السينما الإسرائيلية ومسوخ الصهيونية

لعل زائر موقع المهرجان السينمائي الإسرائيلي «أسبوع الفيلم اليهودي في القدس»، الذي سجّل هذه السنة دورته الـ 25، سوف يلاحظ أوّلاً خياراً في البرمجة لافتاً: تعديل العروض في ضوء ما جرى يوم 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)، واستبعاد الأفلام المحتوية على مشاهد شديدة العنف، حسب تصريح مديرة المهرجان دانييلا ترجمان. وكأنّ حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال ضدّ المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة لا تنتج العنف الأشدّ توحشاً وهمجية وبربرية، أو كأنّ تفاصيلها لا تُنقل حيّة ومباشرة على شاشات العالم بأسره.

البرمجة، في المقابل، تركز على مسائل الهوية اليهودية، وأفلام العداء للسامية، والثقافة والأدب اليهوديين، والهولوكوست؛ ولا مفاجأة هنا، خاصة وأن فيلم الافتتاح كان «حياة واحدة» للبريطاني جيمس هاوز، عن سيرة رجل الأعمال نيكولاس ونتون الذي نقل عدداً من الأطفال اليهود التشيك إلى بريطانيا وأنقذهم من الاقتياد إلى معسكرات الهولوكوست. موقع المهرجان لا يشير إلى أنّ سير أنتوني هوبكنز، الذي يلعب دور ونتون، سوف يكون حاضراً في القدس المحتلة.

غائبة أيضاً، كما يلوح حتى الساعة، المغنية والممثلة والمخرجة الأمريكية بربارة سترايساند، رغم أنها تتصدر لائحة تكريم الفنانين اليهود، تحت برمجة خاصة عنوانها «المرونة اليهودية» في كلّ الظروف والأزمنة، وعبر إعادة عرض فيلمها الشهير «هللو دوللي» في نسخة رقمية جديدة ومحسّنة. غياب يجوز لإدارة المهرجان أن تعتبره «خسارة فادحة»، تشاطرها في ذلك غالبية مجموعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة، بالنظر إلى أسهم سترايساند المرتفعة هذه الأيام تحديداً، بعد صدور مذكراتها «اسمي بربارة».

غائب كذلك، في ملاحظة هذه السطور وليس إدارة أسبوع الفيلم اليهودي، سينمائي إسرائيلي بارز وعالمي الشهرة يدعى عاموس غيتاي، صاحب التحفة السينمائية «كادوش»، 1999، التي تتناول محنة المرأة في المجتمع الإسرائيلي المتديّن؛ وثمة ملابسات وجيهة تبيح تفسير غيابه، أو لعلها ترجّح تغييبه ربما؛ ذلك لأنّ شريطه «أرض الميعاد»، 2004، قد يكون ـ ولعله سيظلّ حتى إشعار آخر طويل ـ الوثيقة السينمائية الإسرائيلية الأقسى ضدّ دولة الاحتلال، تلك «الواحة» التي لم يتوقّف التبشير الصهيوني وبعض استطالاته هنا وهناك في قلب الديمقراطيات الغربية عن تقديس أخلاقيات الحياة فيها. انطوت مرّة وإلى الأبد، يقول الفيلم، روح الـ»كيبوتز» التي تقلب الصحراء جنّة وارفة وينابيع من حليب وعسل؛ و»الصهيوني الصبّاري» نسبة إلى النبات الشوكي المقاوم، هو اليوم قوّاد مافيوزي يهرّب الرقيق الأبيض ويتاجر بالمهاجرات الباحثات عن عيش أفضل، ويسومهنّ الذلّ والهوان والعذاب، ويُشبع في أجسادهنّ أحطّ الرغائب الوحشية…

الأرجح أنّ مَن شاهد «أرض الميعاد» لن يجد في السطور السابقة أيّ تهويل أو مبالغة، بل لعلّ البعض سيجد تلطيفاً للصورة السوداء القاتمة التي رسمها غيتاي عن هذا القطاع في حياة دولة الاحتلال الراهنة؛ حيث تبدو أرض الميعاد وقد انقلبت إلى أقذر دار عهر، لأشدّ ما في العولمة من تجليات وحشية. وكانت صحيفة «لوموند» الفرنسية، وليس هذه السطور، هي التي اعتبرت أنّ أحد مشاهد الشريط يذكّر بفظائع أوشفتز والـ»هولوكوست»؛ مع فارق أنها هذه المرّة تجري بأيدي اليهود أنفسهم، أبناء وأحفاد الضحيّة السابقة. وليست «لوموند» ولا هذه السطور، وراء قرار غيتاي أن يطلق على دار البغاء في الشريط اسم… «أرض الميعاد».

الفيلم يروي حكاية نصف دزينة من الصبايا القادمات من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق (إستونيا، ليتوانيا، أوكرانيا…)، جرى تهريبهنّ إلى دولة الاحتلال بواسطة شبكات تنظمها مافيات روسية وإسرائيلية وأخرى وسيطة، عبر محطّات تبدأ من القاهرة وبور سعيد وصحراء سيناء ورام الله وإيلات، وتنتهي في حيفا. الصدمات تتعاقب في الشريط على هيئة مشاهد متلاحقة ذات إيقاع سريع لاهث، تحت وطأة كاميرا محمولة باليد أو على الكتف، تتعمّد خلق حسّ الريبورتاج والتوثيق أكثر من السرد أو بناء حبكة، بل تبدو أحياناً أشبه بالكاميرا الخفيّة.

حافز صحيفة «لوموند» إلى استعادة أوشفتز كان مشهد حمّام جماعي تخضع له الفتيات حال وصولهنّ إلى المنتجع العائم على البحر: ضمن إيقاع سريع ومشاهد ثقيلة الوطأة بالفعل يتمّ تجريد الفتيات من ثيابهنّ، ويجري رصفهنّ على منصّة معدنية تطلّ على البحر، ثم توجّه إليهنّ خراطيم مياه ضخمة؛ تماماً كما في غسل الماشية أو تطهير أجسادها بالمبيدات! ثمة أيضاً ذلك المشهد الجارح المزدوج: في مستوى أوّل، يقلّب أفراد المافيا ما بين أيديهم من بضاعة اللحم البشري؛ وفي مستوى ثان، تتداعى ذكريات ديانا الإستونية عن صلاة الأحد في موطنها، وذكريات روز الأوروبية عن ترتيل المزمور 221: «فرحتُ بالقائلين إلى بيت الربّ نذهب. نقف أرجلنا في أبوابك يا أورشليم. (…) ليسترحْ محبّوكِ. ليكنْ سلامٌ في أبراجك، راحةٌ في قصورك».

هذا شاهد من أهلها، قد يقول قائل يمتدح حرية التعبير في دولة الاحتلال؛ وهذه مساجلة صحيحة من حيث الشكل فقط، لأنها من حيث المضمون لا تسري إلا على «أهلها» من داخل البيت، حصرياً؛ الأمر الذي لا يحجب الحقّ في ردّها إلى سياقاتها الفعلية، آتية من قلب فاشية الكيان وكامنة في الباطن الأعمق من مسوخه وتشوهاته.

وسوم: العدد 1062