هل تتحول السياسة السعودية حول سورية من الدفاع إلى الهجوم ؟

هل تتحول السياسة السعودية حول سورية

من الدفاع إلى الهجوم ؟

وليد جداع

لم تعرف السياسة الخارجية السعودية عبر عقود طويلة، إلا بأنها سياسة (محافظة) في مجملها، لا تميل إلى التصعيد أو الهجوم، وتفضل العمل الهادئ المتدرج في معالجة الأزمات والمشكلات التي تواجهها مباشرة أو من بعيد. وفي مسألة العلاقة مع حكام سورية بالذات ، فإن هذه السياسة التي التزمت التعاون الهادئ مع حافظ الأسد سابقا، في أزمات قوية جدا ، مثل الحرب العراقية الإيرانية والغزو العراقي للكويت. وكررت ذلك مع خلفه بشار الأسد لاحقا، في أزمات مشابهة مثل الغزو الأمريكي للعراق ، والحرب بين حزب الله وإسرائيل في لبنان. هذه السياسة تجد نفسها اليوم أمام ضروة استثنائية لمراجعة سياساتها المحافظة تلك جملة واحدة، بسبب واحد مباشر هو تفجر الأزمة السورية، ودخول حزب الله وإيران على خط هذه الأزمة، بالتورط العسكري وغير العسكري دون حدود في دعم بشار الأسد. ولعل الإعلام السعودي الرسمي وغير الرسمي، ومناقشات الأكاديميين السعوديين والكتاب والصحفيين في مناقشة الأزمة السورية، من جانب علاقتها أو تأثيراتها المتبادلة مع مصالح المملكة العربية السعودية إيجابا أوسلبا، يدل على عمق الاهتمام بالأزمة السورية، وتبوئها مكان الصدارة في اهتمام الحكومة والرأي العام السعوديين. إن حقيقة أن الشعب السعودي ونخبه الثقافية والسياسية معنية مباشرة بالأزمة السورية أضحت حقيقة واقعة.

ولعل أبرز تصريح بهذا الشأن ،على قدمه نسبيا، ما أعلنه الأمير سعود الفيصل منذ زمن بعيد بأن تسليح المعارضة السورية أمر جيد. وهو تصريح لافت ومختلف حقا عن المألوف في التصريحات الرسمية. ولكن هذا التصريح بقي منفردا ووحيدا تقريبا، ولم يتبع بتصريحات مباشرة، تؤكد دعم المعارضة السورية العسكرية علنا، مما يشي بخطورة الاندفاع في المسألة السورية وتداعياتها. والحقيقة أن موقف الأمير سعود الفيصل المعلن والمتكرر من الأزمة السورية، مع مواقف أخرى رسمية وشعبية، يدل على جدية المملكة في التعاطي مع المسألة السورية، بغض النظر عن ذاك التصريح اليتيم بضرورة تسليح المعارضة السورية. إن مواقف الوزير الفيصل القوية ، ومواقف الحكومة السعوية تجاه التنديد بالمجازر في سورية ، تدل على تجاوز ملحوظ للسياسات المحافظة التي دأبت المملكة على الالتزام بها. ولكن السؤال الأهم هو" هل تنتقل المملكة من موقف المندد ببشار الأسد وإيران ، بشكل دفاعي ، والداعم للمعارضة السورية، بشكل دفاعي أيضا، إلى مرحلة الهجوم المباشر وأخذ زمام المبادرة في تحالف عربي وإسلامي ودولي، يواجه هذا التحالف الدموي التدميري الذي تقوده روسيا وإيران وحزب الله والعراق ، وينذر باجتياح سورية وجعلها منصة أخرى من منصات تفتيت العالم الإسلامي وتدميره، عبر أدوات إيرانية ، وضغوط غربية، تكبح جماح أي تحرك عربي لصالح دعم المعارضة السورية والشعب السوري في محنته الرهيبة؟

والحقيقة فلسنا نحن فقط من يتمنى موقفا أقوى للمملكة تجاه الأزمة السورية. ولسنا نحن فقط الذين نرغب في رؤية موقف عربي إسلامي دولي تقوده المملكة العربية السعودية خاصة ، وليس الولايات المتحدة أو الغرب ، من أجل نصرة الشعب السوري، والانتقال من السياسات المحافظة إلى السياسات الهجومية . بل هوموقف ملحوظ في الرأي العام السعودي وفي نخب سعودية، تحس بخطر التمدد الإيراني الرهيب في المنطقة، وترى أن هذا الخطر حقيقي ومباشر، وإن كانت ساحته القتالية هي سورية اليوم.. وهو يهدد المملكة العربية السعودية نفسها في أمنها واستقرارها... وعلى سبيل المثال فقط فإن أحد الأكاديميين والكتاب المرموقين في المملكة، وهو الدكتور دخيل الدخيل، كتب مقالات عدة بهذا الشأن أهمها دعوته إلى تجاوز السياسات التي وضع أسسها الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. وهي سياسات وضعت قبل نصف قرن كما وصفها، ولا يمكن الاستمرار بها في مطلع القرن الواحد والعشرين ومتغيراته الكبيرة كما قال.

