إسفاف لغة الخلاف بين العرب

جلبت موجة التطبيع العربي ، الخليجي خاصة ، مع إسرائيل إسفافا منكرا في لغة الخلاف بين العرب  حول هذه القضية المصيرية الخطيرة ، ويشارك في الإسفاف بعض المسئولين والإعلاميين والكتاب ، وأكثر المشاركين ، وهذا محزن مقلق ، من الشعب عبر وسائل التواصل الاجتماعي ؛ محزن مقلق لعلمنا كلنا علم اليقين أن الشعوب العربية في جملتها مغلوبة على رأيها ، وأنها محدودة التأثير أو معدومته في إدارة قضاياها السياسية ، ومنها قضية التطبيع ، وأنه ما من شعب عربي يقبل هذا التطبيع  مع عدو الأمة التاريخي الألد . المشاركون في الإسفاف من الشعب إما موجهون من سلطات بلادهم ، وهم من يسمون الذباب الإلكتروني ، وإما يجهلون هوية إسرائيل وخطورة التطبيع معها ، وإما يدافعون عن خيارات بلادهم حمية وعصبية ، ظالمة أو مظلومة . ويشتد الإسفاف أحيانا فيفضل بعض الخليجيين الإسرائيليين على الفلسطينيين ، ويصف الفلسطينيين بناكري المعروف . ويعير بعض الفلسطينيين الخليجيين بأنهم ، الفلسطينيين ، علموهم القراءة والكتابة ، وما تفضيان إليه  من المعارف . ويسخر بعض الخليجيين من لهجة الفلسطينيين ، كأن للفلسطينيين لهجة واحدة ، وأنهم ينطقون " القضية " " الكضية " . وكل صور الإسفاف باطلة ، وكل صانعيها سفهاء جهال أيا كان منتماهم ومستواهم ، وسهلٌ بيان بطلان هذه الصور ، وبيان أنها لا نفع منها لصانعيها ولا لبلدانهم ولا للعرب جملةً ، وأن ضررها محقق مستيقن . وبديهي أننا لا يمكن أن نبين بطلانها كلها . أحب أن أبين بطلان معايرة بعض الفلسطينيين للخليجيين بأنهم علموهم القراءة والكتابة وسواهما مما يعلم في المدارس من معارف وفنون ومهارات . نعم عمل عشرات آلاف الفلسطينيين في التعليم في دول الخليج ، ومن قبل أن يظهر النفط في هذه الدول . وهذا أمر طبيعي بين أبناء الأمة الواحدة واللغة الواحدة والوطن الواحد وإن تقسم دولا ، ولا فرق في هذه الحال بين أن أعلم في فلسطين أوفي أي بلد عربي آخر ، ولا فخر لي على من أعلمهم . من حقي أن يحترموني ما استحققت الاحترام في أداء عملي وفي أخلاقي ، ولا حق لي في الشعور بالاستعلاء عليهم ، ثم ، وفي أدنى مستويات هذه العلاقة ، أنا أقوم بعمل أتقاضى منهم عليه أجرا . " والناس للناس من بدوٍ وحاضرةٍ  * بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم " . إنه التكامل المهني بين الناس . طرف يملك المعرفة أو الخبرة وطرف يملك المال ، وكلاهما نعمة من الله _ عز وجل _ الذي نوع نعمه على عباده ليتعارفوا ويتآلفوا وتتكامل حياتهم . أنت تحتاج كذا وأنا أحتاج كذا ، فتتلاقى الحاجتان في علاقة يجب أن تتأسس على الاحترام والحب والإخلاص والثقة . في التاريخ ، كانت بلاد المسلمين تسمى دار الإسلام ودار السلام ، وكان العلماء وأصحاب المهن والخبرات والفنون يتنقلون في أرجاء هذه الدار في قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا ، ومنهم من كانت سمعته تسبق وصوله ، فيستقبل متى وصل استقبالا مُجِلا يشعره بأنه لم يهجر موطن مولده وأهله ، وأنه صار بين أهل لا ينقصون عن أهله حبا له واعتزازا به ، وربما يزيدون ، فيتخذ البلد الجديد دار مقام ، ويلي فيه منصبا رفيعا قد يكون في القضاء أو في التعليم أو في أي مضمار يلائم علمه وخبرته . في تلك الدار المترامية الحدود ؛ علم الفارسي العربي لغته وعلوم دينه ، وكتب الفارسي أجمل النثر والشعر وأبقاهما على الزمن بأسلوب عربي غني مبين ، وتواصل هذا التلاحم متخذا شتى التجليات بعد تفتيت العرب إلى دول في مؤامرة سايكس _ بيكو مع تراجع  في زخمه . بلاد الحرمين عينت الفلسطيني أحمد الشقيري ، أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية ، مندوبا لها في الأمم المتحدة ، وأول مدير للتليفزيون السوري هو الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب . وفي يافا ، قبل النكبة ، حين اختلفت الأحزاب الفلسطينية على رئاسة فريق كشافة المدينة ، وكان للكشافة في ذلك الزمان مقام أين منه مقامها الحالي العادي الصغير ، اختارت حلا لاختلافها لواء مصريا متقاعدا كان يعيش في المدينة لرئاسة الفريق ..  

لا فخر إذن للفلسطيني على الخليجيين بتعليمهم ، فما علم سوى أهله وإخوانه ، وتبادل معهم النفع والخير ، وهذا هو  أصل الأمور . وبين الأوروبيين على اختلاف اللغات تواصلات مهنية عمت كل مجالي حياتهم طوال تاريخهم ، ولسهولة التجنس بينهم ينتقل أصحاب المهن والخبرات والمعارف والفنون من جنسية إلى أخرى ، ويحدث أن  تفضل مؤسسة أوروبية مواطنا من دولة أخرى على مواطنيها إذا كان هو الأكفأ لأدائها ، وتجاوز الأوروبيون والأميركيون قارتيهم في هذه التواصلات إلى سائر القارات . وفي سخرية قليل من الخليجيين من بعض لهجات الفلسطينيين وفرةٌ من الجهل بأبسط قضايا اللغة . لكل لغة لهجات ، وللعربية لهجات على مستوى الشعوب العربية ، وعلى مستوى الشعب الواحد ، ومستوى القرية الواحدة والمدينة الواحدة ، وبعض هذه اللهجات قريب من العربية الفصيحة بدرجة ما ، وبعضها بعيد عنها بدرجة ما ، وفي العاميات العربية كلمات أجنبية كثيرة تخلفت من زمن الاستعمار الأوروبي ، وقبله من التعايش الطويل بين العرب والفرس والأتراك . العاميات وسائل للتفاهم اليومي بين الناس في كل تجمع بشري صغر أو كبر ، ولا موجب للسخرية من أي لهجة . أوْلَجنا التطبيعُ مع عدونا في نفق مظلم ضيق من الخلافات التي أسف بعضنا في لغتها إسفافا أسخر عدونا  منا ، وطمأنه إلى نفاذ تطبيعه في وعينا نفاذ السكين في الزبدة . " تنبهوا وأفيقوا أيها العرب ! "   ، وقولوا لبعضكم حسنا ، ومروا باللغو كراما !  

وسوم: العدد 894