ما بين طالبان والسلطة الفلسطينية

يعلم الجميع أن حركة طالبان الأفغانية، هي حركة محافظة جداً، وتتمسك بالشريعة الإسلامية في صيغتها الصحراوية، وربما هذا الذي استهوى أسامة بن لادن في ترك السودان واللجوء إلى أفغانستان، حيث خطط لارتكاب مجزرة قذرة من هناك في 11/9/2001، ودمّر برجي التجارة العالمي، وأدى إلى مقتل آلاف الأبرياء.

وفي 7/10/2001، ورداً على تلك العملية الإرهابية، شنّت الولايات المتحدة وحلف الأطلسي هجوماً كاسحاً منفلتاً من كل قيود وتقاليد القتال في الحروب البرية والجوية، ما أدى إلى مآس بين المدنيين الأفغان، بالإضافة إلى الدمار المادي الذي لحق ببلد ما يزال يعاني من عصور متخلّفة وحروب متواصلة. وشنّت أجهزة الإعلام الأمريكية حملة تشهير بطالبان، جردتها من الإنسانية ونجحت في شيطنتها، وأصبحت طالبان، حركة معزولة دولياً وإقليمياً، ولم تجد أي نصير لها، بل إن التعاطف معها كان مجلبة للشبهة.

ورغم الحصار والحرب الأمريكية، ظلت طالبان متمسكة بمبادئها الوطنية، بضرورة تحرير أفغانستان من القوات الأجنبية، وخاضت حرباً شعبية، على غرار حرب العصابات، رغم الحصار المفروض عليها من كل الجهات، وقلة مصادرها وفقرها وقلة خبرتها، وتمسكت بأهدافها الوطنية تمسكاً عنيداً لا يلين، ولم ترضخ للإغراءات ولا للعنف الشديد. ونجحت في إنهاك قوات الاحتلال، والنيل من معنوياتها إلى أن بادرت الإدارات الأمريكية للوصول إلى تسوية مع طالبان، وقد حاول باراك أوباما عام 2012 الوصول إلى مفاوضات، إلاّ أنه فشل بسبب رفض طالبان، ولكنه توصل عام 2014 إلى اتفاق تبادل الأسرى، إلا أن طالبان رفضت أن توسع ذلك الاتفاق، لكي يكون اتفاق سلام. وجاء الرئيس ترامب الذي أعرب عام 2017 عن رغبته في المفاوضات، وفي بداية عام 2018، لعبت دولة قطر دور الوسيط، مع إصرار طالبان على عدم إشراك الحكومة الأفغانية باعتبارها حكومة «عميلة» ونجحت وساطة قطر، حيث أعلن المندوب الأمريكي زلمان خليل زاده، وهو أمريكي أفغاني تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان نشيطاً في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، أنه تمّ التوصل إلى مسودة اتفاقية، وفي 22/2/2020، أعلن الرئيس ترامب التوصل إلى صفقة سلام مع تخفيض مستوى العنف (وليس وقفه بناء على إصرار طالبان). وبتاريخ 28/2/2020، وقّع الطرفان على الاتفاق، وهما خليل زاده والملاّ عبد الغني بارادار، الذي هو من مؤسسي طالبان، وكان الرجل الثاني بعد الملاّ عمر المتوفى في 2013. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس ترامب، بكل طاووسيته وعنصريته، اتصل مع الملا عبد الغني بعد التوقيع وقال له، إنه «يعلم أنه يقاتل من أجل وطنه» وهكذا تعلم الرئيس الأمريكي التواضع من صلابة مواقف طالبان.

ولأغراض البحث الذي نستطرد فيه قليلاً لمقارنته بالمسار الفلسطيني، لا بدّ من استعراض نصوص الاتفاقية.