إن مجمل التحليلات الأكاديمية ومقالات كتاب الرأي في السعودية، ترى أن سعي إيران إلى تسيد المنطقة إقليميا، والهيمنة عليها، يتم بوتيرة عالية جدا، وبتكثيف شديد ، عبر بناء قوة عسكرية جبارة أولا، وعبرالهيمنة على مناطق نفوذ إقليمية ثانيا، حتى لو كان ذلك على حساب الاقتصاد الإيراني. وإن هذا التوسع أوالتمدد سيصطدم دون شك بقوى إقليمية ثلاث هي المملكة العربية السعودية ومصر وتركية. لكن المملكة هي القلب من هذا التحدي لأنها الأقرب جغرافيا من إيران، ومن أدوات إيران أو حلفائها مثل سورية والعراق ولبنان. ولذا فإن السياسة الإيرانية التي قد لا تتوجه نحو المملكة مباشرة ، تتوجه نحو الأطراف التي تحيط بالمملكة، لإنهاكها من قبل هذه الأطراف. وهنا نرى أمامنا مباشرة البحرين واليمن والعراق والأردن ، وبطبيعة الحال سورية. وهي كلها مناطق أصبحت مناطق لعب خطير للسياسات الإيرانية ، تقوض من خلالها مصالح المملكة. ولا بد لاكتمال الصورة من استحضار المواقف الغربية، التي ، وإن كانت تقلديا حليفة للملكة العربية السعودية وصديقة لها، إلا أن من الواضح أن هذه المواقف تنسق بتواطئ رهيب مع إيران ، لتكون قوة إقليمية تهدد مصالح الخليج العربي كله. إن طريقة تعامل الغرب مع الملف النووي الإيراني حيث هو غزل ناعم وعشق خفي ، عبر مفاوضات (أخوية) لا تنتهي ، مقارنة بطريقة تعاطي الغرب نفسه مع الملف النووي العراقي سابقا، ومع القوة العسكرية العراقية عموما في عهد صدام حسين، لا تشير إلا إلى حقيقة أن الغرب يدير مع إيران عملية تواطئ وتفاهم باطني ، ترسخ موقع إيران الإقليمي كقوة أولى. وعلى شاكلة ذلك، فإن الموقف المتواطئ والمتذاكي بين الغرب وجماعة بشار الأسد، لا يختلف أبدا عن ذاك الموقف من الملف النووي الإيراني، فالسياسات الغربية في نهاياتها وحقائقها على الأرض، لا تمثل إلا تمكينا للحلف الإجرامي بين روسيا وإيران وحزب الله وبشار الأسد.

وعودا إلى سياسات المملكة تجاه الأزمة السورية، فإن الانتقال من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، هو في الحقيقة دفاع استباقي عن المملكة نفسها. إن انتصارا صغيرا محدودا، إعلاميا أكثر منه حقيقة، لحزب الله في القصير، أنبأ عن الطريقة التي سيسلكها مثل هذا الحزب وحلفاؤه، في أية معركة قادمة! لقد بدا أن قصف هذه المدينة الصغيرة بالصواريخ والطائرات والدبابات وكل الأسلحة الثقيلة، ثم اجتياحها وقتل أهلها وتشريدهم دون تمييز ، وكل ما يتصور من فظائع يندى لها الجبين، هو مصير أي مدينة أو قرية أو بلد تشق عصا الطاعة عن الأسد أو حزب الله أو إيران، أو من تحالفاتهم. لذا فإن المبادرة إلى تحصين المملكة وتحصين المنطقة العربية كلها في وجه الهيمنة الإيرانية القادمة، أفضل سبيل لمواجهة مصائر مرعبة!

لا شك أن المملكة لديها من سياسييها وخبرائها، ما ينبغي أن يوحي بالاطمئنان إلى حسن تدبيرها لأمورها. غير أن الواقع الفعلي وما يجري على الساحات الفعلية للمعارك، لا يؤكد أن السياسة السعودية قد تجاوزت سياساتها المحافظة بالقوة المطلوبة! إن المملكة فيما يبدو تحتاج إلى ماكينة أقوى سياسيا وإعلاميا وعسكريا أيضا بل أساسا، في ساحات المعارك الي يخوضها السوريون!

