ظاهرة جبهة النصرة في الثورة السورية

ظاهرة جبهة النصرة في الثورة السورية

حينما نتحدث هنا عن جبهة النصرة فإننا في حقيقة الأمر نتحدث عن كل القوى العسكرية ـ الإسلامية التي تعمل في إطار فكر ورؤية ما صار يعرف بالتنظيمات "الإسلامية الجهادية" والتي تضم كذلك جماعة القاعدة، والألوية والكتائب ذات الأسماء المتعددة، والأحزاب الاسلامية التي تأخذ هذا النهج دون غيرها، وهذه جميعها وجدت في سوريا  ساحة مفتوحة ومهيأة لقبول الكثير من أفكارها ومن سلوكها.

وتوصيف هذه الجماعات بشكل واقعي يمكننا من التعرف عليها، وتكوين حكم صائب وبالتالي اتخاذ موقف صحيح تجاهها.

1ـ إن نقطة البدء التي يجب تسليط الضوء عليها أن هذه الجماعات كلها لا صلة مبدئية لها بالثورة السورية وشعاراتها واستهدافاتها، فهذه الثورة التي انطلقت من أجل إقامة نظام ديموقراطية حر يتساوى فيه الجميع، وتعلو في إطاره مفاهيم المواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية، لا علاقة لها بالأهداف التي تعلنها هذه الجماعات التي تعتبر الوطنية والديموقراطية والاحتكام للشعب ... الخ كلها رجس من عمل الشيطان، لايجوز الأخذ به، ويجب محاربته والتخلص منه، وتعتبر ذلك جهادا في سبيل الله، وفريضة لابد لكل مسلم حق القيام بها.

2ـ أن لهذه الجماعات مشروعها الخاص القائم على الاعتقاد بأن إقامة " الخلافة الإسلامية" فريضة، أو فرض عين على كل مسلم، وأن هذه الخلافة لا تقوم إلا بهدم وتدمير ما هو قائم، وأن النظم السياسية: الملكية والجمهورية ، الرئاسية والبرلمانية، العسكرية والمدنية كلها نظم كافرة، لايجوز العمل من أجلها ولا يجوز القبول بها ولا يجوز العمل من خلالها، كذلك فإن كل النظم الرأسمالية والأشتراكية، والمختلطة، وأي نظام آخر يمكن توصيفه هي أنظمة طواغيت يجب التصدي لها.

3ـ إن القضية عند هذه الجماعات ليس في تطبيق الشريعة أو عدم تطبيقها، أو النص في الدستور على أن الشريعة هي المصدر الوحيد، أو المصدر الرئيس من مصادر التشريع في المجتمع، فهذه مسائل فرعية تابعة.. الأصل لديهم إقامة دولة الخلافة ووجود الخليفة على النحو الذي يتصورونه، وسيكون من واجبات الخليفة بعد ذلك فعل كل ما سبق وكل ما يتطلعون اليه، ولذلك هم لايشغلون أنفسهم بالأولويات التي ننشغل بها نحن مثل فلسطين، والاحتلال، ومسيرة التسوية، والتنمية العادلة، فهذه كلها من مهمات وأشغال الخليفة.

4- لديهم أن الإسلام يقدم البديل عن كل ذلك، ولديهم أيضا أنهم هم يمثلون الإسلام، وهم الأمناء عليه، فما يرونه صحيحا هو الصحيح، وما يرونه ضلالا هو الضلال، لا يقيدهم في هذا مواقف لمجامع إسلامية، ولا لمراكز وجامعات دينية، ولا مواقف لأئمة المسلمين وفقهائهم عبر العصور الزاهية، ولا دلالة مقنعة لأحداث التاريخ التي تؤكد خطأ ما يذهبون إليه؛ فالمرجع لكل جماعة أميرها، وقائدها، حتى ولو اجتمع علماء الأمة كلهم على خلاف ما يرون فإنه لا دلالة ولا حجية لهذا الاجتماع، ولهذا السبب بالتحديد يعتبرون أنفسهم مخولين بإقامة الأحكام والشرائع الإسلامية على النحو الذي يقره أميرهم. فالأمير هنا بمثابة خليفة المسلمين، والبيعة له بمثابة البيعة التي إن مات المسلم وليست في عنقه مات ميتة جاهلية، ومع تعدد الجماعات يتعدد الخلفاء أو القائمين مقامهم.

