغيرة الإسلامية، لأن أهلها لم يقوموا في كنيسة ولم يدخلوا في معبد، ولم يسجدوا لصنم، ولم يذبحوا لطاغوت، وكان ذلك دليل الارتداد والكفر والزندقة في العهد القديم.

وكان المارقون القدماء يخرجون من المجتمع الإسلامي وينضمون إلى مجتمع الديانة التي يدينون بها جديداً، ويعلنون عقيدتهم وتحولهم بصراحة وشجاعة، ويحتملون كل ما يخسرونه في سبيل عقيدتهم الجديدة، ولا يلحفون على البقاء في المجتمع القديم ليحافظوا على ما كانوا يتمتعون به من حقوق وحظوظ. أما الذي يقطع صلته عن دين الإسلام اليوم فلا يريد أن يقطع صلته عن المجتمع الإسلامي مع أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع البشري الوحيد الذي يقوم على العقيدة، فلا يتحقق هذا المجتمع من غير عقيدة ويلحون على أن يعيشوا في مراكزهم متمتعين بثقة هذا المجتمع، متمتعين بالحقوق التي يخولها الإسلام. إن هذا وضع شاذ لم يعرفه التاريخ الإسلامي.

يجب أن نواجه الحقيقة بوعي وفقه وشجاعة. أن العالم الإسلامي يعاني اليوم ردّة دينية وفكرية وثقافية جارفة يجب أن تكون موضوع دراسة جميع من يهمهم الإسلام واهتمامهم. إن الطبقة المثقفة في كل قطر إسلامي مضطربة في العقيدة متحللة في الأخلاق، مادية في التفكير، علمانية في السياسة، وإن كثيراً من رجالها - إن خفت أن أقول أن رجالها - لا يؤمنون بالإسلام كعقيدة ونظام، والشعوب الإسلامية - وفيها كل خير وكل إصلاح وكل استعداد وهي من أصلح الكتل البشرية في العالم - خاضعة لهذه الطبقة بحكم ثقافتها وذكائها ونفوذها، وإذا بقي هذا الوضع تسرب الإلحاد والفساد إلى هذه الشعوب وإلى الطبقات التي تعيش في البادية والقرى وتعمل في المصانع والمزارع وسارت في طريق اللادينية والزندقة. هذا ما وقع في أوروبا، وهو واقع في الشرق إذا جرت الأمور مجراها الطبيعي ولم تحل إرادة الله القاهرة.

يجب أن نعترف أن العالم الإسلامي الذي تغنينا به طويلاً والطبقة المثقفة فيه بصفة خاصة، في حاجة شديدة إلى دعوة إسلامية جديدة، وأن هتاف الدعاة والعاملين فيه وهدفهم اليوم (إلى الإيمان من جديد) لا يكفي، أنه لا بد من تصميم حكيم قبل العمل، ولا بد من تفكير هادئ عميق: كيف ترد الطبقة المثقفة التي تحتكر الحياة وتملك الزمام إلى الإسلام من جديد، وكيف نبعث فيها الإيمان والثقة بالإسلام، وكيف نحررها من رق الفلسفات الغربية والحضارة العصرية ونظرياتها اللادينية.

إن هذه الدعوة - التي أعتقد أنها أفضل دعوة وأفضل جهاد في هذا العصر - في حاجة إلى رجال ينقطعون إليها ويكرسون عليها عملهم ومواهبهم وكفايتهم، ولا يطمعون في منصب أو جاه أو وظيفة أو حكومة ولا يحملون لأحد حقداً أو ترة، ينفعون ولا ينتفعون، ويعطون ولا يأخذون ولا يزاحمون طبقة في شيء تحرص عليه وتتهالك، حتى لا تكون لها حجة عليهم ولا للشيطان سبيل إليهم، شعارهم الإخلاص والتجرد عن الشهوات والأنانيات والعصبيات إن طبيعة هذه الدعوة تخالف طبيعة السياسة والجمعيات والأحزاب اليوم، وإن كانت لها قدوة ففي سيرة الأنبياء وسيرة خلفائهم كالحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وأبي حامد الغزالي، وعبد القادر الجيلي، وابن الجوزي الحنبلي، وابن تیمية والشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي الهندي.

إنها فريضة لا تحتمل التأخير، ولا تأخير يوم واحد، فالعالم الإسلامي يواجه اليوم موجة ردة عنيفة منتشرة في أعز أبنائه وأقوى أجزائه، إنها ثورة على أعز ما يملكه من عقيدة وخلق وقيم ولا بقاء للعالم الإسلامي بعد ضياع هذه الثروة التي خلفها الرسول وتوارثتها الأجيال وجاهد في سبيلها أبطال الاسلام.

