التوافق.. وأهميته..

عقاب يحيى

جديرة ثورة الشعب السوري بوقفة شاملة.. نراجع فيها المسارات والأوضاع.. ونتعرّف على أسباب الاختناق والمصاعب.. علنا نكون ـ جميعا ـ بمستوى عظمتها، وقادرين على تقديم شيئ يليق بتضحيات شعبنا..

التوافق اليوم هو العنوان الكبير الذي يتجوّل، بصيغ وكيفيات متعددة بين مختلف القوى السياسية، والتوافق يعني التخلي عن كل ما من شأنه منع الوصول إلى صيغ جمعية.. وفي مقدمة ذلك " التنازل" عن حجم الأنا، والحزبوية فينا، وعن عقلية المناكفة والاستحواز والاستبدال، والارتفاع إلى الهمّ الوطني، وإلى التحديّات الخطيرة التي يواجهها بلدنا، وهي كثيرة، ومتعددة.. تصل حدود إغراقنا في محرقة طائفية وقودها شعبنا وبلادنا وجغرافيته ومكوناته كلها.. كما تشير إلى إمكانية بقاء نزيف الدمار والقتل والتخريب إلى أمد طويل لا تبقى فيه أي مقومات لوجود الدولة، وحتى الشعب الواحد .

ـ التوافقات لا تعني التنازلات عن الثوابت التي قامت الثورة لأجلها، والتي لولاها لما استفاقت وانتعشت قوى المعارضة، ولما نشأ هذا الكمّ الكبير من الحراك والتشكيلات، لذلك ووثائق القاهرة للمعارضة ـ تموز 2012 ـ ما تزال بين الأعين.. يمكنها أن تكون ـ من جديد ـ منطلق التوافقات، وأرضيتها.. بما قد تستلزمه من تطوير في بعض بنودها، وبما يجعلها وثيقة عامة للجميع..

ـ التوافقات المطلوبة لا تعني أبداً طمس، أو تجاوز الخلافات والتباينات السياسية والفكرية، فتلك موضوعية المنشأ، وتخصّ المنتمين إليها.. إذ يمكن لتلك التباينات أن تبقى قائمة في حدود اختلاف الوسائل المحققة للهدف، شرط ألا تكون مانعة للتوافق .

ـ التوافق المنشود، والقائم بشكل عام، ليس هو الاندماج وتغييب الفواصل والتخوم بين رؤى وبرامج ومرجعيات القوى، بل هو التجمّع حول المشتركات.

المشتركات تقول : حتمية إنهاء نظام الفئوية والاستبداد كلياً، ونهائياً، والشروع المبرّمج في عملية انتقالية واضحة الهدف، والمهام والزمن برعاية أممية تضمن التحقيق، واستناداً إلى وثائق جنيف 1 ببنوده الست. بمقدماته الإجرائية السابقة كوقف القتل والقتال، وإطلاق سراح كافة المعتقلات والمعتقلين، وفكّ الحصار عن المدن والمناطق، وتأمين ممرات آمنة لوصول الإغاثة إليها، وعدد من إجراءات" الثقة".. ثم تشكيل الجسم الانتقالي كامل الصلاحيات، والبدء بعملية الانتقال المبرمجة، خاصة فيما يتعلق بحل الأجهزة الأمنية جميعها وتشكيل الضروري منها، وبناء جيش وطني، ومسائل التشريع، وإعداد الدستور وطرحه على الاستفتاء العام، وتشكيل جسيم انتقالي تشريعي مؤقت ينبثق عن المؤتمر الوطني العام.. ومجموعة من الإجراءات التي نصّت عليها وثيقة جنيف، كما اكدت عليها وثيقة الإئتلاف المقرّة من هيئته العامة، والخاصة بالحل السياسي ومحدداته .

ـ والتوافق المطلوب الآن.. هو البعيد عن أفكار التملك، وادعاء شرعية التمثيل الكلي للشعب والثورة من جهة، وعن نزوعات الاستبدال، وتهديم الإئتلاف بحثاً عن إطار آخر.. يحلم البعض فيه منذ وقت، ويعملون لإقامته..من جهة أخرى . وهو الذي يعزز الثقة، والحب، وموقع الوطن.. ويتجنب عقلية الضرّة، والتصنيف، والتخوين، وتراشق الاتهامات ..