تقع الاتفاقية في أربع صفحات (A4) ولا أظن أن كلماتها تتجاوز الألفي كلمة، وتتضمن أربعة بنود رئيسية، وهي سحب جميع القوات الاجنبية في فتره لا تتجاوز (14) شهراً، وتتعهد طالبان بعدم السماح لأي جهة باستخدام الأراضي الواقعة تحت سيطرتها في أنشطة تهدد أمن أمريكا وحلفائها، وتبادل الأسرى ووقف شامل لإطلاق النار، مع البدء في مفاوضات مع الحكومة الأفغانية، ووضعت برامج زمنية لكل عمل، بما في ذلك تعهد أمريكا بالعمل على رفع العقوبات عن طالبان، بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي. ويلحظ أن قوات طالبان لم توقف هجماتها على القوات الأمريكية، والأطلسية، وقوات الحكومة «العميلة» طيلة فترة المفاوضات، وقد صدف أن سحب الرئيس ترامب دعوة لقيادة طالبان لاجتماع في كامب ديفيد، بسبب هجوم لطالبان أدى إلى مقتل جندي أمريكي (19/9/2019) كما علّق خليل زاده المفاوضات بسبب هجوم قوات طالبان على قاعدة باغرام الأمريكية بتاريخ 11/12/2019.

ومن الطريف أن فريقي الاتفاق هما، حكومة الولايات المتحدة و»إمارة أفغانستان الإسلامية» المعروفه بـ»طالبان» التي تكرر الحكومة الأمريكية، في الاتفاق عدم اعترافها بها عدة مرات، ومع ذلك دخل الطرفان في اتفاقية ملزمة. ومن الطريف كذلك أن الملاّ عبد الغني، الذي فاوض ووقع الاتفاق هو شبه أمي وبالكاد يقرأ ،أو يكتب، كما أن أعضاء الوفد الطالباني المفاوض جميعهم طلاب من خريجي المدارس الدينية في باكستان، باستثناء مفاوض واحد كان خريج المدارس العسكرية الهندية.

ومقارنة بالمسار الطالباني ـ الأمريكي، فإن القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير تحظيان بتعاطف دولي، وقد حازت منظمة التحرير وضعا قانونيا مميزا في المسرح الدولي، وهناك عالم عربي احتضن القضية الوطنية، وهناك نخبة من رجال العلم والثقافة الفلسطينيين والمتمرسين في كافة فروع العلم والمعرفة، قدموا خدمات جليلة وباهرة لقضيتهم على النطاق العالمي، وقاتلت قواتها عدوها قتالاً مريراً، وحازت أموالا طائلة، سواء من الدول العربية، أو من تبرعات الشعوب العربية، ومع ذلك حين وصلت إلى المفاوضات، وعلى الأخص في أوسلو، سقطت القيادة سقوطاً مريعاً. إن مجموع صفحات الاتفاقيات الموقعة في مسار أوسلو قد تصل إلى ستمئة صفحه (A4) وبالكاد تتضمن الاتفاقيات جداول زمنية للتنفيذ إلا قليلاً، حتى أن إسحق رابين استخفافاً بتلك المواعيد القليلة، قال «أن لا مواعيد مقدسة» ولم تحصل القيادة على أي اعتراف إسرائيلي بحقوق شعبها في تقرير المصير، وأن الأرض هي أرضهم المحتلة، طبقاً لمبادئ قوانين الحرب الدولية، ولا بحق اللاجئين بالعودة، ولم تستطع أن تحافظ على القدس، أو تضمن الإفراج عن الأسرى والمعتقلين. وتسرعت القيادة الفلسطينية، حين تخلّت عن سلاحها، وأوقفت الانتفاضة، قبل أن تصل إلى أي إنجاز ملموس، كما أن الاتفاقيات جاءت مليئة بالثغرات، التي مكنت الاحتلال من التسرب من خلالها. ومع كل هذه النواقص، لم تتصرف القيادة بحكمة، ذلك أنه في أي حالة تعاقدية، محلية أو دولية، إذا أخلّ طرف في تنفيذ التزاماته، يحق للطرف الآخر أن يتوقف هو الآخر عن تنفيذ التزاماته، وقد تصرفت إيران بحكمة، عندما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018 وتلكأت المجموعة الأوروبية في الوفاء بالتزاماتها، راحت إيران ترفع نسبة تخصيب اليورانيوم بالمخالفه لأحكام الاتفاق النووي.

