الخارجية الأمريكية وحقوق الإنسان: رجع الصدى المستهلَك

مراراً تلعثم روبرت أ. ديسترو مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده في مناسبة إصدار التقرير السنوي الذي تعدّه الوزارة حول حقوق الإنسان في العالم؛ لكنه، بصدد أسئلة يتيمة حول السعودية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، حار جواباً ولم يجد وسيلة لمداراة الحرج سوى اللفّ والدوران. قبل ذلك كان رئيسه المباشر، وزير الخارجية مايك بومبيو، قد خصّ أربع دول (الصين، إيران، فنزويلا، كوبا) بهجاء منفرد؛ وتوجّب أن يتلعثم ديسترو هنا أيضاً في تبرير انتقائية بومبيو، إذْ أنّ التقرير مخصص لاطلاع الكونغرس وليس للمشاركة في صبّ الزيت على نار سياسات العداء التي تتخذها الإدارة تجاه هذه الدولة أو تلك.

والتقرير، الذي يغطي أوضاع حقوق الإنسان في 199 دولة، خلال العام 2019؛ يضع دولة الاحتلال الإسرائيلي والضفة الغربية وقطاع غزة في «دولة» واحدة، ويوضح أن الولايات المتحدة اعترفت بمدينة القدس عاصمة للكيان، كما أقرّت بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل. في عبارة أخرى، هنا توضع حقوق الإنسان (ومعها الشرعة الدولية والقانون الدولي والقرارات الأممية) على الرفّ مباشرة، ومن دون أيّ لفّ أو دوران: «خلال العام أطلقت المجموعات الفلسطينية المسلحة 1340 صاروخاً وقذيفة هاون من قطاع غزة على اهداف عشوائية أو مدنية، فقتلت ستة إسرائيليين وجرحت أكثر من 150»؛ هكذا يبدأ التقرير.

ماذا فعل جيش الاحتلال في المقابل؟ هنا ما يقوله التقرير: «خلال السنة انخرطت القوات الإسرائيلية في النزاع مع الفلسطينيين على سياج غزّة، وتضمن ذلك مواجهة إرهابيين مسلحين، ومتشددين اطلقوا أجهزة حارقة إلى داخل إسرائيل، ومتظاهرين مسلحين». هل قُتل أي فلسطيني برصاص الاحتلال، على السياج أو في الضفة الغربية؟ ليس في وسع التقرير أن يتجاهل الحقائق الصلبة في هذا المضمار، والتي تنشرها أيضاً منظمات إسرائيلية معنية بحقوق الإنسان؛ لكنّ التقرير يسارع إلى تبنّي وجهة نظر الاحتلال: معظم القتلى من المتشددين، والجيش الإسرائيلي كان يطلق النار على الرُكب والأقدام حين يضطر إلى استخدام الذخيرة الحية!

وخلال المؤتمر الصحافي، حين يسأله صحافي عن تهديم البيوت والمجمعات السكنية في الضفة الغربية والقدس، وما إذا كانت هذه الممارسات تدخل في عداد العقاب الجماعي، يتلعثم ديسترو جيداً هذه المرّة، قبل أن يلتف على الإجابة: «الولايات المتحدة تتدخل بشكل نشط مع إسرائيل كلما لمست وجود مشكلة حقوق إنسان جدّية». وأمّا «عمليات الهدم، وما إذا كانت مشكلة حقوق إنسان مهمة، فهذه مسائل يمكن أن نثيرها مع الحكومة الإسرائيلية، وأنا على ثقة أننا فعلنا هذا»! التقرير ذاته لا يفعل بالطبع، وإذْ يشير إلى هذا التفصيل (وكيف له أن يتغافل عنه!)، فإنه يردّ الأسباب إلى المبررات ذاتها التي تستند إليها سلطات الاحتلال: الافتقار إلى الترخيص بالبناء، البناء على أراض مخصصة لجيش الاحتلال، المنازعات العقارية التي بتت فيها المحاكم…

مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل يتلعثم جيداً، أيضاً، حين يُسأل عن السعودية إجمالاً، وجريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي خصوصاً؛ ثمّ، على نحو أكثر تحديداً، إغفال التقرير لملاحظات عناصر السفارة الأمريكية في الرياض، الذين حضروا جلسات محاكمة المتهمين بالتخطيط لعملية الاغتيال وتنفيذها. يجيب ديسترو: «فلنبدأ من الاعتراف بأنّ مقتل جمال خاشقجي جريمة غير مقبولة. لقد تحدثنا مع القيادة السعودية من الملك ذاته فالأدنى، وأعربنا عن القلق. الموقف الذي اتخذناه لم يتغير». وكذلك: «أعتقد أننا سجّلنا غياب الشفافية في المملكة العربية السعودية. ومحاكمة خاشقجي مثال. ولكن بمعزل عن هذا، لن يكون هناك الكثير الذي يُقال». وهكذا: «جريمة غير مقبولة» في توصيف واحدة من أبشع أمثلة حرّية الصحافة واغتيال الحقّ في التعبير، من جهة؛ ولكن ليس ثمة «الكثير الذي يُقال» حولها، في تقرير وزارة خارجية القوّة الكونية العظمى، من جهة ثانية.