فليكن الموضوع موضوع دراسة واهتمام لجميع من يهمهم أمر الإسلام.

دعوة جديدة

تحدثنا في المقال السابق كيف انتشر الخضوع للفلسفات الغربية، التي تحارب ما جاء به الأنبياء والشرائع السماوية من عقائد وأسس وقيم، في العالم الإسلامي، وكيف انتشرت بتأثيرها الزندقة، وبصراحة الردة - إذا كان الإسلام ديناً وعقيدة معينة، ولا بد - في الطبقات المثقفة في دنيا الإسلام، لا فرق في ذلك بين الشرق والغرب، والعرب والعجم.

وكان أكثر حديثنا عن العقيدة الأساسية كالإيمان بالله والإيمان بالرسالات والإيمان بالغيب والإيمان بالآخرة، ولا شك أنها في المكان الأول من الأهمية، وهي نقطة الفصل بين الإيمان والكفر، والإسلام والزندقة.

وهناك نزعات جاهلية ومبادئ جاهلية، حاربها الإسلام بكل وضوح وحاربها الرسول بكل قوة، كالعصبية الجاهلية، ومجد هذه العصبية ويبالغ في تقديسها والدفاع عنها والقتال تحت رايتها وتوزيع المجتمع الإنساني على أساسها حتى تصبح ديانة وعقيدة، وتسيطر على العقول والنفوس، والأرواح والآداب، وتكون هي المصرفة للحياة، ولا شك أنها في عمقها ورسوخها وقوتها وشمولها تنافس الأديان وتستعبد الإنسان وتحبط مساعي الأنبياء وتحدد الدين الذي جاء ليحكم على الحياة - في العبادات والطقوس، وتقسم العالم الإنساني في معسكرات متحاربة والأمة التي قال الله عنها: (وإن هذه أمتكم أمةٌ واحدة وأنا ربکم فاتقون) في أمم كثيرة.

لقد حارب الرسول هذه العصبية الجاهلية بكل قوة ومن غير هوادة، وأنذر منها وسد منافذها. وكان لا بد، فلا بقاء للدين (العالمي)، ولا بقاء للأمة (الواحدة) مع هذه العصبيات، ومصادر الشريعة الإسلامية زاخرة بإنكارها وتشنيعها، والنصوص في ذلك أكثر من أن تستقصى. وهذا يعرف بداهة من الإسلام، والذي عرف طبيعة الإسلام، بل عرف طبيعة الأديان، عرف أنها لا تسيغ هذه العصبيات، ومن درس التاريخ متجرداً عن الميول - والمذاهب السياسية عرف أنها لم تزل - ولا تزال - من أقوى عوامل الهدم والتخريب والإفساد والتفريق بين الإنسان والإنسان، ومن المعقول المنتظر من الإنسان الذي جاء ليوحد العالم ويجمع النوع الإنساني تحت راية واحدة وعلى عقيدة واحدة ويكون مجتمعاً جديداً قائماً على (الدين) وعلى الإيمان برب العالمين، ويبسط الأمن والسلام وينشر الحب والوئام بين أعضاء الأسرة الإنسانية وجعلها جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، من المعقول جداً من هذا الانسان أن يحارب هذه العصبيات بكل وضوح وصرامة ويجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون.

ولكن العالم الإسلامي أصبح - بعد ما غزته أوروبا سياسياً وثقافياً - يخضع لعصبيات متعددة ويؤمن بها كقضية علمية وحقيقة مقررة وواقع لا مفر منه، وأصبحت شعوبه تندفع اندفاعاً غريباً إلى إحياء هذه العصبيات، التي أماتها الإسلام، والتغني بها وإحياء شعائرها - ولو كانت وثنية سافرة - والافتخار بعهدها الذي تقدم على الإسلام، وهو الذي يلح الإسلام على تسميته بالجاهلية وليس في معجمه تعبير أهول وأفظع منه. ويمن القرآن على المسلمين بالخروج عنها ويحثهم على شكر هذه النعمة التي لا نعمة أعظم منها: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) (وهو الذي ينزل على عبده آياتٍ بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم).