5- رغم أن هذه الجماعات كلها ولدت في إطار المذهب السني إلا أنها في نظرتها للدولة وللأمير أو الخليفة أو الإمام  تستعير المذهب الشيعي الذي يرى أن الخلافة أو الإمامة جزء من العقيدة، والذي يسقطها لأي سبب وبأي مبرر فإنه يسقط مكونا من مكونات العقيدة الاسلامية، إنها عندهم بمكانة الصلاة والزكاة والصيام والحج، وقد تتفوق لديهم في الأهمية.

ولا تستوعب هذه الجماعات أن السلطة والحكم عند أهل السنة من الفروع، ولا تستوعب أن الإسلام لم يأت بنظام حكم، لكنه وفر للمسلمين سمات عامة يقيمون عليها نظامهم، وأن المسلمين بنوا استنادا إلى هذه السمات نظامهم الخاص، وأن ما بناه المسلمون منذ اللحظة الأولى كان اجتهادا منهم وليس دينا، يحقق مصلحة المسلمين في  تلك المرحلة.

ولا تتوقف هذه الجماعات عند معنى غياب الشورى عن النظام الإسلامي على الأقل منذ العصر الأموي، وكذلك غياب العدل الاجتماعي وهما سمتان من أهم سمات الدولة الاسلامية.

6- وفي إطار نظرتهم هذه فإننا أمام جماعات عقدية، ذات مشاريع سياسية؛ لذلك هي جماعات مقاتلة من الطراز الأول، تتقدم الصفوف، ويبغي أفرادها الشهادة وهم صادقون في السعي إليها، كذلك هي ـ في الغالب ـ ملتزمة بسلوك وأخلاقيات معينة، وهذا يفسر امتناع هؤلاء في علاقاتهم مع الناس عموما عن ارتكاب الموبقات التي ترتكبها قوات النظام السوري وشبيحته.

7- قد يحلو للبعض الحديث عن ارتباط هذه الجماعات بقوى غربية، وهو حديث لا مصداقية له، ذلك أن استهداف هذه الجماعات من قبل الولايات المتحدة والمجتمعات الغربية أمر لا يحتاج إلى دليل، واعتبارها حركات إرهابية واضح ويتأكد في كل حين.

نحن نعلم أن الولايات المتحدة والمخابرات المركزية الأمريكية كانت وراء تسليح وتدريب حركة المجاهدين الأفغان، وهي الحركة التي خرج من رحمها تنظيم القاعدة، وكل التنظيمات الجهادية اللاحقة، لكن القول بعمالة هذه التنظيمات يدل على تبسيط شديد في فهم هذه الظاهرة وفقر شديد في فهم أثر العقائد في تكوين الجماعات الجهادية، وهو فقر وقعت به العديد من النظم العربية والغربية حينما عمدت إلى استغلال أثر الاسلام والعقيدة في نفوس الشباب المسلم لتحقيق مآربها في افغانستان، ولعلها لم تدرك أنها بذلك تطلق طاقة ليس في مقدورها ضبطها أو ترويضها، خصوصا وأن هذه النظم العربية والغربية هي في الحقيقة العائق الرئيسي أمام تقدم الأمة، والمصدر الرئيسي لاستغلالها وتخلفها وبؤسها، أي أن سيف الجهاد الذي سلته في افغانستان كان طبيعيا أن يرتد إليها في وقت لا يتأخر، وفي أماكن لم تتوقعها، وهكذا كان.

