لا وسطية مع أي احتلال خاصة الاستيطاني الإحلالي

ما من غزاة يجتاحون أرض شعب آخر إلا لأهداف تخصهم ، اقتصادية أو عسكرية أو إقليمية  توسعية ، ويستثنى من هذه الأهداف الفتح العربي الإسلامي الذي كان هدفه الأساسي نشر العقيدة الإسلامية ، فاستحق وصفه بأرحم فتح في التاريخ البشري . الغزاة الأوروبيون كانوا قوة تدمير وإبادة لشعوب البلاد التي غزوها ، ومن سلم من التدمير والإبادة وتحرر من سيطرتهم طالت معاناته بعد تحرره مما أحدثوه في بلاده من تخريب اقتصادي وثقافي وديني ولغوي . ولم تتحرر أكثر الشعوب من غزاتها إلا بالدماء . وأخطر صنوف الاحتلال الناجم عن الغزو هو الاحتلال الاستيطاني الإحلالي الذي يريد البلاد المغزوة خالصة له ، خالية من أهلها الأصليين . وهذه صفة الغزو اليهودي أو الإسرائيلي لفلسطين . من البداية سموا أنفسهم عائدين إلى وطن كان لهم قبل 3000 عام ، أما لماذا غابوا عنه كل هذا الزمن فلهم روايات وخرافات هم أول من يقر بكذبها وبهتانها . ومع الزمن ، صارت تلك الروايات والخرافات عاجزة عن إسناد هذا المشروع الاستيطاني الإحلالي ، وألفى القائمون عليه أنفسهم في مأزق لا يستطيعون تقدما ولا تراجعا فيه ، وباتوا ينظرون إلى وجوه بعضهم بعضا بين لائم وبين سائل عن مخرج وبين يائس وبين باحث عن حل من أطراف خارجية . ودائما الأخطاء لا تموت ، ودائما لها قدرة على ولادة أخطاء أخطر منها . وهذه هي حال إسرائيل الآن بعد سلاسل أخطائها المتتابعة ابتداء من خطأ النشأة . في 5 يونيو 1967 استولت على الضفة الغربية وقطاع غزة ، فاكتملت سيطرتها على فلسطين ، وخططت حالمة طامعة لإخلاء المنطقتين من الفلسطينيين لضمهما نهائيا في الوقت الملائم إلى ما أقامت عليه دولتها في 1948 ، ومساحته 78 % من فلسطين ، ومن سيطر على هذه النسبة العالية مؤهل للحلم والطمع في السيطرة على ال 22 % الباقية . وخيب الشعب الفلسطيني في المنطقتين حلم إسرائيل وطمعها ، ودفع بشعور الخيبة إلى الجزء الأكبر الذي تقوم عليه دولتها  بانتفاضتين ، وأرغمها صاغرة خاسرة على الانسحاب من غزة التي ما لبثت أن صارت شوكة حادة في خاصرتها الجنوبية ، وأكثر من هذا بثت الرعب في  أنحائها في كل حرب بينهما حتى أنتجت توازن حَذَر من عواقب أي عدوان إسرائيلي عليها . ومن معرفتنا بعقلية إسرائيل المؤمنة بالقوة  ووساوسها الأمنية التي تجد في العدوان على الفلسطينيين وبعض العرب شفاء مؤقتا لها ؛ نقول : لولا خوفها من المقاومة في غزة لما مضى أسبوع دون أن تدخل وحدات من قواتها البرية لاعتقال من تريد اعتقاله ، ونسف ما تريد نسفه من المواقع والمؤسسات ، ولأقامت حواجز مفاجئة على شارع صلاح الدين ، وقد تقيمها على شارع الرشيد ، شارع البحر . وهي الآن في شدة ومحنة في الضفة ، وصراخها واستغاثاتها يكشفان كم هي جوفاء وقابلة للكسر، وأن طردها من الضفة ممكن مثلما طردت من غزة ، ولن يمنع طردَها ما تشيعه عن الفرق في الأهمية الاستراتيجية بين غزة والضفة ، فهذه الإشاعات تستهدف تيئيس المقاومة في الضفة من الاقتداء بغزة ، وهي حذرت الفلسطينيين بعد أن طردها حزب الله من جنوب لبنان في مايو 2000 من الاقتداء به والعمل لطردها من المنطقتين . مقاومة الضفة المسلحة على قلتها مقاتلين وسلاحا تحرق أعصاب إسرائيل ، وتملأ رأسها بالمخاوف والوساوس وتوقع أسوأ العواقب إن هي أخفقت في إخماد نارها ، وهو الهدف المستحيل . هنا شعب من أربعة ملايين تقريبا حول الاحتلال حياته جحيما ليل نهار . جنود ومستوطنون لا يعفون عن هدم حظيرة ماشية أو بئر ماء أو سور حول بستان متهمين أصحابها ببنائها دون ترخيص ، وأحيانا يقلعون الأشجار ويسرقون الآلات الزراعية . ولا نتحدث عن هدم البيوت ، وعن اقتحامات المسجد الأقصى اليومية عدا يومي الجمعة والسبت ، والتهويد المتواصل للقدس والأغوار ، وعن الحواجز الدائمة والمفاجئة التي تعطل سير المواطنين ، وترهق أرواحهم وتحرق أعصابهم قبل اجتيازها . جحيم لا حياة معه مهما تصبر الشعب منتظرا فرجا من ويلاته . وكان لا مفر من حمل السلاح لمقاتلة المحتلين الاستيطانيين البشعين ، وتعبر المستشرقة الإسرائيلية كسانيا سفاتلوفا عن اقتناع الشبان في الضفة بأنه لا تحرر دون مقاومة مسلحة لأولئك المحتلين قائلة : " جيل الشباب يؤمن بأن هناك حلا واحدا فقط ، هو المقاومة الكاملة والمقاطعة الشاملة ... " ، أي أنه لا وسطية مع هذا الاحتلال الاستيطاني ، وتاريخيا ، رفضت الوسطية شعوب كثيرة  مع احتلال ليس في وحشيته ونزعته الاقتلاعية للشعب الأصلي ، فرفضها معه أولى ، وأقرب طريق للتحرر من ويلاته المأساوية المندفعة  في  همجيتها  ، وللنجاة مما يخطط له من إبعاد لهذا الشعب من وطنه اقتناعا بأن مشروعه الاستيطاني الإحلالي لا بقاء له ما دام هذا الشعب في هذا الوطن . عقيدة إسرائيل التي تنفذها بأفعالها هي إما نحن وإما الفلسطينيون ، ولا وحل وسطا ، فلنتصرف نحن أيضا وفق هذه العقيدة ! ودائما الحق منتصر ، والباطل مندحر ، وما على أهل الحق سوى المثابرة في طريق انتصارهم ، وهذا هو الطريق الذي يسير فيه الشعب الفلسطيني في وطنه  وفي الشتات الإجباري ، وحتما ستنبثق منه قيادة تسير معه في هذا الطريق ، ولا نغالي إن قلنا إن فتحي خازم والد الشهيدين رعد وعبد الرحمن  أول وجوه هذه القيادة المرتجاة ، ودائما قادة الانتفاضات والثورات التحررية ينبثقون من تيار أحداثها المتدافع كرا وفرا وإصابة وخطأ وصولا إلى التحرر النهائي . الانفجار الفلسطيني التاريخي يقترب ، ولن تردعه  إسرائيل ومن  يحالفها من العرب القابعين معها في خندق واحد ، والمتحدين معها مصيرا .

وسوم: العدد 1000