وباء "العلمانيّة" أشدّ فتكاً مِن "كورونا" !

في يوم الخميس الماضي -وعلى وجه التحديد- في تمام الساعة السابعة مساءً؛ مررتُ على شيخي الأديب في خيمتهِ المتواضعة، فوجدتهُ عاكفاً على تلاوة أوراده ... وقبل أنْ أجلِس، نظر إليَّ نظرةً ثاقبة، ثمَّ سألني: ما لي أراكَ اليوم كبقية الخَلْق؟

فشكوتُ لهُ ما حلَّ على العباد والبلاد من وباء "كورونا" الغريب!

فهزَّ رأسه، وقال: لا بأسَ عليكَ ... يبدو أنكَ ككثيرٍ مِن أبناء جيلك المساكين!

ثمَّ أدخلَ مسبحتهُ الطويلة في جيبه، وسألني بحسرةٍ: هلْ تألَّمتَ مِن وباء "كورونا"، ولمْ تتألَّم من وباء "العلمانيّة" اللعين؟! هل تعتقد أنَّ "كورونا" أخطر من سرطان "العلمانيّة"؟!

فقلتُ له: معذرةً يا شيخي؛ "كورونا" يزهق أرواح المئات من البشر!

فربَتَ على كتفي، وقال متألِّماً: ولكن وباء "العلمانيّة" أزهقَ هُويّة الأمّةَ بأسرِها، وتوعّد باقتلاعها مِن وجودها!

بلْ إنَّ كتائب (العلمانيين والحداثيين وإخوانهم في الرضاعة) توحَّدوا تحت لواءٍ واحد؛ لاستصال الأمة من جذورها، ودفنها إلى الأبد!

فمنذ بضعة عقود؛ وهم يُراهنون على تمزيق الأمة فكرياً وثقافياً وعقائدياً، حتى أصبحت فاقدة الوعي والذاكرة، وصارت عالةً على موائد الآخَرين!

لقد بدت البغضاء من أفواههم، وما تُخفي صدورهم أكبر!

إنَّ هؤلاء لا يؤمنون بالإسلام أصلاً، وإنْ تسمّوا بأسماء إسلامية!

أليسوا هم الذين يقولون –زُوراً-: لماذا تُدخِلون الإسلامَ في كل شيء؟!

بلْ إنهم يعتبرونَ "الإسلام" تخلّفاً وجموداً وتأخراً، ويرونَ في أخلاقهِ وشعائرهِ وشرائعهِ خطراً يتهدد ما يؤمنون به من مذاهب ونظريات أفرزتها مراحيض الشارع الغربي!

ومِن أسف؛ أنهم نجحوا في تحقيق غايتهم؛ حتى صارت أرضنا وبلادنا مسرحاً لعمليات التغريب والتخريب والتجريب والاستلاب الحضاري والاجتياح الثقافي والغزو الفكري الذي يتمّ عبر خِطط علمية، تجنّد لها دوائر البحث العقول والأموال والإعلام، وهي تعرف بالضبط ميادين عملها والأهداف التي تسعى إليها ...!

وما كان ليحدُث هذا في أرض الأنبياء ومهبط الهدايات؛ لولا أولياء الغرب وربائبه الذين يحتفلون ب «نابليون» و«اللورد كرومر» وغيرهم مِمّن مشى على تاريخنا مستهزئاً.

إنهم بالتعاون مع سادتهم وكبرائهم «يُغربنون» العالَم العربي والإسلامي، ويُركّعونه، ليُحوّلوه عبداً وخادماً بألف وسيلة: بالترويج للمذاهب والفلسفات الغربية، والتسويق للنظريات الشاذة، والتفريغ الفكري والثقافي، وإثارة الطائفيّات العرقيّة والأقليات الدينيّة، واستغلال الجروح التاريخية، وفرض المخاوف الاجتماعية والمشكلات المصطنعة، وتشويه القيَم التي تعارفت عليها الأُمّة، وتدمير الروح المعنوية، ونشر الضياع والفوضى والانحلال الأخلاقي ... فالغرب الآن لا يسلب الثروات المادية فقط كما كانت الحال في الأزمنة الاستعمارية البائدة؛ ولكنه يدمِّر القوى الفكرية والثقافية والروحية التي يمكن أن تقول: «لا» للغاصبين.

فترويضهم للعالم العربي والإسلامي هو نزع عناصر مقاومته، وتدمير حصونه الثقافية، وهذا شرط أساسي لاستغلاله بأقل جهد، وأسرع وقت، وأقل كُلفة، والغاية عندهم تبرِّر الوسيلة؛ كما قال ممثلهم السياسي الأكبر (مكيافيلِّي).