إن أول وسيلة تحصن بها المملكة نفسها من الهجوم الإيراني عبر دمشق وحزب الله، هو بناء تحالف عربي إسلامي عريض، يقف في وجه الهجوم الإيراني، لصده وامتصاص اندفاعته ، ثم تطويق إيران نفسها والهجوم عليها من مناطقها الرخوة ومكامن الضعف فيها ، وهي مناطق كثيرة، وتؤدي إلى إقلاق القيادة الإيرانية وانكفائها إلى حالة الدفاع ! إن الجوار العربي الإسلامي للملكة ، ومعظم أرجاء العالم الإسلامي من بعد، أصبحت تحس بخطر (إيران الصهيوني) دون أية مبالغة! وإن قيام المملكة بتنشيط هذا التحالف وترسيخ قواعده، سيلقى استجابة عربية إسلامية قوية. وكما لاحظ كثيرون فإن معركة القصير، فتحت عيون العرب والمسلمين على خطورة المشروعات الإيرانية، على الرغم من الأسى الشعبي الذي رافقها بسبب تمكن حزب الله وقوات الأسد من السيطرة عليها. وهذا الإدراك لخطورة الموقف الإيراني، يصب في صالح المملكة عند عزمها على صناعة تحالف عربي إسلامي مواجه للمشروع الإيراني.

وما يؤكد هذه الاستجابة المتوقعة، أن الشعوب العربية الإسلامية متنبهة هي الأخرى للخطر الإيراني. بل إن الشعوب العربية والإسلامية أضحت هي ذاتها قلقة من خطورة التمدد الإيراني، خوفها تماما من المشروع الصهيوني الاستيطاني! إن الإدراك الرسمي والشعبي لخطورة المشروعين الإيراني والصهيونين الحليفين بقصد أو غير قصد، يصب في صالح أي مشروع عربي إسلامي تقوده المملكة.

وكما يشير معظم المحللين السياسيين، فإن جهودا كبيرة يجب أن تبذل لتحقيق تعاون أفضل ، بل تحالف كبير وفعال مع مصر وتركية! إن على القيادات المصرية أن تتخلى عن سياساتها (الضبابية) تجاه سورية وإيران معا! إن المشرق العربي كان دائما دريئة لمصر، كما كانت مصر مددا وتمكينا دائمين للمشرق العربي في وجه الاجتياحات بأنواعها.

لكن أفضل ما يمكن للمملكة أن تفعله، وهو أمر سيكون مكلفا جدا ، وخطيرا دون شك، هو دعم الشعب السوري ومعارضاته ، دعما عسكريا وماليا وإنسانيا مكشوفا واضحا غير مستتر، يرفع من عزيمة الشعب السوري ويشد من أزره.

إنها لحقيقة مؤلمة، أن الشعب السوري، مع إدراكه الجلي لدور المملكة في دعم جهاده وكفاحه في معركة الحرية والكرامة، ووقوف الشعب السعودي بقوة معه في مواجهة تحالف دموي تدميري.. إن هذا الشعب يشعر بأنه ترك وحيدا مرات كثيرة في مواجهة هذا الحلف، وأن حجم الدعم الذي يلقاه من أشقائه العرب والمسلمين، قد لا يسعفه في الاستمرار لأوقات طويلة، وقد يكلفه هذا التخلي عنه ،ضحايا أكثر مما دفع، واستنزافا لموارده وجهوده أكبر مما يتصور.

إن المملكة كانت الداعم الرئيسي لجهود سورية في التخلص من أعباء هزيمة حزيران 1967 المدوية، مع أن القيادة السورية آنذاك كانت عدوا (مستترا) للمملكة. وإن الدعم العربي والسعودي منه خاصة، كان الرافد المالي الأساسي لسورية ومصر في حرب تشرين الأول 1973، التي استغلها حافظ الأسد أفضل استغلال ليتخلص بها من عار هزيمة 1967 التي يتحمل هو ورفاقه وزرها الرئيسي. وكل ذلك موقف سعودي خليجي محق، يرى في صمود سورية ومصر في وجه الأطماع الصهيونية ، دفاعا عن المملكة نفسها أيضا. ولكن موقفا قويا جدا من المملكة اليوم في قيام تحالف مباشر مع قوى الشعب السوري المجاهدة من أجل الحرية، أمر لا يقل أهمية وخطورة في نتائجه عن موقف المملكة في حربي حزيران 1967 وتشرين الأول 1973، بل هو أولى وأحق لأنه نصرة لشعب مجاهد مناضل، يدفع عن نفسه وأمته العربية والإسلامية الموت والدمار.

إن انتقال المملكة العربية السعودية في موقفها من الأزمة السورية من الدفاع إلى الهجوم، مشفوعا بتحالف عربي إسلامي دولي قوي، تقوده المملكة، سيحول مسار المواجهات على الأرض السورية لصالح الشعب السوري ضد نظام الطغيان وحلفائه من حزب الله. وهو سيضطر قوى أخرى داعمة لبشار الأسد على إعادة النظر بمواقفها ، وسيصب ذلك كله في صالح المملكة وصالح الشعوب العربية والإسلامية كلها، في نهاية المطاف.