والطبيعي من المؤمن أن لا يذكر (الجاهلية) إلا بمقت وكراهة وامتعاض واقشعرار، وهل يذكر السجين المعذب الذي أطلق سراحه أيام اعتقاله وتعذيبه وامتهانه إلا وعرته قشعريرة وثارت الذكريات الأليمة القاتمة، وهل يذكر البارئ من علة شديدة طويلة أشرف منها على الموت، أيام سقمه إلا وانكشف باله وامتقع لونه، وهل يذكر الإنسان رؤيا فظيعة مفزعة رآها إلا وشكر على أنها حلم زائل وهم راحل. وأمر (الجاهلية) - التي تجمع معاني الجهل والضلالة والبعد عن الحقائق وأنواع الخطر والمضار في الدنيا والآخرة - أعظم من كل ذلك، وجدير بأن تثير ذكراها المقت الشديد وتحث على الشكر على التخلص منها، وانقضاء أيامها، ولذلك جاء في الصحيح «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار».

وقد ذم الله شعائر الجاهلية وأبطالها وعظماءها في غير رفق وتحفظ فقال: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) ويقول: {وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود، وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود).

ولكن كثيراً من الأقطار الإسلامية والشعوب الإسلامية – بتأثير الفلسفات الغربية والتفكير الغربي وحده - أصبحت تمجد عهدها العتيق - الذي سبق الإسلام - وحضارته وتقاليده، وتحن إليه وتحرص على إحياء شعائره، وتخلد عظمائه وأبطاله وملوکه وأمجاده، كأنه عهدها الذهبي، وكأنه نعمة حرمها الإسلام إياها وفي ذلك من الجحود والنكران للجميل وقلة تقدير نعمة الإسلام وفضل محمد عليه الصلاة والسلام وتهوين خطب الكفر والوثنية وما اشتملت عليه الجاهلية من خرافات وضلالات وسفاهات ومضحکات مبكيات ما لا يعقل عن مسلم واع وما يخاف معه الحرمان من نعمة الإسلام وسلب الإيمان والتعرض لسخط الله الشديد وقد قال: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسکم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون).

أضف إلى ذلك ما يوجد في العالم الإسلامي اليوم من التهور في الحصول على المادة وإيثارها على كل مبدأ وعقيدة وإيثار الدنيا على الآخرة والإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى، وما تبع ذلك من التفسخ الخلقي والاستهانة بمحارم الله وشيوع الخمر والفسوق في الطبقات (الراقية) حتى تكاد تكون هذه الطبقة نسخة واحدة وصورة واحدة في كل بلد إسلامي - إلا من عصم ربك، وقليل ما هم والتحرر من قيود الإسلام وفرائضه تحرراً تاماً حتى كأنها لا صلة لها بالإسلام وشريعته، وكأنه شريعة منسوخة وأسطورة خيالية.

هذا - ما قدمنا في المقال السابق - تصوير العالم الإسلامي الديني والاعتقادي بالإجمال، وهي موجة (جاهلية) تكتسح العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه وهي أعظم موجة واجهها العالم الإسلامي في تاريخه الطويل وهي تفوق كل موجة معارضة عرفها التاريخ الإسلامي وتمتاز عنها بأن المنتبهين لهذه الأخيرة قليل، والذين ينقطعون لمحاربتها ويجندون لها قواهم ومواهبهم أقل، فقد حدث الإلحاد وظهرت الزندقة بتأثير الفلسفة اليونانية في القديم فوجد من يحاربها بعقله الكبير وذكائه النادر وعلمه الغزير ودراسته الواسعة وشخصيته القوية، وظهرت الباطنية والملاحدة فوجد من يحاربها بالعمل والحكمة والبرهان. وبقي الإسلام محتفظاً بنفوذه العقلي ومكانته العلمية، ترتد عنه كل موجة عاتية، وينحسر عن طوده كل فيضان وكل سیل جارف.

ليست المسألة مسألة انحطاط في الأخلاق، وضعف في العبادات، وترك للشعائر وتقليد للأجانب، وإن كانت مسائل تستحق العناية والجهاد، ولكن مسألة العالم الإسلامي اليوم أعظم وأضخم من كل ذلك، إنها مسألة كفر وإيمان إنها مسألة بقاء على الإسلام وخلع له. إن المعركة قائمة بين الفلسفة الغربية اللادينية وبين الإسلام آخر الرسالات، وبين المادية والشرائع السماوية ولعلها آخر معركة تقوم بين الدين واللادينية، وأنها تحدد مصير العالم.

