اليوم.. هو الثامن من آذار .. ايضاً..ذكرى "حركة 8 آذار"

اليوم.. هو الثامن من آذار ..

ايضاً.. ذكرى "حركة 8 آذار"...

عقاب يحيى

قد يكون صعباً أن نفي ذلك اليوم، التغيير، حقه من التقويم الموضوعي.. لأن عمره اليوم يبلغ السابعة والخمسين، أي ما يقرب الستة عقود.. طبعت سورية بكثير من تحولاته، وسماته، وارتداداته.. وأدّى إلى ما نحن فيه الآن من حيث النتيجة..

ـ البعثيون المستمرون مع النظام.. المجوّفون، والخائنون لجوهر مبادئه، ما زالوا يعتبرون الذي حدث ثورة، وثورة للبعث، وللأهداف الجميلة، الكبيرة المرفوعة، وعديد من بعثيي رفض انقلاب التفحيح، وقبلهم ايضاً يصنفونه على أنه ثورة، وإن كانت المراجعات التي جرت تضعه في موقعه : حركة عسكرية، انقلابية بأهداف اجتماعية.. لم تثمر، ولم تتجسّد.. وفيهم من يعتبره طريقاً ملغوماً للطائفية، والأحادية، ووضع اليد على البلد من قبل مجاميع ريفية، ومن الأقليات الإسلامية بمعظمها، لم تحسن السلوك، والعمل.. فجوّفت الأهداف، واستسلمت للأقوى.. ثم راحت تنسلّ منه، أو تقاوم مدعي ورثته، وقد قدّم عديدهم حياته، وعمره ..أو ما يقرب الربع قرن في المعتقل.. والمنافي، والحصار ..متعدد الأشكال ..

ـ ليس بالإمكان اليوم أن نقوم بوقفة شاملة لطبيعة ما جرى، وأين صار. للذي له والذي عليه، فمثل ذلك يحتاج دراسات طويلة، وأبحاث معمّقة لن تتسع لها مقالة صغيرة، لذلك سأكتفي بالتركيز على بعض النقاط التسلسلية :

ـ لم يكن البعث بقدرة استلام حكم..لأن حلّ تنظيمه في سورية بناء على شروط عبد الناصر لإقامة الوحدة أدّت إلى ضعضعته، وشرذمته في اتجاهات مختلفة .. فهناك من بات ناصرياً، وهناك التنظيم" القطري"، وهناك من غادره نهائياً يأساً وإحباطاً.. ولم يكن عدد "التنظيم القومي" يتجاوز ال500 ...لكن قيادته قبلت تغطية التغيير العسكري، ووضعت يافطة الحزب عليه، ودخلت بزخم يعتقد أن الذي جرى ثورة للبعث .

ـ عملياً ما جرى كان إنهاء للانفصال بهدف إعادة الوحدة مع مصر، استجابة لضغط شعبي كاسح، وعبر انقلاب عسكري قاده تحالف مؤقت من العسكريين البعثيين والناصريين والمستقلين، والذي سرعان ما اقتتل، وانفكّ بطريقة درامية، بما أفسح المجال للعسكريين البعثيين بالسيطرة والانفراد ـ بدءاً من 18 تموز 1963 ـ وفشل " ميثاق الوحدة الثلاثية بين مصر والعراق وسورية .

ـ الحقيقة الكبرى أن المؤسسة العسكرية ـ عبر "اللجنة العسكرية" هي التي قادت، وهي التي كانت القوة الضاربة، والمؤثرة بالمسار، والقرار، والتحولات، وكان البعث ـ كحزب ـ مجرد مشروع حالم لدى المؤمنين به.. بإمكانية بنائه ليكون مهيّئاً للقيادة وليس مجرد واجهة كما حدث، وكان هذا في صميم صراعاته الداخلية التي يرز فيها الخلاف كبيراً بين مسمّيات اليسار واليمين

4 ـ كانت الأحادية، والشمولية، والاحتكار، وتهميش وإبعاد الآخرين، ومفرزاتها في " الديمقراطية الشعبية" التي اغتالت الحريات العامة والفردية، وأنتجت مقولات الحزب الواحد، وبقية المفرزات في "حرق المراحل" وفي تماوجات اليسار القشري، والتموّضي تخالف مبادئ ودستور البعث الذي كرّس التعددية، والانتخابات التشريعية، ومارسها، كما أنها جاءت بتأثير المدرسة السوفييتية، وإن كان بشكل كاريكاتوري يفتقر إلى مقومات مهمة.. وهي الفلسفة التي أودت بالاتحاد السوفييتي، وبالبعث، من حيث النتيجة . وقد ولّدت تلك الفلسفة مرتكزات الاستبداد الذي أشاد عليها الطاغية الأسد نظامه الأمني، الطائفي، العائلي .

5ـ  جرت محاولات مخلصة لبناء حزب منظم، ومسلّح بمواقف نظرية، وبرنامج سياسي، كما تمّ إنجاز عديد التحولات على طريق بناء قاعدة صناعية متطورة، وتعزيز القرار الوطني المستقل، والعديد من الإجراءات الاجتماعية التي أسهمت في خدمة الفئات الفقيرة من الفلاحين والعمال، وأصحاب المهن الصغيرة عبر التأميمات وإقامة الكثير من المشروعات الصناعية والتحوّلية، والإصلاح الزراعي..