أولئك «أعداء الأمة» من علوج التغريب وسماسرة الفكر وتجَّار المذاهب الذين تلقّفوها من فوق قمامة الفكر الغربي، وروّجوا لها عبر صحفهم ومجلاتهم الحامضة؛ فصنعوا بها واقعاً مريراً، ودنيا مختلطة، وراحوا يطالبون الآخَرين بأن يعتنقوها ويؤمنوا بها، بلْ ويُرهبونهم بشتى الوسائل، كما قال سلفهم الطالح لمخالفيهم: {لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}!

حزينةٌ أُمّتنا ... التي ابتُليت بدعاة العلمنة والتنوير والحداثة؛ الذين إذا ذُكِرَ الإسلام اشمأزّتْ قلوبهم، وإذا ذُكِرتْ الماركسية وأخواتها إذا هم يستبشرون!

أولئك الذين رتعوا في أجهزة الإعلام، وعربدوا في ميادين الفكر، متطاولين على التراث، مُلفّقين التاريخ، مُزيّفين الواقع، مُضلّلين الطريق للمستقبل.

وليس مصادفة أن تختارهم الأجهزة "الاستخباريّة" لإصدار مجلات فكرية وثقافية، وتُخصّص لهم قنوات فضائية؛ لبثّ سمومهم ليلَ نهار!

لقد اختارت حَمَلة لواء مهاجمة الإسلام وأدعياء التقدُّم والانفتاح؛ الكارهين لأُمّتنا، الثائرين على ديننا وتراثنا ... الذين ينادون بإزالة الثوابت الدينية، ونشر العلمانية!

لذا؛ فإنَّ الإصلاح المنشود يقتضي أن يَخرج من المؤسسات الثقافية والإعلامية "المغفّلون مِن الأعراب"؛ الذين شاركوا في تلك الحملة الصليبية ضد هويّة الأمة ووجودها الحضاري.

ومِن جانبنا نقول: إذا كانت حريّة «دعاة التنوير والحداثة» هيَ أن يكتبوا ما يشاؤون؛ فحريّتنا نحن أن نردّ على أخطائهم وخطاياهم!

فالواجب على المثقفين الأصلاء أن يكشفوا عن تلكم المؤامرة التي ينسج خيوطها «مارينز» الثقافة العربية، وربائب الاستعمار، واليساريّون المتأمركون، وأن يردّوا على (قباقيب) الغرب، عسى الله أن يكفّ بأس العلمانيين.. والله أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً!

*   *   *

إنَّ المتأمل فيما يحدُث في بلادنا لا يكاد يملك نفسه من فرط الحسرة التي تنتابه لما آلتْ إليه منظومة الفكر والإعلام على أيدي المتغرّبين الذين حوّلوا الثقافة والأدب إلى حربةٍ تهاجم الإسلام والمسلمين، وحوَّلوا الفكر والفن إلى هتاف وصياح وصرخات تشنجيّة!

لقد مارسوا أسلوب الإرهاب الفكري في وجه مخالفيهم، وصنعوا من فكرهم بوقاً لمبادئ المذاهب الوافدة والترويج لها ... والعجيب أن يقوم ب هؤلاء الواهمون بسرقة الأفكار التغريبية، وتقديمها في صورة ممسوخة ... ولولا الحياء لذكرتُ لكم أسماء هؤلاء السفَلَة، وعناوينهم، وأرقام هواتفهم، وأنواع الهدايا والمِنح والموائد التي تتنزّل عليهم وعلى حواريّيهم!

هكذا صار الحال! حتى وجد المخلِصون أنفسهم محصورين في زوايا ضيقة، ومرغمين على الاستسلام والصمت، وخلا الميدان إلاَّ من التغريبيين والعازفين على أوتار القيثارة الرسمية.

وكأنَّ الزمانُ قد استدار كما كان أول أيام المجتمع الإسلامي في مكَّة؛ عندما كان المشركون يرشقون المسلمين بالقصائد، وينالون فيها من عقيدتهم ورجالهم ونسائهم!

أكاد أقول: إن ما يعانيه المسلمون اليوم؛ أشدّ مما عانوه من قبل؛ فالهجوم أشد وأعمق، والأسلحة تطوّرت وتعدّدت!

