مجزرة حماة وذكرياتها الدامية

رغم مرور واحد وأربعين عاماً على الذكرى الأليمة الدامية لا يزال أبناء حماة أبي الفداء والسوريون عامة يذكرون شوارع حماة المخضبة بالدم والمشحونة بالغضب، يعيشون ذكرى المذبحة الأليمة، التي خضَّبتْ نواعيرها الحزينة التي تَغرف بدلائها الكبيرة مياه العاصي العذبة، لتروي عطش المكلومين، وتطفئ لهيب أفئدة الثكالى من ألم فقد الأحبة وجور الطغاة الظالمين؛ وستبقى الذكرى حاضرة تسكن الخواطر والوجدان وطيات القلوب! وتروي بساتين المشمش الحموي والفستق الحلبي والكروم والحقول الخضر التي تمتد على شطي نهر العاصي الذي يمضي عصياً على الطبيعة، ميمما وجهه إلى سهل العمق وجسر الشغور.

تدور النواعير على نفسها بحركة صوفية، فيعلو نشيج الماء والخشب حزناً وأنيناً على الآمنين الذين قتلوا بدون ذنب غدراً وغيلة، وعلى المدينة التي سُوِّيت بالأرض هدماً وحرقاً، وتشدو كأنها مزامير داود مع رذاذ الماء المتطاير يلفح وجوه الناظرين، لتروي بغنائها الشجيِّ الحزين فصولَ المذبحة والمحرقة.

ينام الناس في حماة، والنواعير لا تنام، لتروي ملحمة الدم الحموي وتستعيد ذكرى أربعين ألف شهيد، وستين ألف معتقل، ومئة ألف نازح ٍ تناهشتهم المنافي وتفرقوا في أرض الله الواسعة، وخمسة عشر ألف فقيد لا يعرفُ مصيرهم أحد غير النظام القاتل المجرم! هل قـُتلوا في غزوة مذبحة سجن تدمر التي قادها مجرم الحرب رفعت الأسد وسرايا الدفاع، أم أُعدموا في حقول الرمي الميدانية، أو في مطار المزة والضمير العسكريين، أو في أقبية الأجهزة الأمنية، أو في سجني المزة وصيدنايا؟ بالإضافة إلى خمسة آلاف مشرّد هُدمتْ بيوتهم وسُرقت ممتلكاتهم وحلالهم.

وبلون الدم خطَّت أيادي شباب حماة في مسرح الدم في 2 شباط 2012، عبارات الاعتذار من حماة ومن الشهداء الراحلين: ”عذراً حماة… سامحينا” على ذنب ما اقترفناهُ  لأنَّا كنَّا صغاراً معلقين بحبال الموت على يد القاتل؛ خائفين نحتمي بأحضان أهلينا الميتين أو الشاردين بعيداً عن الدار والحريق الكبير!

مجلة الـ “إيكونومست” نشرت مقالاً في عددها الصادر بشهر أيار 1982، حمل عنوان “أهوال حماة”، قالت فيه “إن القصة الحقيقية لما جرى في شباط بمدينة حماة لم تعرف بعد وربما لن تعرف أبداً، مرّ شهران قبل أن تسمح (الحكومة السورية) للصحفيين بزيارة خرائب المدينة التي استمرت تحت قصف الدبابات والمدفعية والطيران ثلاثة أسابيع كاملة، لتمحى أحياء كاملة من المدينة القديمة”.

تأتي ذكرى المجزرة التي فتكت بأهلِها الآمنين عام 1982، في ظلِّ حومة المجازر الوحشية التي تطال أخواتها من المدن السورية على يد الوريث الرجيم بشار الأسد في عام 2012 والموت يجري بين اللحم والدم والعروق: في درعا وكلّ بلداتها الأبيَّة، ومدن ريف دمشق الباهرة، ودمشق التي استفاقت وخلعت عنها ثوب الخنوع وزلزلت عرش الظالم، وحمص عاصمة الثورة، وإدلب التي ما كلَّت حناجرها ولا ملّت من عذب النشيد، وجبل الزاوية وتاريخه العتيد، وجسر الشغور المُهجَّرة المنكوبة، وحلب وريفها النيِّر الثائر، ودير الزور والرقة وكل مدن الفرات الأبية.

في الذكرى الواحدة والأربعين لمجزرة حماة تتعرض سورية كلّها للمجازر على يد نيرون الشام بشار الأسد وجيشه الرافضي المتعصب، وعصابته النصيرية المجرمة؛ وداعموه من الفرس والروس والروافض والصهاينة، إذ تقع مع كلِّ رفة عين مجزرة!

