حكايات ودلالات

د. محمد أحمد الزعبي

الحكاية الأولى :

شاأت الظروف أن تتزوج إحدى السوريات  من شاب سوري  ، كان يدرس ويعمل في الولايات المتحدة الأمريكية ، وقد رزق الزوجان طفلة أسمياها (...) . عندما بلغت الطفلة سن الوعي المبكر ( ولنفل 5 سنوات ) ، أدخلتها أمها إحدى مدارس الأطفال في حيهم السكني في كالفورنيا  آنذاك .

لقد تفتح وعي الطفلة عملياً على التواصل الهاتفي المستمر بين أمها من جهة ، وبين جدها  وجدتها ، اللذان كانا يقيمان وبعملان في اليمن من جهة أخرى ، وبالتالي فإن هذه الطفلة      ( وبحدود وعيها كطفلة ) قد ظنت أن البلد الذي تنتمي إليه أمها هو اليمن . ولذلك عندما سألتها معلمتها الأمريكية ذات يوم : من أي بلد أنت ياصغيرتي ؟ ، اجابت بدون تردد من اليمن (!) ، فقالت لها المعلمة ، ولكن اليمنيين سود ، وأنت شقراء ، فهل أنتم من يهود اليمن ؟ أجابت الطفلة وببراءة : ربما أكون يهودية ، وعلي أن أسأل أمي عن هذا الموضوع . وعندما عادت الطفلة إلى البيت ، سارعت إلى سؤال أمها : ماما هل نحن يهود ؟ أجابتها أمها ، لا ياابنتي ، نحن مسلمون ، ولكن لماذا تسألينني هذا السؤال ، وهنا قصت الطفلة على أمها كامل الحكاية .

عندما أتذكر هذه الحكاية ، التي قارب عمرها ربع القرن  ، أتذكر أمران مرتبطان ومترابطان معها ، هما :

 الأول هو حديث النبي (ص) : كل إنسان تلده أمه على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) ، وواضح أن مضمون هذا الحديث النبوي الشريف ، ينطبق عملياً وواقعياً على كافة الأديان السماوية والأرضية على حد سواء.     

أما الأمرالثاني فهو ، الحالة المؤلمة والمؤسفة التي أوصلنا إليها نظام عائلة الأسد ، والتي بات معها لايعرف أطفالنا لاإسم بلدهم وبلد والديهم ، ولا يعرفون إلى أي دين ينتمي هذان الوالدان ، وبالتالي إلى أي دين ينتمون هم . ألا تبّاً لهذا النظام الطائفي الفاشي البغيض الذي أوصلنا وأوصل أطفالنا إلى هذه الحال المؤلمة والمؤسفة . مع اعترافي واعتزاي بان  جميع ( بلاد العرب أوطاني  من الشام لبغدان ) ، ولاسيما أن أجدادنا الغساسنة  ( الجذور ) قد قدموا أصلاً إلى سورية من اليمن كما هو معروف ..

 

الحكاية الثانية :

بعد أن نفذ حافظ الأسد حركته " التصحيحية / بل التضليلية !!" بتاريخ 16.11.1970 ، وزج رفاقه وشركاءه في حركة 23 شباط 1966 في سجن المزة العسكري (لم أكن بين المسجونيين لأنني كنت قد غادرت سفينة قيادة الحزب منذ 26.03.1967 ) ، قمت بزيارة أحد أصدقائي من قيادة 23 شباط 66 ، والذي لم يكن قد زجه حافظ الأسد مع الآخرين في السجن بعد . بادرني هذا الصديق والرفيق بالقول ، أو تظل تتهمنا يامحمد بالطائفية ، وهذا حافظ قد زج أعضاء القيادة وبينهم فلان وفلان في السجن ؟ ، قلت له ( مازحاً ) سيظل اتهامي لكم قائماً ، إلى أن  تقابلوا انقلاب حافظ العسكري عليكم ، بانقلاب عسكري عليه ، قبل أن يقوم هو بتسريح ( جماعتكم ) من الجيش . أجابني هذا الرفيق والصديق ( البعثي) ، بأن حافظ لايستطيع تسريح ( جماعتنا ) من الجيش ، ولما سألته عن السبب ، أجاب ، بأن حافظ يعرف أن تسريح "جماعتنا "   من الجيش ، سوف يجعل الغلبة في الجيش ل " جماعة العراق " (!!) . وهنا أدرك شهرزاد الصباح وسكتت عن الكلام المباح ( !!) .

ذكرتني هذه  الحكاية بما كتبه المرحوم سامي الجندي ، من أن حركة 23 شباط هي حركة طائفية قبل أن تكون حركة يسارية ، وذكرتني أيضاً بالمثل الشعبي الذي يقول :    ( أنا وأخي ضد ابن عمي ، وأنا وابن عمي ضد الغريب ) والغريب هنا هو ( السنّي).

إن هذا لايعني بحال أنني أضع جميع أعضاء قيادة حركة 23 شباط في سلة واحدة ، وإلاّ فسأكون من الذين يسوون بين القاتل والمقتول ، وبين المسجون والسجّان ، وبين اليساري الصادق ، واليساري الكاذب ، وهذا بغض النظر عن النسبة المئوية من المسؤولية التي يمكن أن يتحملها كل من الطرفين : ( جماعتنا ) و ( جماعة العراق )، فيما وصلت إليه بلادنا اليوم .

