هل ينتقم الاسم من قاتله؟

عام 1998 قُتل المواطن المقدسي خيري علقم طعناً بالسكين. القاتل هو المستوطن الإسرائيلي حاييم فلنرمن، وتشاء الصدف أن يكون بن غفير إياه هو محامي القاتل.

وبدلاً من أن تنصب وسائل الإعلام الإسرائيلية على تحليل شخصية خيري علقم الحفيد، كان عليها أن تبحث عن حاييم فنلر بصفته المسؤول الحقيقي عما جرى في «النبي يعقوب».

فبعد ربع قرن من استشهاد خيري علقم، قام خيري علقم (21) عاماً، الحفيد الذي حمل اسم جده، بعملية في مستعمرة النبي يعقوب في القدس حاملاً مسدسه، حيث قُتل سبعة إسرائيليين، قبل أن يسقط بالرصاص الإسرائيلي.

الاسم ينتقم من القتلة، كأن الشهيد نام ربع قرن ثم استيقظ ليأخذ بثأره قبل أن يعود إلى النوم من جديد.

تتزامن عملية النبي يعقوب مع الاجتياح الذي قام به الجيش الإسرائيلي لوسط مخيم جنين حيث سقط عشرة شهداء وعدد كبير من الجرحى.

يوم السبت 28 كانون الثاني- يناير، أي بعد يومين من اجتياح جنين ويوم واحد من عملية النبي يعقوب، قام الفتى الفلسطيني محمد عليوات (13 عاماً) بإطلاق النار على المستوطنين في مستعمرة النبي داود في القدس، وأصاب اثنين أحدهما جندي في الجيش الإسرائيلي.

هذه ليست مجرد مصادفات، وليست ردود فعل انفعالية. لقد كسر الفدائيون «كاسر الأمواج» الإسرائيلي، وأعادوا رسم الخريطة الفلسطينية بصفتها خريطة مقاومة للاحتلال.

وهذا ما لا يريد قادة الغرب الاعتراف به، فهم أشد حرصاً على إسرائيل من الإسرائيليين أنفسهم، وهذا متوقع. فإسرائيل ليست سوى مشروع كولونيالي غربي، اتخذ حجم التكفير عن الجرائم العنصرية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. أما ما لم أستطع فهمه أو استيعابه فهو موقف بعض العرب «الإبراهيميين»، وعلى رأسهم الإمارات التي شجبت العملية «لأنها تتنافى مع القيم والمبادئ الإنسانية»! متى يفهم المطبعون المضبوعون أنهم لا في العير ولا في النفير، ويصمتون على الأقل؟

بن غفير الذي دافع عن القاتل عام 1998، لا يجد أمامه بعدما صار وزيراً للأمن القومي، سوى الدعوة إلى مزيد من إراقة الدماء عبر السماح للإسرائيليين بحمل السلاح، أي عبر تحويل غابة الاحتلال إلى مسرح للوحوش.

هل كان خيري علقم ينتقم لاسمه الذي قتل منذ ربع قرن؟ أم كان ينتقم لشهداء جنين؟ أم كان يشعر بأن الاحتلال لم يترك أمام الفلسطينيين من خيار آخر سوى القتال؟

ما تشهده فلسطين يمكن وصفه بأنه تمرد ثلاثي الأبعاد:

البعد الأول هو الأكثر وضوحاً. الاحتلال يستدعي المقاومة، هذا هو الوضع الطبيعي، ما ليس طبيعياً ولا إنسانيا هو الخنوع وعدم المقاومة.

البعد الثاني هو التمرد على القيادات السياسية الفلسطينية، التي ارتضت سلطة لا تدافع عن الناس بل تتسلط عليهم، وعلى مجموع الفصائل الهرمة التي تقاعدت من دون أن تتقاعد. يقول هذا التمرد إن هناك جيلاً فلسطينياً جديداً خرج عن الطوق ولن يعود إليه، وإن ما يجري اليوم هو إعادة تأسيس للوعي الوطني، بعدما أهينت فكرة الوطن على أيدي السماسرة والمستسلمين.