ولا يزال مجرم الحرب بشار الأسد يُشعل الحريق في كلِّ خريطة سورية وتضاريسها، مستعيناً بالغزاة من فرس وروس وصهاينة، ويهيلُ على الشام وحضارتها التي تضرب عمقاً تخطى عشرة ألاف سنة في التاريخ البشري، يهيل عليها تلالاً من الرماد؛ ويشوه حضارة الشام، وتاريخها الناصع العريق؛ وعلى ثورتها التي انطلقت تدافع عن نفسها بحناجرها والنشيد، وأيديها العارية التي تتوقى رصاص الموت الذي ينهمر عليها كوقع المطر على القمح اليابس قبل الحصاد!

41 عاماً والسوريون يرددون أصداء المجزرة ويستعيدون أحداثها، ليس في ذكراها السنوية فحسب بل كلما شاهدوا أو سمعوا أو مرّ على زوايا ذاكرتهم ما يثير الخوف والحزن والغضب، نعم، لن نبالغ في القول إن مجزرة حماة تكاد أن تكون حاضرة في جٌلّ أيام السوريين وحياتهم.

ولعل جزءاً يسيراً من تفاصيل أحداث المجزرة المرعبة، التي امتدت على مدى 27 يوماً (منذ الثاني من شباط عام 1982 حتى مطلع آذار) ما يزال خافياً حتى اليوم؛ فالمدينة كانت أغلقت بالكامل بوجه المدنيين، وطُوقت بالدبابات والمدرعات ومدفعيات الميدان، وحوصرت بآلافٍ من جنود الأسد الأب الذين لا يختلفون عن جنود الابن في الوحشية والإجرام.

إغلاق المدينة وعزلها بشرياً وإعلامياً عن محيطها، لم يكن السبب الوحيد في اختفاء ذلك الجزء من الأحداث، بل ساهمت أسباب عديدة أخرى في طمسها، ولعل أبرزها يتمثّل في تصفية من عاصرها داخل المدينة وكان شاهد العيان الوحيد عليها، وربما كان نفسه ضحية تلك التفاصيل الموغلة في وحشيتها، فاختفى معها تحت أنقاض حماة.

بداية المجزرة البشعة بدأت منذ تسلّم حزب البعث السلطة في سورية، بعد انقلاب الثامن من آذار 1963، كانت غالبية المدن السورية تشهد بين الفينة والأخرى تظاهرات واحتجاجات وإضرابات، لأسباب مختلفة، إلا أن غالبيتها تمحورت حول إعلان حالة الطوارئ على البلاد بُعيد الانقلاب.

ولم تكن حماة بمعزل عن حراك المدن السورية، بل إن حراكها كان الأبرز من بين المدن الأخرى، ففي نيسان 1964 نفذت المدينة إضراباً عاماً مصحوباً بمظاهرات حاشدة، للمطالبة برفع حالة الطوارئ، فكان الصدام الأول مع الجيش العقائدي الذي قمع الاحتجاجات بوحشية وقصف المدينة بالمدافع.

الصدام الثاني جرى عام 1973 حين احتج الأهالي على مسودة دستور أزيل منها المادة التي تشترط أن يكون رئيس البلاد مسلماً، فخرجت مظاهرات حاشدة، لم تجبر النظام على إعادة المادة إلى الدستور فحسب بل وأجبرت حافظ الأسد على إشهار إسلامه أمام مفتي سورية آنذاك.

ولا شك بأن الواقعتين السابقتين، وعلى الأخص الثانية منهما، كان لها الأثر البالغ في نفسية حافظ الأسد، ولعلها ساهمت في تأجيج شعور طاغٍ بالانتقام الذي تجسّد لاحقاً في شباط 1982.

فاختار حافظ الأسد شقيقه المجرم رفعت ليكون السلاح الأنسب في تنفيذ معركته الانتقامية. وكان الأخير آمراً لأكثر من 15 ألف عسكري، يتبعون لأهم تشكيلات الجيش آنذاك، والمتمثلة في: سرايا الدفاع، وسرايا الصراع، ولواء دبابات، والقوات الخاصة، بالإضافة إلى مختلف عناصر الأجهزة الأمنية والمخابرات والشعب الحزبية.