    لكن هزيمة حزيران الشاملة والتي تتجاوز الجانب العسكري إلى مختلف المجالات كانت الانعطافة الباترة للمخططات المقررة : الخمسية وغيرها، ومحاولات بناء الحزب، والمجالس المحلية المنتخبة، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية، ونسبياً : السياسية، ويمكن اعتبارها نقطة التحول الكبرى للارتداد الشامل الذي عبّر عنه تكتل الطاغية الأسد، ثم انقضّ به على الحزب والبلد، ووضع اليد عليهما كملكية، أو مزرعة خاصة .. دون إغفال اثر المواقف الوطنية الرافضة للقرار الأممي /242/ الذي يكرّس الاعتراف بإسرائيل، والقرار الشجاع، وغير المكتمل بالدخول إلى الأردن / أيلول عام 1970/ لنجدة المقاومة الفلسطينية من " مذابح أيلول الأسود" وتسريع الانقلاب أضواء خضراء عربية ودولية.. كانت للوفاة المفاجئة لعبد الناصر دورها في تلك الوتيرة، ثم في تدشين عصر الارتداد الشامل.

                                                                         ****

موضوعياً كان الأسد العسكري، الطائفي المنحدر من بيئة ريفية فقيرة.. لا يؤمن في جوهره بأي حزب، أو مؤسسة سياسية، وكانت القوة ديدنه لذلك داس باستهتار على أعلى مؤسسة في الحزب، وعمل بوعي مدروس على تجويفه وتحويله إلى واجهة للاستخدام والتغطية، تمور فيه الانتهازية، واللصوصية، ووضع رفاقه من قيادات الحزب والدولة في المعتقلات لقرابة الربع قرن دون تهمة أو محاكمة، تجسيداً لفيض من حقد دفين ينهل من خزين كبير ملتبس، ومن بنية نرجسية تضع الفرد ـ القائد في موقع العصمة والقداسة، وتحوّل كافة البنى : الحزب، والناس، والشعارات، والدولة لخدمته، والاستعداد المفتوح للمقايضات بجميع القضايا الوطنية والقومية والاجتماعية مقابل البقاء في الحكم، بما في ذلك الاستعداد المفتوح لإبادة، وقتل، وتصفية الخصوم حتى لو كانوا معظم الشعب، أو رمّيهم في السجون القاتلة لعقود، واغتيال الكثير منهم تحت التعذيب، أو بوسائل أخرى.

ـ موضوعياً أيضاً، وبغض النظر هنا عن الأزمة البنيوية في البعث، وعن فوات عديد الأطروحات النظرية الأم حول الأمة والعروبة والقومية والوحدة وفلسطين وغيرها، والتي كانت تحتاج إلى مراجعات شجاعة للتطوير والتغيير، واغتيال الديمقراطية والحريات العامة والفردية، ورفض مشاركة الآخرين من القوى السياسية في جبهة حقيقة، وكثير مما يقال عن تلك المرحلة.. رغم إخلاص قياداتها، ونظافة أيديهم، ووطنيتهم التي لا تشوبها حتى سويات الوعي، والفهم المنتشر..

فالبعث بمعنى المبادئ، والحزب السياسي الأبرز في الأحزاب القومية.. كان الضحية الأولى والأبرز لنظام التفحيح والطغيان والتطويف.. وقد حوّله الطاغية إلى ممسحة للقذارات المتراكمة بحيث بات اسمه يقترن بكل الموبقات، والعهر السياسي، والتطويف، والدكتاتورية، والنظام الأمني الرهيب الذي حاول اشتلاع خصائص السوري، وكبرياءه، ونزوعه للحرية.. محاولاً قسره على الخضوع، والرياء، وأشكال الانتهازية الرخوة، والنهمة، والفاسدة.. ثم كان التوريث محطة كبرى في سيل تلك التحولات الاستملاكية بكل خلفياتها ونتائجها على أسس الجمهورية، ومستقبل سورية، وحقوق الشعب.

ـ لقد غرف نظام التفحيح عبر مجاميع طائفية حاقد من منهل يحتقر الشعب، ولا يقيم وزناً للحياة والكرامة، لذلك كانت المجازر نتاجاً، وتقسيم المجتمع عمودياً وسائل للبقاء وتفتيت اللحمة الوطنية، ومملكة الأمن المشادة على أجهزة أمنية مطلقة العنان قفصاً لاعتقال وسجن السوريين وآمالهم، وطموحاتهم.

ـ لقد نام الوريث على فراش سائد الطاغية فرضع حليب امتهان الشعب، والتشبث بالسلطة حتى لو كان الثمن إبادات جماعية، وتلال من الجماجم، ودمار البلد.. وكان الشعار الذي ما يزال مرفوعاّ " الأسد او نحرق البلد" ترجمة فعلية، وخلاصة لذلك المسار.

ـ اليوم والثورة السورية التي نجحت في تهديم جدران تلك المملكة المرعبة، ووضعت الذات النرجس للأسد في الحضيض الطبيعي، وأعلنت الحرية شعاراً، وهدفاً.. تواجه مجموعة تحديات ناتجة عن فظاعة ممارسات ذلك النظام الارتدادي ـ الطائفي من جهة، وما افرزته بناها وقواها من جهة ثانية، وما لحق بها من هوامش، ومفروضات من جهة ثالثة، بينما يتحمل المجتمع الدولي جزءاً هاماً من المسؤولية في تعقّد الأوضاع، وطغيان التطرف الذي يجد عنوانه الكبير في داعش وما تعنيه، وما تسببه من تحولات، وما تطرحه من تحديات وتغييرات ترتدّ سلباً على الثورة، وتحملها مسؤوليات تبدو أثقل من قدراتها .

ـ اليوم والحرية هي الراية الجمعية لمعظم السوريين.. فإن التصميم على انتزاعها لبناء الدولة المدنية الديمقراطية . دولة المساواة والكرامة والحق والعدل..هو طريق السوريين، وخلاصهم لإنهاء نظام القتل والطائفية والنهب.. وإقامة البديل الذي ليق ببلد الحضارات والعطاء والتضحيات..