8- إن قاعدة العمل التي تحكم كل المنظمات الإسلامية الجهادية قاعدة بسيطة وخطرة بآن، فكل هذه الجماعات لا مرجعية لها إلا نفسها ورؤاها، وحينما ننظر إلى بنيتها القائمة على إعطاء الولاء للأمير فإن هذا الأمير يصبح هو المرجع، ويصبح فهمه هو الملزم، وتصبح سلطته هي السلطة.

9- قد يظن البعض أن مصادر التشريع القطعية في الاسلام  والممثلة في القرآن والسنة، هي مرجعية هذه الجماعات، وبالتأكيد فإنها جميعا تعلن التزامها بالقرآن والسنة، لكن مع ذلك فإن هذا الإعلان لا يعبر عن الحقيقة. إن القرآن والسنة لا ينطقان، من ينطق هم الرجال، والقرآن والسنة لا سيف عندهما لكن السيف بيد الرجال، وحين يعتقد البعض أنه الوحيد الذي يفهم الإسلام، وأنه الوحيد الذي يمثله، نكون أمام حالة كحالة هذه التنظيمات. ولأن هذا الاعتقاد غير سوي، ولا يتسق مع الطبيعة الإنسانية في الاختلاف التي ثبتها القرآن وأكد أنها من سنن الاجتماع الانساني، فإن التعدد والاختلاف سمة في هذه الجماعات، كل يدعي الحق والحقيقة لديه، وكل يملك القدرة على التضحية بالغالي والنفيس في سبيل اثبات هذه الأحقية، وكل يحسب أن في ذلك تقربا الى الله ونيلا لرضوانه.

10- وقد يحلو للبعض الإشارة إلى مساهمة مسلمين من أماكن مختلفة من العالم في القتال إلى جانب هذه الجماعات، باعتبارها مظهرا من مظاهر الوجود الأجنبي في قلب هذه الجماعات، وقد ثبت مشاركة متطوعين مسلمين من الشرق والغرب، من روسيا وأوربا والولايات المتحدة في القتال الدائر في سوريا. وقد يذهب البعض إلى إطلاق صفة المرتزقة على هؤلاء، وهذا وذاك لا نصيب له من الحقيقة، وإن كان ينطلق من اقتناع فإنه دل علي خلل وتردي في الرؤية والمعرفة.

إن هؤلاء الأجانب يأتون بدافع العقيدة، وليقينهم أنهم ذاهبون الى أرض الجهاد، وأنهم ساعون إلى شهادة تدخلهم جنات النعيم، وتمثل هذه المشاركة عنصر قوة لهذه الجماعات، وعنصر قوة لفكرة الجهاد الإسلامية إن أحسن التعامل معها، وهي في كل الأحوال ترسم المساحة الواسعة لتأثير الاسلام، ولقوته الكامنة في مختلف أصقاع الأرض.

11- وأمر هذه التنظيمات الجهادية ليس بجديد، فأصولها جميعا ترجع إلى حركة الخوارج التي ضربت عرض الحائط برأي علماء الأمة في أزمتها الخانقة التي عبر عنها الصراع بين الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب، ووالي الشام معاوية بن أبي سفيان، وجعلت من نفسها الحكم في تقرير ما يجري وفي تحديد جهة الصواب، حتى وصل بها الأمر الى إقرار قتل من اعتقدت أنهم سبب هذه الأزمة وعناوينها: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ،ومعاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري.