تم تطويق المدينة وإغلاق مخارجها وعزلها بالكامل عن المحيط، وحين هبط الظلام على المدينة، في الثاني من شباط، كانت تشكيلات سرايا الدفاع أولى الفرق المنتشرة داخلها بالتزامن مع قطع الكهرباء وخطوط الهاتف، وابتداءً من الساعة التاسعة وقعت أحياء المدينة تحت رحمة الرصاص وقذائف المدفعية والراجمات، وكانت الليلة السوداء الأولى للمذبحة.

ومع فجر اليوم التالي (الـ3 من شباط) كان حيّ (الحاضر) العريق في حماة الهدف الأول للراجمات التي نصبها النظام فوق أبنية ساحة العاصي مقابل الحي بذريعة تحصن الإرهابيين فيها، ومع انتهاء نهار ذلك اليوم كان الحاضر -بأكمله- عبارة عن ردمٍ من الحجارة تعلوه سحابة سوداء.

من جهة أخرى، انتشرت باقي تشكيلات الجيش لتحتل شوارع وحارات المدينة وتشّلها بالكامل، ثم بدأت المرحلة التالية المتمثلة بـ “تعفيش” المحال التجارية بمختلف محتوياتها. واستمرت مرحلة النهب والتعفيش إلى اليوم التالي أيضاً (4 شباط) حيث لم تسلم حتى دوائر الدولة والمصارف الحكومية من سرقة الأموال.

وشهد ذلك اليوم ما عُرف بمجزرة (حي حماة الجديدة)، حيث تم جمع سكان الحي داخل الملعب البلدي وأطلق عليهم النار من الرشاشات، ويقدّر الأهالي عدد ضحايا المجزرة بنحو 1500 شخص.

وفي صباح الـخامس من شباط (وكان يوم جمعة)، راحت أعداد الجنود تتضاعف داخل المدينة، ولاحظ الأهالي ارتداء كثيرين منهم دروعاً واقية وأقنعة بيضاء اللون، بالإضافة إلى ظهور عربات مصفحة صغيرة تسير مسرعة بين الأحياء.

وتجدد قصف المدافع والراجمات مستهدفة مختلف أحياء المدينة، إلا أن التركيز كان على منطقة (السوق) حيث تهدمت معظم البيوت، فلجأ من بقي حياً من أصحابها إلى الأقبية.

وعند منتصف النهار، أعلن البدء بالذبح الجماعي، وكانت البداية مع العائلات المحتمية داخل الأقبية؛ وبالكامل، ولتستمر بعدها المجازر دون توقف، وبصورة متزامنة داخل الأحياء، لدرجة أن الناس لم تعد تستطيع التفريق بين مجزرة حيّ وآخر.

ومن بين عشرات المجازر التي تعرضت لها المدينة خلال أيام الحملة، سنمرّ على الأكثر وحشية والأعمق أثراً:

مجزرة حي البياض: قتلت قوات النظام نحو 50 شخصاً لعدم تمكنها من حشرهم داخل ناقلات الاعتقال الممتلئة، ورمت بجثثهم داخل حوض لمخلفات معمل بلاط.

مجزرة حي الدباغة: قتل فيها 25 شخصاً (6 عائلات كاملة) داخل منشرة أخشاب ثم تم إحراق المنشرة وهم بداخلها.

مجزرة حي الباشورة: وقتلت فيها قوات النظام عائلات بأكملها أيضاً: 39 سيدة وطفل بينهم 3 رجال من عائلة المشنوق، 11 شخصا من عائلة الدباغ، عائلة الموسى (21 شخصاً)، عائلة الكيلاني (4 أشخاص)، وعائلة طنيش والتركماني وصبحي العظم، بالإضافة إلى نحو 40 شخصاً من عائلات متفرقة قتلوا في مسجد الخانكان والثانوية الشرعية.

مجزرة حي الشمالية، ولم تعرف الأعداد بشكل دقيق حتى اللحظة، إلا أن الأهالي يقدرونهم بأكثر من 200 شخص تم إعدامهم داخل الأقبية، ومن بينهم عائلات كاملة: آل الزكار وآل كامل وآل عصفور.

مجزرة مقبرة سريحين: وهي من أبشع المجازر الجماعية بحماة، حيث ذهب ضحيتها أعداد كبيرة من الرجال والنساء والأطفال لم يتم حصر أعدادهم أو معرفة أسمائهم جميعاً. فبعد أن أحضرت قوات النظام مئات الأشخاص، على دفعات، من مختلف أحياء المدينة، أطلقت عليهم النار وألقت بجثثهم في خندق كبير.