وبسبب مهادنة القيادة لهذا العدو الجشع، تمادت إسرائيل في الاستباحة، وأصبحت كل فلسطين ـ حسب قانون القومية اليهودية الإسرائيلي ـ هي أرض الشعب اليهودي، وأصبح شعبنا في الأرض المحتلة «مقيماً» إقامة تستطيع إسرائيل تغييرها والعبث بها، وأصبح الاستيطان «مهمه وطنية» لا تتناقض مع القانون الدولي، إلخ.. الدوامة التي غرقت فيها القياده الفلسطينية وقضيتها الوطنية.

ويلحظ أننا لم نقرأ في تاريخ طالبان أنها كانت تنتظر نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لكي توقف عملياتها، أو تخفف من حدّتها، فهي أدركت مبكراً أن السياسة الأمريكية في عدائها لها واحتلالها لأراضيها، لن تتغير بتغير هوية ساكن البيت الأبيض. أما في الجانب الفلسطيني فقد ازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي في تفسير أسباب عودة السلطة الفلسطينية المفاجئة لبيت الطاعة الإسرائيلي، وكأن قيادة السلطة أرادت أن تبعث إلى الإدارة الأمريكية الجديدة رسالة من «أننا ملتزمون بما ترونه». ولو أخذنا تصرفات الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ صدور التوصية بتقسيم فلسطين عام 1947 حتى الآن، وعددها عشر حكومات، فلن نجد رئيساً أمريكياً واحداً اتخذ اجراءً واحداً لوقف التوسع الاسرائيلي، ولو لمرة واحدة، وهذا ليس صدفة لأن العلاقه مع إسرائيل علاقة استراتيجية.

ومن الواضح أن طالبان لم تلجأ إلى إسرائيل كمفتاح لها للوصول إلى قلب واشنطن، كما يحلو لبعض الأعراب الذين يتذرعون بشرح أسباب هرولتهم في التطبيع مع إسرائيل، وأولهم رموز السلطة الفلسطينية، بل تمسكت طالبان بمطالبها في تحرير أرضها من القوات الأجنبية والعمل على الإفراج عن معتقليها.

وبعد كل ذلك، لم تجرؤ أو تتواضع هذه القياده الفلسطينية على ممارسة «النقد الذاتي» أو اتخاذ إجراء واحد يمارس الندية مع الاحتلال، واستمر الحال إلى الآن منذ عام 1993، علماً بأن إسرائيل، وهي التي صاغت تلك الاتفاقيات، لم تلتزم الاّ بتسهيل توطين الفساد وبطاقات الـVIP وأطلقت العنان للمستوطنين، الذين وبتخطيط من الحكومة الاسرائيلية، قاموا ببناء المستوطنات بقصد تقطيع أوصال الأراضي المحتلة، والحؤول دون إقامة دولة فلسطينية فيها.

هذه المقارنة السريعة لقيادة تمسكت بمبادئها بعناد وصلابه في تحرير أرضها رغم فقرها وحصارها، وقيادة فلسطينية، بدأت بالتوسل لعدوها منذ قبولها بنقاطها العشر عام 1974 إلى الدخول في نفق أوسلو، والتمسك بالسكن في ذلك النفق، حتى حين حاولت الخروج منه، عادت إليه بسرعة، وكأنها تعود إلى «بيت الطاعة» خوفاً من اتهامها بـ»النشاز» وقبلت أن تكون مرجعيتها في الاتصال مع اسرائيل ضابط اتصال، وليس مسؤولاً سياسياً من الصف الأول، ما يدل على الهبوط الذي انحدرت إليه القيادة الفلسطينية. هذا الفرق واضح بين من يثق بشعبه ومن يقف على اعتاب الاحتلال والبيت الأبيض.

وسوم: العدد 905