والحال أنّ الفقرة الوحيدة التي يخصصها التقرير لقضية خاشقجي (أقلّ من ربع صفحة، في 58 صفحة تشغلها السعودية من نسخة التقرير في صيغة الـPDF) لا تعكس أيّ موقف محدد يمكن أن ينسبه المرء إلى استقصاءات وزارة الخارجية ذاتها. فالفقرة تنقل معلومات صحافية عن المحاكمة، والرأي الذي نشرته المحققة الأممية أنييس كالامار حول المخالفات الفادحة في إجراءات المحاكمة، وعدم توفر الأدلة لإدانة سعود القحطاني… وكأنّ موظفي السفارة الأمريكية الذين حضروا جلسات المحكمة، كانوا من الصمّ البكم الذين لا يفقهون! في المقابل، ليس ثمة مّنْ هم أشطر من زملائهم الدبلوماسيين الأمريكيين هنا وهناك، خاصة في الصين وإيران وفنزويلا وكوبا، لجهة تسجيل انتهاكات حقوق الإنسان كافة.

والمرء يستعيد سنة بالغة الخصوصية من عمر هذه التقارير، التي بلغت 44 حتى الساعة، حين استفاضت باولا دوبريانسكي، زميلة ديسترو الأسبق في المنصب أيام كوندوليزا رايس وإدارة جورج بوش الابن، في الحديث عن ولادة جديدة لحقوق الإنسان بأثر من «ثورة زهرية» في جورجيا، و«ثورة برتقالية» في أوكرانيا، و«ثورة أرجوانية» في العراق، متطلعة أيضاً إلى «ثورة الأرزة» في لبنان! ورغم أنّ أحداً، أغلب الظنّ، لم يدرك تماماً سبب اختيار اللون الأرجواني للعراق، إلا إذا كانت دوبريانسكي تقصد الإشارة إلى عنف قانٍ هو نقيض الثورات السلمية، فإنّ مآلات الزهري والبرتقالي والأرزي لم تتأخر كثيراً، مثيرة للشفقة على أهلها والشماتة في المراهنين عليها؛ ولم يطل الوقت حتى تكشف اللون الأرجواني عن الهيمنة الإيرانية شبه المطلقة، وحكومات المحاصصات الطائفية والنهب والفساد.

هذا دون إغفال الحقائق الساطعة التي تقول إنّ الولايات المتحدة، وهي الدولة ذات النظام الديمقراطي العريق، لم تكن في أيّ يوم أفضل مَنْ يعطي البشرية الدروس والعظات التقارير المفصلة حول احترام حقوق الإنسان. للأسئلة، في هذا الصدد، أن تعود إلى سجن غوانتانامو وسجن أبو غريب، و«تصدير» الإدارة عدداً من المعتقلين إلى دكتاتوريات شرق ــ أوسطية تتولّى التحقيق معهم بوسائل قذرة لا يبيحها الدستور الأمريكي. هذا إلى جانب أنّ موضوع الصين تحديداً يظلّ الكاشف الأعظم لمعظم ما يكتنف الخطاب الأمريكي من نفاق حول مسائل حقوق الإنسان، في الغالبية الساحقة من الإدارات التي أعقبت الانفتاح على بكين.

ولكي لا تبقى إدارة دونالد ترامب وحيدة في قفص الاتهام، كان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قد تلقى رسالة وقعها 12 من زملائه الحائزين على جائزة نوبل؛ يسألونه فيها إطلاع الرأي العام، الأمريكي والعالمي، على محتوى تقرير أعده مجلس الشيوخ، حول لجوء أجهزة الاستخبارات إلى تقنيات تعذيب مختلفة أثناء التحقيقات مع معتقلين بتهمة الإرهاب، بعد 11/9/2001. البيت الأبيض، منحازاً كالعادة إلى صفّ الاستخبارات في معركة حامية الوطيس ضدّ هيئات حقوق الإنسان وحماية الحريات العامة، وافق على نشر 500 صفحة فقط، من أصل 6000؛ الأمر الذي عنى أنّ الأمريكي، والمواطن العالمي معه، مخوّل بالاطلاع على 1/12 من الحقائق، ليس أكثر!

ثمّ لماذا يذهب المرء بعيداً؟ ألم يتحدث أوباما نفسه، في خطاب استلام جائزة نوبل إياها، عن حرب ضرورية من أجل السلام، وحروب عادلة من الطراز الذي كانت بلاده تخوضه في أفغانستان وفي العراق؟ فهل تلى حكماء نوبل مزاميرهم على زميل محارب مدجج بالسلاح، يحمل جائزة السلام بيد، والقاذفة والبارجة والصاروخ والطائرة بلا طيار باليد الأخرى؟ ولماذا يلوح أنّ تقارير الخارجية الأمريكية السنوية، حول حقوق الإنسان في العالم، أشبه بترجيع صدى مكرر مستهلَك؟

وسوم: العدد 872