*   *   *

نعم؛ لقد نجح الغربُ بامتياز في صناعة عمالة فكرية تخدم أطماعه وتحقّق أهدافه، على حين فشل في تحقيق ذلك عن طريق الحروب والمواجهات العسكرية عبر مئات السنين؛ وذلك بفضل "الطابور الخامس" الذين صار ولاؤهم للغرب أكثر من ولائهم لأوطانهم ومجتمعاتهم التي لم تألُ جهداً في تعليمهم؛ أملاً في الإصلاح والنهضة.

لقد صالَ وجالَ سدنة التغريب في ميادين الفكر والثقافة والأدب، حتى رأينا منهم مَن يطالب بإزاحة اللغة العربية من الوجود طلباً للنهضة التي ينشدها، ومنهم من يدعو إلى التخلص من تراثنا لتحقيق الحداثة والتنوير، ومنهم مَن يتجرأ على المقدسات باسم الإبداع وحرية الفكر، وراحوا يفرزون كتابات كريهة كأرجل الفئران ورؤوس الشياطين! ومنهم مَن أعلن بمِلء فمِه رفضه المطلق لقضية التوحيد والإيمان، وتبنِّيه الفصل المطلق بين الدين والحياة، واستعداءه على حَمَلَة الشريعة ودعاة الإسلام، بلْ على الشعائر الإسلامية ذاتها. ولقد رأينا منهم من يغتالون التاريخ الإسلامي كله؛ فلا يرون فيه سوى سلسلة من المجون والمظالم محاكاة منهم لادعاءات اليهود وكتابات غلاة المستشرقين. كما رأينا منهم من يسخر بشدة من الرموز الإسلامية، بلْ إنَّ منهم مَن تطاول على الأنبياء، ورسالات السماء: بالتلميح تارة، وبالتصريح تارة أخرى!

وغير ذلك من الجرائم المُخزية التي يمارسها حفَدة ابن سلول، وبقايا جيش مُسيْلمة!

إنه لمن المحزن حقاً أن تصبح ثوابت الأمة ومحكماتها عرَضاً مباحاً لهؤلاء الجهلاء، يخوضون فيه طعناً وتسفيهاً وتشويهاً وتزييفاً، بعدما تجرّدوا من العقل والموضوعية.

فأمتنا تشهد اليوم انسلاخاً حضارياً، وعدواناً تدميرياً من جنود العلمانية!

فالأمر جدُّ خطيرٍ، خاصة بعدما حرث هؤلاء الأرض أمام كل ما دُبّر لهذه الأمة في الظلام، وراحوا فرحين ينادون بقطع علاقة الدين بالثقافة والفكر والأدب وسائر شؤون الحياة ... ولقد كان عهدنا بهذه الشرذمة هو التخفِّي والالتفاف والمناورة؛ لِمَا يعلمون من خروج دعوتهم على مُحكمات الدّين والقيم الراسخة؛ إلا أنهم قد تجاوزوا ذلك، وأخذوا يستعلنون بهذه الزندقة بعد أن تواصوا في محافلهم بذلك، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم على مرتكزات الشريعة وأصولها الكبرى، وهدم القيم والأخلاق، والتكتُّل في جبهة موحدة لمواجهة الحقّ وأهله!

لذا وجب على «الشرفاء» أن يعلنوا إبراءً للذمة أنَّ مثل هذا التطرف العلماني الجاهلي خروج على دِين الأمة! وعدوان سافر على مرجعيتها المقدّسة كتاباً وسُنّة!

يا معشر «الشرفاء»! إنَّ الذي نشهده الآن من استطالة التيار العلماني التغريبي، واستماتتهم في محاربة الحق، وعزل هداية السماء عن مسيرة هذه الأمة، والزجّ بها في مجاهل الأرض وخوادع السبل، عن طريق نشر نفايات المذاهب الفكرية والأدبية المستوردة؛ يُعدُّ خيانة عظمى لهذه الأمة، وإنَّ التمكين لذلك يُعدُّ إعانة على هذه الخيانة، ومسلكاً عدائياً لا تصلح به دنيا ولا يبقى معه دِين. وعلى «الشرفاء» أن يُعلنوا مرة أخرى براءتهم إلى الله -عز وجل- من تلك «الجاهلية المعاصرة» بكل مذاهبها وأجناسها ورجالها وأدواتها، وأن يعلنوا صراحة أنَّ مثل هذه الدعوات الكاذبة والمذاهب الفلسفية الشاذة التي تتنافى وسموّ الإسلام ورسالته إنما هي امتداد للوجود الاستعماري التخريبي في البلدان العربية والإسلامية جمعاء.

هذا بلاغٌ لكم والبعثُ موعدنا ...

وعند ذي العرش يدري الناسُ ما الخبرُ!

وسوم: العدد 870