ـ كما أن التوافق يعني رفض أي فيتو من أي جهة، أو دولة على اية قوة سورية، وعدم الاستجابة لدعوات ورغبات بعض النظم والأطراف في إبعاد أطراف معارضة مهمة، لا يمكن لأحد شطبها، بغض النظر عن مساحات التوافق والاختلاف معها، كما هو الحال بشأن حركة الإخوان المسلمين، والإسلاميين بشكل عام.. حيث يستجيب البعض للضغوط، والبعض يعتبر غيابهم نصراً، وتنقية في حين يؤكد العقل الجمعي، الديمقراطي، الوطني عدم قبوله بأية إملاءات خارجية تصنف، وتحدد من يُقبل، ومن يحرم من المشاركة .

والتوافق المنشود يجب أن يقف بكل مسؤولية عند بيت القصيد الخلافي حول الحل السياسي ومضمونه.. ذلك أننا اليوم أمام وجهات نظر متعددة..

ـ منها من يرى ضرورة التنازل عن أية شروط مسبقة، أو لاحقة، والاستعاضة عن قرار المفاوضات بالحوار، والفرق كبير، وجوهري، والعمل عبره، وبالتعاون مع روسيا، مثلاً، أو مصر..للوصول إلى نتائج ما ..

ـ ومنها من يلغي الشرط المتعلق بمصير وموقع الأسد.. إما من منطلق أن المشكلة ليست مع الأسد بل مع النظام ككل، أو عبر التركيز على ميزان القوى المختل لصالح المعارضة، والذي يفرض ـ وفق أصحاب وجهة النظر تلك ـ التخلي عن أية شروط مسبقة، والدخول في مفاوضات مباشرة، والتركيز على عملية الانتقال الديمقراطي التي من شأنها ـ حسبهم ـ أن تنهي نظام الاستبداد، ومعه رأس النظام ورموزه ..

ـ ضمن وجهة النظر هذه يمكننا تلمس مروحة من التباينات التي يتقاطع بعضها مع روحية جنيف واحد ، ومع اشتراطات واضحة في ألا يكون الأسد وكبار رموز النظام جزءاً من أي عملية سياسية ومن مستقبل سورية، بينما يذهب البعض مديات أبعد في الإقرار بوجوده حتى انتخابات قادمة تقرر مصيره، وهناك قليل يرجّح " المفاضلة" بين بقائه، وبين سيطرة داعش والتطرف .

ـ وضمن وجهات النظر المطروحة هناك الموقف الواضح من اشتراط إبعاد الأسد عن أي عملية سياسية.. وإنهاء وجوده نهائياً، ويمثل الإئتلاف بمواقفه ووثيقته السياسية الترجمة الأفصح.. وإن كانت التفاصيل تترك المجال لتفسيرات متعددة.

فعلى سبيل المثال حين وافق الإئتلاف بتلك الأغلبية الضعيفة حضور لقاء جنيف 2، والتقى ـ عملياً ـ بوفد النظام لم يتمسّك بذلك الشرط مسبقاً، أي قبل البدء بأية مفاوضات، بل وضعه على الطاولة ولو نظريا، وعملياً تركه لنتائج المفاوضات,, ومصيرها الهبائي... وهو الأمر الذي ورد أيضاً، وبما يثير البلبلة، أو عدم الوضوح في تصريحات الدكتور خالد خوجا رئيس الإئتلاف التي فهمها البعض أنها تخلي عن الشرط المحدد، بينما جاءت الفقرات التالية متممة، والتي أوضحت موقفاً من موقع رأس النظام .

ـ مع ذلك، وبوجود هذه التباينات.. ووجود خلفيات متعددة.. ليست نزيهة لدى البعض، وكيدية عن البعض، ومرتبطة بأجندات وتصورات معروفة القصد..فإن وحدة عمل المعارضة، ومجمل الحراك الثوري، والمسلح، والمدني هي اليوم ضرورة ملحة لوحدة الموقف، وتفعيل القدرة على انتزاع حقوق الشعب السوري، ومواجهة التحديات الخطيرة التي يواجهها بلدنا.