رُفعت التقية وحلٌ البلاء

رُفعت التقية وحلٌ البلاء

علي الكاش

كاتب ومفكر عراقي

[email protected]

يذكر الشيخ محمد الغزالي" إنَّ الاستعمار الثقافي حريص على إنشاء أجيال فارغة، لا تنطلق من مبدأ ولا تنتهي لغاية، يكفي أن تحركها الغرائز التي تحرك الحيوان، مع قليل من المعارف التي لا تعلو بها همَّة ولا يتنضَّر بها جبين؛ وأغلب شعوب العالم الثالث من هذا الصنف الهابط". ما قاله الشيخ حقيقة يمكن تشخيصها في البلدان الخاضعة للإحتلال أو التي يتحكم بها أذنابه من العملاء والجواسيس سواء كانوا من السياسيين أو رجال الدين، والعراق أفضل شاهد على هذه الحقيقة المُرة، حيث الوطن سائب والشعب خائب، يتخبط في ظلام الجهل، مرتكزا على عصا واهيه في طريقه الحتمي الى الهاويه.

في مقابلة مع الأخضر الإبراهيمي في جريدة الحياة اللندنية سئل عن لقائه مع المرجع الشيعي علي السيستاني فأجاب" كان اللقاء ممتازاً، واستغرق أكثر من ساعتين. لمست أنه رجل مطلع اطلاعاً جيداً، بمعنى أنه لا يعيش في عزلة عن الأحداث والتطورات". نستشف من هذا الكلام أن المرجع الشيعي ليس معتكفا في كهفه زاهدا ومنشغلا في دراساته الدينية كما يتصور البعض، بل منغمسا في مستنقع السياسة من عمامته إلى نعليه، وهو مع شيخوخته وقرب لقائه مه مالك خازن النار إلا إنه على وعي تام ودراية كافية بما يصرح به ويعلنه عبر مراقبته الدقيقة للأحداث، وليس وفق ما ينقل له من قبل عيونه في مرافق الدولة كافة، وهذه حالة طبيعية فهو الآن يمثل أبرز واجهة إيرانية في العراق المحتل.

إن المزاعم التي يروجها البعض عن إختلافه مع الولي الفقيه في بعض التفاصيل والعقائد كولاية الفقية وغيرها ليست سوى هواء في شبك، لأن السيستاني يمارس ولاية الفقية فعلا ويتجرد منها قولا، والحقيقة إنه لم يصرح عن عدم إيمانه بولاية الفقيه وإنما يتمنطق البعض بهذا الكلام لغرض المحاججة لا غيرها. كما أن السيستاني لا يستطع أن يجهر علنا برفض ولاية الفقية، ليس تقية وإنما لم يحن الوقت بعد لإشهارها، فالموقف في العراق حاليا لا يساعد على ذلك، كما إن علاقة السيستاني بكافة المراجع الدينية ورجال السياسة الإيرانيين على أفضل ما يرام، ولم ينأى أي مسؤول إيراني خلال زيارته للعراق عن اللقاء بالسيستاني ومناقشة في القضايا السياسية، والتشاور معه بشأن إدامة المد الإيراني في العراق مقابل الجزر العربي. وربما إيصال تعليمات ولاية الفقية له بغية تنفيذها حرفيا.

حاول البعض من أهلنا الشيعة أن يلبسوا السيستاني عمامة أكبر من رأسه على إعتبار إنه صمام أمن البلد، الذي لا أمن ولا أمان فيه، وإنه حامي أهل السنة بعد أن نكلٌ بهم طوال سنوات الغزو، وإنه معتدل المواقف مع إنه مصمم الحشد الطائفي، وإنه يعمل لمصلحة العراق وغيرها من الصفات التي لا تتواق مع معطيات الواقع البته. لم يعد سرا إن المرجع بارك وشرع الإحتلال الأمريكي للعراق بعد أن قبض الثمن بإعتراف رامسفيلد، وإنه رفض مقاومة الغزاة، وحقق جميع مطالبهم بإعتراف بريمر، وكان يتحكم بكل واردة وشاردة في العراق، من تشكيل مجلس الحكم سيء الصيت، وصياغة الدستور المفخخ والإستفتاء عليه، والإنتخابات السريعة، والمحاصصة الطائفية وبناء الدولة الفاشلة، تم كل ذلك وفق خطة قوات الإحتلالين الامريكي الإيراني وبمساعدة السيستاني كأداة تنفيذ فاعلة.