إن جهاد اليوم وإن خلافة النبوة، وأن أعظم القربات وأفضل العبادات، أن تقاوم هذه الموجة اللادينية التي تجتاح العالم الإسلامي وتغزو عقوله ومراكزه، وأن تعاد الثقة - المفقودة – إلى نفوس الشباب والطبقة المثقفة بمبادئ الإسلام وعقائده وحقائقه ونظمه، وبالرسالة المحمدية، ويزال القلق الفكري والاضطراب النفسي اللذان يساوران الشباب المثقف، ويقنعوا بالإسلام عقلياً وثقافياً.

لقد مضى علينا قرن كامل وأوروبا تغتصب شبابنا وعقولنا، وتنبت في نفوسنا الشك والإلحاد والنفاق وعدم الثقة بالحقائق الإيمانية والغيبية، ونحن معرضون عن مقاومتها معتمدون على ما عندنا من تراث، مضربون عن الإنتاج الجديد، معرضون عن مواجهة فلسفاتها ونظمها ومحاسبتها محاسبة علمية ونقدها وتشريحها كتشريح الأطباء الجراحين متعللين بالبحوث السطحية المستعجلة، وبالزيادة في ثروتنا العلمية القديمة، حتى فوجئنا في العصر الأخير بانهيار العالم الإسلامي في الإيمان والعقيدة، وملك زمام الأمور في البلاد الإسلامية جيل لا يؤمن بمبادئ الإسلام وعقيدته ولا يتحمس لها ولا تربطه بالشعب المسلم المؤمن البريء إلا القومية الإسلامية أو المصالح السياسية، وبدأت هذه العقلية أو النفسية اللادينية تتسرب عن طريق الأدب والثقافة والصحافة والسياسة إلى الجماهير حتى أصبحت الشعوب الإسلامية مهددة بلا دينية شعبية عامة، وكاد الإسلام يقصى من الحياة والمجتمع.

إن العالم الإسلامي في حاجة إلى منظمات علمية تهدف إلى إنتاج الأدب الإسلامي القوي الجديد الذي يعيد الشباب المثقف إلى الإسلام بمعناه الواسع من جديد، ويحررهم من رق الفلسفات الغربية التي آمن بها كثير منهم بوعي ودراسة وأكثرهم بتقليد وتسليم، ويقيم في عقولتهم أسس الإسلام من جديد، ويغذي عقولهم وقلوبهم، إنه في حاجة إلى رجال في كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي عاكفين على هذا الجهاد، منقطعين إليه، لا شأن لهم بالحكومات والوزارات، والوظائف والمرتبات، يحتسبون عملهم ويتقربون به إلى الله.

إني لم أكن في فترة من فترات حياتي ممن يقول بفصل الدين عن السياسة، ولا ممن يفسر الدين تفسيراً لا يتصادم مع وضع - مهما انحرف وشذّ عن الإسلام - وينسجم مع كل مجتمع، ولا ممن يعتبر السياسة (الشجرة الملعونة في القرآن) بل أنا في مقدمة من يدعو إلى إيجاد الوعي السياسي الصحيح في الشعوب الإسلامية وإيجاد القيادة الصالحة، ومن يعتقد أن المجتمع الديني لا يقوم إلا بالحكم الديني الصحيح والحكم الصالح المؤسس على أسس الإسلام ولا أزال أدعو إلى ذلك حتى ألقى الله.

إنما المسألة مسألة ترتیب، وتقديم وتأخير، وما تقتضيه حكمة الدين وفقهه، وما تفرضه الأوضاع، إننا أنفقنا جهودنا ومواهبنا وما أوتينا من فرص ووسائل في حركات سياسية وتنظيمية، وكان كل ذلك على أساس أن الشعب مؤمن وأن من يقوده ويملك زمامه – هي الطبقة المثقفة لا محالة - مؤمن مقتنع بالإسلام وعقيدته ومبادئه متحمس للإسلام وعلوه ونفاذ حدوده، وإذا الأمر بالضد، وإذا الشعب قد ضعف في إيمانه وانحط في أخلاقه من حيث لم نشعر ولم يشعر وإذا الطبقة المثقفة ذابت في أكثر أفرادها العقيدة الاسلامية وتبخرت بتأثير فلسفات الغرب أو سياسته ونفوذه. وكثير من أفرادها ثائر على العقيدة الإسلامية بالفلسفات الغربية وما جاءت به من عقائد وأفكار تصادم الدين، ينتصر لها ويتحمس لها ويحرص على نشرها وتنفيذها ويريد أن ينظم الحياة على أساسها وفي ضوئها ويصل بالشعب إليها، فمنهم مسرع متهور، ومنهم حکیم متدرج، ومنهم منفذ بالقوة، يفرضها على الشعب فرضاً ومنهم لبق هادیء يزينها للشعب، والهدف واحد والغاية واحدة.