 

 الحكاية الثالثة :

عملت في العامين الدراسيين  1976 / 1977 و 1977/ 1978 في جامعة بغداد ، ولأسباب لامجال لذكرها هنا ، تقدمت في نهاية العام الدراسي الثاني  باستقالتي ، وانتقلت للعمل في جامعة عدن كمدرس لمادة علم الاجتماع . أعطيت وعائلتي سكناً معقولاً في منطقة خورمكسر، دخل أولادي المدرسة ، وبدأت عملي الجامعي . لقد فوجئت في مكان عملي الجديد ( جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية  / اليمن الجنوبي ) ، بظاهرة غريبة، ألا وهي ، وجود تعليمات رسمية تمنع اختلاط اليمنيين ب " الأجانب " ، وكان مفهوم الأجانب في ذلك الحين ، لايشمل مواطني الاتحاد السوفييتي ،ولكنه يشمل بصورة أساسية  المواطنين العرب ، وخاصة الأساتذة والمعلمين العراقيين  الذين كانوا يعملون في اليمن الجنوبي ( وكانوا بنظرالرفاق  اليساريين اليمنين يعملون على نشر أفكار حزب البعث في جنوب اليمن ) وهنا تبدأ الحكاية  الثالثة  ، والتي هي ـ فعلياً ـ أربع حكايات وليست حكاية واحدة :

 1.رغبت زوجتي أن تلتحق بدورة مسائية  لتعلم اللغة الإنجليزية في إحدى المدارس بعدن ، وقد عرفت زوجتي بموضوع هذه الدورة المسائية ، من " بنت الجيران " التي كانت بدورها ترغب في الالتحاق بهذه الدورة ، عرضت على جارنا ، أن تذهب ابنته مع زوجتي إلى المدرسة ، حيث سأوصلهما  معاً ثم أعيدهما بسيارتي ( لم يكن لديهم سيارة )، وافق الجارعلى هذا العرض ، وبعد الإجراءات بدأت أوصل زوجتي وصديقتها إلى المدرسة ، ثم أعيدهما إلى البيت بعد انتهاء الدوام المسائي . في اليوم الثالث أو الرابع، اعتذرت الجارة عن الذهاب، استفسرت عن السبب من والدها، فقال لي: لقد طلب رجال الأمن منها ألاّ ترافق الأجنبية ( بالجيم المصرية ) إلى المدرسة ، لأن في هذا خرق لقانون عدم الاتصال بالأجانب ، والأجنبية المعنية هنا هي زوجتي العربية السورية (!!) .

  1. كان إبني ( ... ) عندما التحقت بجامعة عدن طالبا في صف البكالوريا ، وتعرف في المدرسة على صديق يسكن في نفس حارتنا ( خور مكسر ) ، فكانا يترافقان إلى المدرسة ذهاباً وإياباً ، وذات يوم أوقف حرس أحد المسؤولين اليمنيين (لاأريد ذكر إسمه ) ، الطالب اليمني الجنوبي ، الذي كان مع ابني ، وطلبوا منه ألاّ يخالف التعليمات الرسمية   ويسير مع شخص " أجنبي "( مرة أخرى بالجيم المصرية )  ولكن هذا الطالب جادلهم ، في أنهم رفاق صف دراسي واحد ، ومنطقة سكنية واحدة . وهنا انهالوا عليه ضرباً ومزقوا قميصه ( رأيته بعيني ) ، الأمر الذي جعلني أتصل هاتفياً بالسيد علي ناصر محمد الذي كان رئيساً للجمهورية آنذاك ، ورويت له  ماجرى مع صديق ابني ، واعتبار حرس ذلك المسؤول أن ابني أجنبياً ( !!)، وينطبق عليه قانون عدم الاتصال بالأجانب ، فوعدني أن ينظر في الأمر (!!).
  2. لم تكن جامعة عدن تبعد سوى بضع مئات منالأمتار عن البيت الذي كنا نسكنه ، وذات يوم بينما أنا في طريقي إلى الجامعة ، التف حولي عدد من الصغار الذين كانوا يلعبون في الشارع ، ظانين أني " سوفييتي " ، وشرعوا يخاطبونني بكلمة (صديك / صديق ) ، فوجئ الصغار ، بأن رددت عليهم باللغة العربية ، وهنا صاحوا جميعاً بصوت واحد " مترجم " ( بالجيم المصرية ) ، أي أن " الآخر " بالنسبة لهؤلاء الصغار بات أحد شخصين ، إما صديك أو مترجم  (!!) ، أما العرب والعروبة واللغة العربية ، فقد كانوا في تلك الفترة ، ومع الأسف الشديد ، غرباء و ينطبق عليهم قانون الأجانب .
  3. ولكي لاأغمط الرفاق  اليساريين اليمنيين الجنوبيين حقهم ، أقول لقد كان عدد من اللاجئين السياسيين العرب في اليمن الجنوبي في تلك الفترة(من الماركسيين العراقيين والسودانيين خاصة ) ، يجتمعون  معاً كل أسبوع مرة ، في بيت أحدهم ، وكنت أدعى لبعض هذه الجلسات بصفتي الشخصية .وما أريد قوله هنا هو أن القيادة السياسية اليمنية الجنوبية آنذاك ،غالباً ماكانت  ترسل أحد عناصرها  لحضور هذه الجلسات ، لكي يستمع بنفسه من (الرفاق !!) المجتمعين مايمكن أن يوجهونه للنظام من نقد(السلبيات والأخطاء ) . وفي حال اقتناع المسؤول بوجهة نظرالمنتقدين ، والتي لاتصل غالباً إلى الخط الأحمر، فإنه سرعان مايبلغ القيادة السياسية بذلك ،والتي سرعان ماكانت تصدر التعليمات بل وأحياناً القوانين أو التشريعات ، التي تعالج تلك الأخطاء . إنها شهادة حق لابد أن تقال.

وسوم: العدد 894