السيستاني يتحمل الجزء الأكبر بعد قوات الغزو في ما آل إليه العراق من إرهاب وتخريب وقتل وسلب وتهجير ودمار وكوارث وأزمات. وإن كانت عين الشعب غافية عن خطاياه فإن عين السماء مفتوحة لا تغفل.

من المؤسف حقا أن جميع المراجع الإيرانية التي عاشت في العراق وأكلت من ثماره الطيبة، وشربت من فراته العذب،  وإغتنت من ثرواته الهائلة، لم تكنٌ له الوفاء والحب والإعتراف بالجميل، بل على العكس من ذلك أضمرت له العداء والحقد الدفين. ولا يُستثنى السيستاني عن هذه القاعدة المجحفة، بل يمكن الجزم بأن مثلث خراب العراق أضلاعه الخميني والخامنئي والسيستاني. ومع هذا فأن العراقيين منومون بأفيون المرجعية، فقد غفلوا عن هذه الناحية ولم يستفيدوا من دروس التأريخ البعيد، ولا الماضي القريب، فسحابة الجهل والفقر والتعنت المذهبي لا تزال تظللهم إينما رحلوا وحلٌوا، والقوادم أشر مما يحصل، والزمن هو الحاكم.

في الماضي كان المراجع يَخفون وجوههم الحقيقية تحت قناع التقية، ومن المعروف إن التقية خلال فترة القوة والتسلط تُرفع فلا حاجة لها، وعندما تُرفع تُزال الأقنعة وتسفر الوجوه الشاحبة الصفراء ويَحلٌ البلاء. في السابق كانوا يتحدثون عن المظلومية والمقابر الجماعية المزعومة والظلم والإستبداد، والآن يتحدثون عن الأكثرية الشيعية وأحقيتها بالحكم ـ رغم انهم يرفضون هذه القاعدة في سوريا ـ والمثلث السني وجيوش يزيد ومعاوية، ولكن من تبوأهم السلطة فهم لا يزالوا يعزفوا على قيثارة المظلومية التأريخية، لأنها ببساطة تثير مشاعر وأحاسيس الجهلة والسذج، وتُطرب أسماع الطائفيين وأصحاب الأفكار المتكلسة. حيث لم يشهد العراق منذ الفترة المظلمة مظلومية حقيقية إلا بعد العزو الأمريكي، وكانت أضلع مربع  المظلومية، الدول العربية، الولايات المتحدة الأمريكة وحلفائها، نظام الملالي الحاكم في العراق، وأخيرا شرذمة حكام العراق الجدد.

آخر عهدنا بأحاديث المظلومية جاء على لسان المتحدث الرسمي بإسم المرجع السيستاني حول مظلومية فاطمة، ليس عن قصة فدك هذه المرة، وإنما عن كسر ضلعها من قبل عمر الفاروق، فقد قال الشيخ عبد المهدي الكربلائي معتمد المرجع الشيعي الاعلى في العراق آية الله السيد علي السيستاني في خطبة الجمعة في 6/3/2015 بمدينة كربلاء " ان للشيعة من أهل البيت مظلومياتهم التاريخية بدءا من الاعتداء على السيدة فاطمة ابنة النبي محمد وزوجة الامام علي بن ابي طالب، وإن  سيدة نساء العالم كان عمرها 18 عاما بالرغم من النبي محمد كان يقول ان فاطمة بضعة منه ومن اغضبها فقد اغضبه ومن اذاها فقد اذاه .. ومن اذاه فقد اغضب الله".  مشيرا بأن فاطمة" قد تعرضت بهذا الاعتداء الى ظلم كبير، وهي جريمة وحشية على فاطمة فتحت باب الجرأة بالاعتداء على آل البيت، حيث اعقبها قتل الامام الحسين بن علي بن ابي طالب".