وكان الخوارج عباد زهاد، ترى أثر العبادة في جباههم وجلودهم وأطرافهم، لكن في معاركهم سالت دماء غزيرة ليس لها أي مبرر إلا قناعتهم أنهم مرجع الحق والصواب وأنهم الناطقون باسم الإسلام والعارفون لمقاصده ودروبه، وأن سبيلهم هذا سبيل  الجنة انتصروا فيه أم هزموا، ولو أنهم عرفوا أن هذه الخلافات مردها اختلاف في الإجتهاد، وأنها اختلافات في الفروع، وليس في الأصول والعقائد، لو عرفوا ذلك ما استحلوا دماء المسلمين وقادتهم، وفي المقدمة منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

12- يبقى أن نشير هنا الى أن هذه الجماعات حزبت الإسلام، وصار لكل منها  أميره، وشرعيته، بل ومحاكمه وأحكامه في المناطق التي سيطر عليها، وله طريقه إلى رضوان الله، وهذا مناف لأصول الدين، ومتعارض مع فكرة وحدة الدين الإسلامي، حيث لا ينقسم الدين بين الجماعات والأحزاب، ولا تتعدد الشرعية الدينية بين القيادات أو حتى الفقهاء، وما فقهاء الأمة إلا مدارس في فهم الدين، كلما عرف المسلم مزيدا منها تفهم أكثر دينه، وعرف أكثر واجباته وفروضه، واتسق أكثر مع مقصود شريعته.

الحزبية في الدين ممنوعة، لكن الحزبية بين المسلمين وفي مجتمعهم طبيعية، يختلفون في طريقة فهمهم لإعمار مجتمعهم، وطبيعة إدراكهم لأولويات ذلك، وطريقة تعاملهم مع المتغيرات الانسانية والعلمية والحضارية، وكل ذلك ينعكس أو يجب أن ينعكس في برامجهم السياسية والتنموية. أي أن الخلاف الطبيعي داخل مجتمع المسلمين هو خلاف برامج لا خلاف عقائد، خلاف يتيح الصراع و الاختلاف السياسي، ويمنع الصراع العقدي، خلاف يبيح النقد ويمنع التكفير.

الموقف من النصرة ونظائرها:

بعد هذا التوصيف العملي والنظري لكل الجماعات العاملة في هذا الإطار والتي أطلقنا عليها جوازا اسم النصرة، لابد من توضيح الموقف منها.

 إننا  نقف على النقيض من عموم هذه الحركات لأربعة أسباب تتداخل فيها الجوانب السياسية والحركية والعقدية، ونبسطها بتكثيف شديد في التالي:

** السبب الأول: أننا أصحاب مشروع مغاير يرى كل إنجاز حضاري مرتبط بتحقيق الوحدة القومية، وممتنع عن التحقق إلا في إطار السعي لبلوغ هذه الوحدة، ويلتزم هذه الرؤية باعتبارها سنة اجتماعية في هذا العصر،  لا يقتصر عملها على المجتمع العربي وحده، إنما تحكم حركة المجتمعات الإنسانية كلها، وتربط الانتقال إلى أشكال من الإتحاد أو الاندماج أعلى من الوجود القومي  بتحقق الوجود القومي أولا، وشواهدنا المعاصرة على دقة هذه السنة الاجتماعية عديدة، بل إننا لا نرصد استثناء من ذلك.

من هنا فإننا نرى أن أي دعوة لتجاوز الإطار القومي هي دعوة في أحسن الأحوال مضيعة للوقت والجهد، تصرف جهود الأمة وشبابها إلى غير السبيل المنتج، وتضيع على هذه الأمة فرصا تاريخية قد يصعب تكرارها، وتقدم بذلك عونا حقيقيا للقوى التي ترتبط مصالحها ببقاء هذه الأمة خارج سياق التقدم التاريخي: مجزأة ومتخلفة.

** السبب الثاني: أننا في منهج الصراع نختلف مع هذه الجماعات في جانب ونتفق معهم في جانب آخر، لأننا نختلف في توصيف الصراع وعناصره، نحن نرى أن صراعات ومعارك القوى السياسية تنقسم الى قسمين رئيسيين: صراعات داخل المجتمع، حول البرامج والرؤى وطرق التغيير، وأخرى مع القوى الأجنبية التي تغزو ديارنا، وتحتل أرضنا وتستخدم القوة في علاقاتها معنا.