ورجال الدين - إن صح هذا التعبير، فليست في الإسلام الكهنوت والطبقة الدينية الممتازة - في ذلك فريق يحارب هذه الطبقة حرباً شعواء ويكفرها ويبتعد عنها، ويعرض عن تتبع أسباب هذا الاتجاه اللاديني وعن ثقافتها، ولا يعني بإصلاح الأحوال وتغيير هذا الاتجاه المعارض والمحاربة للإسلام، وبالاختلاط بها وإزالة الوحشة والنفور عن الدين وعن رجال الدين، وتشجيع ما عندها من خير وذرة إيمان، وتغذيتها بالأدب الإسلامي الصالح المؤثر، - وبالزهد في ما عندها من جاه أو مال وقوة وسلطان، وتقديم النصح الخالص والتوجيه الحكيم.

وفريق يتعاون معها ويساهمها في المنافع والخيرات، وينتفع بها في دنياه من غير أن ينفعها في دينها، فلا دعوة، ولا عقيدة، ولا غيرة على الدين، ولا حرص على الإصلاح ولا رسالة لها في هذا القرب والتعاون.

والفريق الثالث - الذي يتألم لهذا الوضع ويتوجع به، ويعترف بأن هذه الطبقة مريضة صالحة للتداوي مستعدة للشفاء، يتقدم إليها بالدعوة الرفيقة والرسالة الحكيمة والنصيحة الخالصة – يكاد یکون مفقوداً، فلا صلة لهذه الطبقة بالدين وبالجو الديني، تعيش في عزلة عنه وفي وحشة منه، ولا تزداد إلا بعداً عن الدين وازدراء بكل ما يتصل به، ويزدها الفريق الذي يحاربها حرباً شعواء لا هوادة فيها، والفريق الذي يتزعم الدين ويريد أن ينزع عنها الحكم وينافسها في الجاه والمنصب، لا يزيدها الفريقان إلا بغضاً للدين وإشفاقاً منه، والإنسان مفطور على بعض من ينافسه في دنياه - إذا كان لا يؤمن إلا بالدنيا - ومن ينتزع منه الحكم والسلطان - إذا كان لا يعيش إلا على الحكم والسلطان - ومن يساهمه في مادته وشهواته - إذا كان لا يعرف إلا المادة والشهوات.

وحاجة الأقطار الإسلامية اليوم إلى فريق يتجرد عن المطامع، يخلص الدعوة، ويبتعد عن كل ما يوهم بأن همه الدنيا والمادة والتغلب على الحكومة، لنفسه أو عشيرته أو حزبه، يحل العقد النفسية والعقلية التي أحدثتها الثقافة الغربية، أو أخطاء (رجال الدين) أو سوء التفاهم أو قلة الدراسة والابتعاد عن الإسلام وجوّه، وذلك بالمقابلات والصداقات والمحادثات، وبالأدب الإسلامي الصالح المؤثر وبالروابط الشخصية وبالنزاهة وعلو الأخلاق وقوة الشخصية والزهد في حطام الدنيا والعزوف عن الشهوات، وتمثيل أخلاق الأنبياء وخلفائهم.

هذا هو الفريق الذي خدم الإسلام في كل عصر، وإليه يرجع الفضل في تغير اتجاه دولة بني أمية وظهور خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز ونجاحه، بسعي رجاء بن حيوة، وقد أعيد هذا التاريخ في عصر الملك المغولي الأكبر جلال الدين أكبر الذي ثار على الإسلام وصمم على تحويل هذه القارة الإسلامية الواسعة، التي عاشت في الحكم الإسلامي أربعة قرون، جاهلية برهمية، ولكن بفضل هذه الدعوة الحكيمة وبظهور داعية إسلامي مجدد وشخصية إسلامية حكيمة أخلصت للإسلام وأحسنت فقهه وفقه الدعوة وبتأثير تلاميذه، عادت الهند إلى الإسلام أقوى وأفضل، وتوالى على العرش أكبر ملوك يتدرجون في الصلاح وحب الإسلام حتى جاء على العرش ملك يتجمل تاريخ الإسلام وتاريخ الإصلاح بذكره وحديثه. والتاريخ دائم يعيد نفسه، وهو مستعد للعودة إذا صحت العزيمة.

وسوم: العدد 864