إنها رواية خرافية فيها إساءة كبيرة لصاحب باب خيبر وما عرف عنه من بطولات وغزوات وخوارق وصفات بعضها لا يتصف بها إلا الخالق جلٌ جلالٌه وحده. والحقيقة أن الكثير من الرواة والمراجع الشيعية تمعنوا القصة ودرسوها بعمق وخرجوا بنتيجة حاسمة، إنها خيالية ولا صحة لها، وفيها إساءة لرموز إسلامية كبيرة كالخليفة أبي بكر الحاكم حينها، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وفيها تجني كبير على فاطمة بنت النبي محمد (ص)، علاوة على إنها تمثل إساءة كبيرة للإسلام نفسه. فهؤلاء الأصحاب تربوا على ثقافة نبي الرحمة، وإتصفوا بصفاته الطيبة، وكانوا رحماء فيما بينهم كما أشار القرآن الكريم في سورة الفتح/29 ((مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)).

ولو وضعنا الجانب الديني جنبا، فأن العادات والتقاليد العربية التي كانت سائدة في المجتمع القرشي تؤكد بأن العربي يدافع حتى النفس الأخير على دينه وأرضه وعرضه وكرامته، والعرض يعني شرفه الشخصي وشرف الأم والزوجة والبنات والأخوات. وهذا المنطق يضع الإمام علي بن أبي طالب في موضع لا يليق به، ولا يتفق مع ما عرف عنه من مواقف بطولية رائعة في الدفاع عن الإسلام وشرف المسلمات. فالذي لا يحمي شرفه يكون عارا على أهله ونفسه وقومه. ثم كيف يمكن أن يحمي شرف المسلمات وقد عجز عن حماية عرضه؟ وكيف يسمح لنفسه بأن يُهان شرف زوجته فاطمة أمامه وهي بنت النبي الأكرم من جهة، وإبنة أبن عمه من جهة أخرى؟ وإن كُسِر ضلعها وأسقط جنينها فعلا كما يدعي السيستاني وبطانته، فكيف يسمح الإمام علي لنفسه أن يكون مستشارا للفاروق بعدها. أي ذلٌ هذا؟ لماذا لم يعتزل ويعتكف وهذا أضعف الإيمان؟ إذا إفترضنا جدلا بأن لم يكن بمقدوره أن يقف بوجه عمر من منطق القوة والسلطة مع أن عمر لم يكن حينها خليفة، فحاله حال علي.

ولكن عندما تقرأ المقطع الثاني من الخطبة التحريضية لمعتمد السيستاني ستعرف على الفور ما الغرض من رواية الحادثة التي وصفها علماء الشيعة بالضعيفة أو غير الصحيحة كالشيخ المفيد وغيره. حيث يستطرد" ان هذه الجرائم مرتبطة بضرورة الوقوف ضد الظالمين والجهاد من اجل الحق حتى وان تطلب الامر التضحية بالنفس والمال والعائلة. ودعا الى " احياء ما اسماها ذكرى هذه الفجيعة الاليمة التي ادت الى وفاة السيدة فاطمة". بلا شك ان الغرض من الخطبة هو شدٌ عزم الحشد السيستاني الذي يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية بعد أن تحمل خسائر فادحة في الأرواح خلال المعارك الأخيرة خصوصا في محافظتي صلاح الدين والأنبار.

لا أحد يجهل بأن العراق في الوقت الحاضر يمر في أصعب ظرف تأريخي، فقد إنطلق مارد الإرهاب من قمقمه ومن الصعب إرجاعه إلى (قم قمه) في ضوء التناحر العنصري والطائفي الدموي الذي تغذيه حكومة حيدر العبادي خدمة للمشروع الإستيطاني الإيراني.

إن إطلاق مثل هذا التصريحات الوسخة ان كان الغرض منها رفع معنويات الحشد الشعبي الهابطة، فإنها بالمقابل تخدم تنظيم الدولة الإسلامية التي يمكن أن توظفها عقائديا وإعلاميا في مجال الإستقطاب الطائفي. فهذه التصريحات كالسيف ذات حدين قاطعين مما يستدعي الحذر منها، كما ان صب الزيت من قبل المرجعية على النار الحامية ستحرق الجميع بلا إستثناء بما فيها المرجعية نفسها بعد أن فضحها بوش وبريمر ورامسفيلد.

غالبا ما يصف البعض المرجعية بالراشدة! فأين الرشد فن هذه الخطابات التحريضية؟ إذا كانت راشدة وهذا فعلها! فكيف لو كانت قاصرة؟