البعد الثالث هو تمرد على الانحطاط العربي الشامل الذي يدمر بلاد العرب بالفقر والتفكك والحروب الأهلية. إن ما يجري حول فلسطين من انهيارات في لبنان وسوريا والعراق ومصر، لا يمكن إيقافه إلا بالتمرد وبناء رؤية شاملة للحرية والعدالة الاجتماعية.

هذه الأبعاد الثلاثة تعلن أن التمرد الفلسطيني هو دعوة إلى افتتاح مرحلة جديدة في المشرق العربي.

غير أن فلسطين تعلمت من مرارات النكبة المستمرة ألا تنتظر الآخرين، فهي تقاوم لأن المقاومة صارت شرطاً للوجود.

لقد محا الاستسلام والخنوع اسم فلسطين عن خريطة العالم، كما أنه يقوم اليوم بمحوها عن الخريطة العربية.

ما قام به شباب جنين ونابلس والقدس هو محاولة لإعادة رسم الخريطة كما هي، خريطة وطن محتل ويقاوم.

لقد نسي الإسرائيليون هذه الحقيقة، وصدقوا كذبتهم، واعتقدوا أن العالم العربي سقط مع سقوط أنظمة النفط والاستبداد في شراك التحالف معهم، وقاموا خلال سنة 2022 بتنفيذ مجزرة مستمرة ذهب ضحيتها 146 شهيداً فلسطينياً عدا عن مئات الجرحى والمعتقلين والبيوت المهدمة. وفي شهر كانون الثاني-يناير الجاري سقط 30 شهيداً حتى اليوم.

مسؤولية هذه الجريمة المنظمة لا تقع على الحكومة الإسرائيلية الجديدة فقط، بل تقع أساساً على حكومة الثنائي لابيد- غانتس، التي فتحت الباب أمام صعود زعران «القوة اليهودية» و»الصهيونية الدينية» إلى السلطة.

لقد واجه الفلسطينيون خلال العام الماضي اجماعاً دموياً صهيونياً ذكّرهم بزمن حرب النكبة. فنحن أمام قرار إسرائيلي واضح المعالم قائم على تأبيد الاحتلال.

لا أفهم لماذا تركزت الإدانة الغربية للعملية على تزامنها مع ذكرى تحرير معسكر الإبادة في أوشفيتز على يد القوات السوفياتية؟

إذا كان الإسرائيليون حريصين على ذاكرة الضحية اليهودية، فلماذا قاموا بعملية جنين الدموية عشية الذكرى؟

أم أنهم يعتقدون أنهم وحدهم يملكون ذاكرة، وأن الفلسطينيين بلا ذاكرة؟

لقد حول الجيش الإسرائيلي الضفة الغربية والقدس إلى غيتوات محاصرة. حولوا الفلسطينيين إلى «يهود اليهود»، ويتباكون الآن مستنجدين بغرب كولونيالي متوحش، نسي ذاكرته الكولونيالية ويأتي اليوم ليعطي الشعوب دروساً في الإنسانية!

لقد عملت كل مصانع الإعلام الصهيونية على توحيش الفلسطينيين عبر محو ذاكرتهم وعدم الاعتراف بحقهم في الوجود.

فكانت النتيجة هي تحول إسرائيل الحتمي إلى وحش معلن. جاء الصهاينة المتدينون ليعلنوا أن صورة الحمل الإسرائيلي كانت خدعة على من ارتضى أن يُخدع بها، وأن إسرائيل ليست أكثر من دولة قامت على الجريمة.

ظاهرة الفدائيين الجدد، الذين يخططون وينفذون بأنفسهم ومن دون أي دعم، ثم يسقطون شهداء، ليست ظاهرة فردية إلا في الشكل. إنها تعبير عن بداية لم تبدأ بعد، وهي بداية تشير إلى أن المقاومة ستستمر إلى أن يحين الحين.

وسوم: العدد 1017