ونحن في النوع الأول من الصراعات نعتمد كقاعدة أساسية تحريم استخدام القوة وندينه من أي طرف جاء، ونحرم استخدام فكرة التكفير من جانب أي قوة سياسية في هذا الصراع، ونلتزم قيم الحوار وأساليبه في إدارة كل الخلافات الداخلية، وحتى في حالة صراعنا مع النظام الاستبدادي الظالم فإننا اعتمدنا الأسلوب السلمي في المطالبة بالتغيير ولم نلجأ إلى المقاومة المسلحة إلا عندما فرضت علينا دفاعاً عن النفس وطلباً لحقوق الشعب في حكم ديموقراطي رشيد.

ونحن في النوع الثاني من الصراعات نعتمد كقاعدة أساسية مواجهة الغزاة والمعتدين بالقوة، وندعوا إلى جهادهم بكل الوسائل، ونلتزم مفهوم المقاومة المسلحة كقاعدة رئيسية في التعامل مع الغزاة والمحتلين والمعتدين، لذلك نحن مع مقاومة العدو الصهيوني بكل الوسائل، ومع مقاومة الاحتلال الأمريكي الغربي للعراق، والاحتلال الغربي لأفغانستان، والتدخل العسكري الأجنبي في الصومال ... الخ، ونحن ضد دعوات التدخل العسكري الغربي وغير الغربي في سورية، وإن كنا نطالب المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته في إغاثة الشعب السوري المنكوب والوقوف معه في صراعه ضد نظام يمارس عليه القتل والتدمير. 

أما هذه القوى الجهادية فليس لديها هذا التفريق، إذ تتعامل مع الكل باعتبارهم أعداء كفرة، وتقرر المواجهة العسكرية أو الامتناع عنها وفقا لتوفر القدرة لديها، وما تراه من ظرف مناسب، ولقد كانت منذ الغزو الأمريكي للعراق وحتى أشهر مضت من انطلاق الثورة السورية ترى بلاد الشام أرض ممر وقواعد خلفية لحركتها وجهادها في العراق، وليست أرض معركة وجهاد، وبقيت لفترة طويلة تنطلق من سوريا إلى العراق لممارسة جهادها تحت علم ومعرفة وتشجيع وتسهيل من المخابرات السورية.

** السبب الثالث: أننا ننظر الى الاسلام الدين والعقيدة باعتباره كلا واحدا، لا نقبل أن نمذهبه، ولا نرضى أن نطيفه، ولا نسوغ أن نستخدمه ستارا في للخلافات والصراعات السياسية والاجتماعية. فلا مذاهب في الاسلام " العقيدة والدين " ولا طوائف، وكل المذاهب الاسلامية هي مجرد مدارس لفهم الفقه الإسلامي، وللتعرف الصحيح على جوانبه العملية التي تحكم حياة المسلم، واختلاف هذه المذاهب يثري هذه الحياة ولا يحجرها، ويوسع رؤية المسلم لأمور دينه ودنياه ولا يقصرها، وحتى اختلاف المتكلمة في شؤون العقيدة فإننا نراه من قبيل وجهات النظر التي تعبر عن القائلين بها، وليس من قبيل الحقائق القطعية التي أرادها الله، ولا تأثير لها في الحكم على عقيدة المسلم وإيمانه، وبالتالي هي أيضا تدخل في نطاق اغناء الفكر الاسلامي وزيادة ثرائه، ولذلك نحن ننظر الى الخلافات بين المذاهب والطوائف الاسلامية باعتبارها أثرا من آثار الصراعات السياسية التاريخية، وأن نصيبها من العقيدة والدين ضئيل جدا.