مجزرة المكفوفين (أو ما يطلق عليها مجزرة العميان): اقتحم عناصر سرايا الدفاع مدرسة للمكفوفين في منطقة المحطة، ويشرف على التدريس فيها شيوخ مكفوفون كبار في السن، أقدم العناصر على حرقهم بعد أن أجبروهم على الرقص ثم أطلقوا عليهم النار مع قسم من طلابهم.

مجزرة عائلة المفتي: أحرق العناصر مفتي حماة، الشيخ بشير المراد، حياً، بعد أن سحبوه خارج المنزل على الأرض، وقتل معه 9 من أفراد العائلة.

مجزرة الأطفال: داخل (الجامع الجديد) عند (سوق الطويل)، وقعت المجزرة بعد مضي نحو أسبوعين على الحملة، وأثناء ذلك كان الناس قد بدأوا بالخروج بصورة محدودة في بعض المناطق.

وقفت سيارات بيع الخبز عند طرف الشارع، فطلب العناصر من الأهالي التوجه لجلب الخبز، وكالعادة أرسل الأهالي أطفالهم (أكثر من 20 طفلاً) لإحضار الخبز، ولدى عودتهم أوقفهم العناصر وطلبوا منهم الدخول إلى الجامع، ثم أطلقوا عليهم النار.

مجزرة الفتيات: كان العناصر يدهمون الملاجئ والأقبية بصورة متكررة، ويسحبون فتيات صغيرات، ثم يخرجون بهم لتنقطع أخبارهم بعد ذلك. وبعد انتهاء الحملة عثر الأهالي في (حمّام الأسعدية) على عشرات الجثث لفتيات معتدى عليهن.

هذا بالإضافة إلى مجازر عديدة أخرى، كمجزرة المشفى الوطني والجثث المقطعة بالسواطير داخله، ومجزرة معمل البورسلان الذي احتجزوا فيه آلاف المدنيين وتم قتل العديد منهم.

وكان كثير من الناس يخبئون جرحاهم، خشية أن تجهز عليهم سرايا رفعت الأسد، أما الأموات فإن أهاليهم يدفنوهم بسرعة، إذا أمكن، فيما أصبح يطلق عليه اليوم مقبرة الشهداء في الزاوية (الكيلانية). (التي تم نسفها كلياً فيما بعد).

لقد قدرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان أعداد القتلى بين 30 و40 ألفاً، غالبيتهم العظمى من المدنيين. وقضى معظمهم رمياً بالرصاص بشكل جماعي، ثم تم دفن الضحايا في مقابر جماعية.

وتشير تقارير إلى اختفاء نحو 10-15 ألف مدني منذ وقوع الأحداث، ولا يُعرف إن كانوا أحياء في السجون العسكرية أم لقوا حتفهم.

كما اضطر نحو 100 ألف نسمة إلى الهجرة عن المدينة بعد أن تم تدمير ثلث أحيائها تدميراً كاملاً، وتعرضت أحياء عدة، وخاصة في قلب المدينة الأثري إلى تدمير واسع، إلى جانب إزالة 88 مسجداً وثلاث كنائس ومناطق أثرية وتاريخية نتيجة القصف المدفعي.

وتكاد لا تخلو أسرة في مدينة حماة إلا وفقدت أباً أو ابناً أو ابنة أو أخًا أو أماً أو زوجة. يضاف إلى ذلك نقمة النظام وغضبه المستدام على أبناء المدينة منذ تلك الأيام، وتذكيره المستمر لهم بأحداثها بالرغم من عدم نسيانهم لها، كما لعبت تلك الأحداث ووحشيتها دوراً رئيساً في منع أبناء حماة من الاستمرار واللحاق بركب المدن الثائرة بعد مرور أشهر معدودة على ثورة آذار 2011.

لقد مضت واحد وأربعين سنة على مجزرة حماه التي ارتكبها المجرمان حافظ ورفعت، الآلاف من الأرواح أزهقت بلا ذنب، نساء وأطفال وشيوخ عزل، مجزرة حماة ستبقى مجزرة حماة ضد البشرية هي الأبشع في روايات التاريخ، لم يحاسب المجتمع الدولي مرتكبيها، بل تم احتضان المجرم رفعت الأسد في بلدان غربية تدعي حماية حقوق الإنسان، ونفق الطاغية الأكبر حافظ وسيموت أخوه رفعت، وستبقى مدينة أبي الفداء شامخة في وجه بشار وعصابته، والحساب قادم مهما طال الزمن.

المصدر

*سورية-2/2/2021   

*أورينت-2/2/2022 

وسوم: العدد 1017