إن ما نقوله هنا لا يعني  أننا لا ندرك أثر الانقسام الطائفي والمذهبي في تاريخنا أو في حاضرنا، ولا أننا ندير ظهرنا لخطورة هذا الانقسام وويلاته، لكنه يعني بدقة أننا نعتبر هذا الانقسام، والصراع الناجم عنه حالة مرضية مرت وتمر بها الأمة جميعها، وأننا نرى أن الاستناد الى هذا الانقسام في إدارة الصراع والحركة داخل الأمة خطيئة لا يجوز الإقدام على ارتكابها، لأنها إذ تصيب مجتمع المسلمين، فإنها كذلك تقدم صورة خاطئة ومشوهة عن الاسلام نفسه، ونشير في هذا الصدد الى مآسي التي خلفها هذا الصراع على  مدى تاريخنا كله، وما أريقت على جنباته من دماء غزيرة، ونتمسك بموقفنا هذا ولو جاء فعل الآخرين طائفيا أو مذهبيا، وذلك انسجاماً مع الموقف الاسلامي الأصيل الذي سطره القرآن الكريم: " ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى".

** السبب الرابع: أننا ندعو إلى نظام ديموقراطي تتحقق فيه إرادة الناس ويكون الناس في المجتمع عماد كل شيء، ومرجع كل شيء، منهم تصدر السلطات، وإليهم ترجع المسؤوليات، نظام مواطنة يتساوى فيه الجميع أمام القانون في الحقوق والواجبات، نظام يحدد الناس فلسفته وأسسه، ويقيننا أن هذا النظام يمثل صلب الفهم الإسلامي لبناء المجتمعات، ويوفر للمجتمع كل ما يتطلع إليه، وفي المقدمة تطور اجتماعي وسياسي واقتصادي يتوافق مع عقيدته، ولا صلة لمثل هذا الفهم بالعلمانية، حتى لو ظهر أن هناك تشابها في مظاهر معينة أو في أسس وهياكل محددة، ذلك أن الأخيرة هي في الأساس موقف فلسفي من الكون والوجود قبل أن تكون موقفا سياسيا أو إجتماعيا، هي موقف في الجوهر، وليس في الأدوات والوسائل.

هذه الأسباب مجتمعة إذ تضعنا على النقيض من هذه الحركات، فإنها هي نفسها تفرض علينا البحث عن سبل للحوار والعمل وفق القانون مع هذه الجماعات، حتى لو كان الطريق إلى ذلك شاقا، طويلا، ومحفوفا بالمخاطر، وقد يسقط فيه ضحايا كثر. لكن ما يغري بالأخذ به أن البيئة التي سمحت بنمو هذه الجماعات في سوريا هي بيئة الظلم والقتل والتعدي على الحرمات إلى حدود الفحش، والفساد إلى حدود تواطؤ أصحاب السلطة على اعتباره وسيلة من وسائل السيطرة الاجتماعية، والسياسية، والتمييز الذي تفوح منه بشدة ريح الطائفية النتنة. وأن أي تصور لنظام جديد في سوريا يجب أن يستهدف بناء بيئة أخرى مناقضة لهذه البيئة ومكوناتها، بيئة صحية من شأنها أن تجفف منابع هذه الجماعات وتقوم أفكارها وتعيدها الى طريق أقرب إلى الإسلام، وفي إطار هذه البيئة الجديدة فإن التعامل مع هذه الجماعات سيحكمه القانون شدة ولينا.

إن قوى عديدة في المقدمة منها النظام وحلفاؤه والدول الغربية تريد أن يتحول التناقض مع هذه الجماعات إلى صراع داخلي على الفور، بدعوى ضرورة التصدي للجماعات الإرهابية، وهي تغري الأطراف الأخرى في الثورة السورية بالإسراع في فتح هذه المعركة، وتربط الكثير من مواقفها تجاه قوى الثورة السورية بتحقيق هذا الهدف، لكن ذلك كله في التحليل الأخير لا يستهدف خير هذا الشعب، ولا مستقبله، ويقدم ـ إذا ما حصل ـ دعما لا حدود له للنظام القائم.