القصة الكاملة لاستعصاء صيدنايا

هروب السجان وسيطرة السجناء

مسار للتقارير والدراسات - 4 أيار 2013

خلال الشهور الثلاثة التي تلت المشكلة الأولى في 23 / آذار ساد الهدوء أجواء السجن، وتحسنت معاملة السجناء من قبل الشرطة العسكرية، وترافق ذلك مع ارتفاع ثقة السجناء بأنفسهم وبقدرتهم على حفظ كرامتهم داخل السجن، معتبرين من التجربة السابقة ومستنتجين بأن الأدوات المعدنية التي بين أيديهم ذات قيمة كبيرة، إذ كان لها دور مؤثر في حمايتهم من هجمة الشرطة ورئيس السجن وأجبرتهم على الاستجابة إلى مطالبهم وتحسين معاملتهم، فشرع كل سجين بصناعة ما خف وزنه وغلا ثمنه وارتفعت قيمته بالنسبة له، إذ راح البعض يتخذ من الحديد المتاح في المهاجع من (شوفاجات، أدوات طعام، علب السردين وسائر المعلبات، أغطية الأنوار المعدنية وما شابه ذلك) راح يتخذ من ذلك سلاحا معدنيا حادا يخبئه تحت وسادته، ويدفع به عن نفسه إذا لزم الأمر.

كما فتح باب الزيارة الدورية لكل نزلاء السجن، محكومين وغير محكومين، هذا في الوقت الذي كان رئيس السجن العقيد علي خير بيك يحضر لعملية ترد الاعتبار له وللشرطة العسكرية التي تدير السجن، وتعيد الهيبة لعناصره الذين يتعاملون بشكل مباشر مع السجناء، فسارت الأمور بخير ما يتمنون إلى أن أطل عليهم فجر أحد أيام تموز صيف العام 2008، حينها أدوا صلاة الفجر كالعادة، ثم انصرف كل منهم إلى شأنه الخاص، بعضهم عاد إلى نومه، وبعضهم جلس يقضي بعض الوقت في أحاديث شتى، والبعض الآخر اشتغل بصنع الهدايا (كالسبحات والمنسوجات الصوفية وما شابه ذلك مما تتوفر مادته في السجن) لأفراد عائلته الذين يزورونه شهريا. فكانوا على هذه الهيئة بانتظار موعد تقديم طعام الفطور الذي يوزعه عناصر الشرطة، عادة، حوالي الساعة السابعة صباحا بالتزامن مع فتح أبواب المهاجع الموصدة، كل 10 مهاجع في جناح واحد، مستفيدين من ساعة واحدة يسمح لهم فيها بالخروج إلى ساحة "التنفس" حيث الهواء الطلق. ويبقى الجناح مفتوحة مهاجعه بعضها على بعض حتى موعد تسليم طعام الغداء حوالي الساعة 4 عصرا ليتم بعدها مباشرة إقفال أبواب الغرف حيث يعود كل سجين إلى مهجعه ومبيته.

لكن "التنفس" في ذلك اليوم المشهود 5 / تموز لم يجد طريقه إلى السجناء، فما إن حان موعد الإفطار بحدود الساعة 7 حتى سمعوا ضجيجا قادما من بداية الممر، وبعد دقائق تبين بأن عددا كبيرا من عناصر الشرطة العسكرية قدره البعض ب 200 عنصرا دخلوا إلى الممر وابتدؤوا بمعاقبة المهاجع الأقرب فالأقرب، يفتحون باب المهجع فيدخلون على السجناء ويضربونهم، (دولاب، قيد، وإهانات جسمية ونفسية) ويشددون الضرب والإهانة على من يشتبهون في تورطه في التمرد الأول بتاريخ 23/ آذار، واستمرت الشرطة العسكرية على هذا المنوال، وانتقلت في هذا الأسلوب المفاجئ والعقوبات المؤذية من مهجع إلى مهجع، وبالتزامن في معظم أجنحة الطابق الأول الست.

في ظل هذه المعمعة وفوضى المشاعر التي راودت السجناء في مهاجعهم المغلقة بإحكام بدا لهم أن يكرروا تجربة خرق الجدران واقتلاع الأبواب، معتبرين هذه التجربة أسهل من انتظار الموت القادم لا محالة، ومما عقد الموقف كذلك تعامل القوة العسكرية مع الفوضى التي عمت الأجنحة التي دخلتها كما تتعامل مع مظاهرة وجب قمعها وتفريقها، فأطلقوا القنابل المسيلة للدموع إلى داخل المهاجع عبر قضبان الأبواب التي كانت متباعدة بما يكفي لدخول تلك القنابل، الأمر الذي أدى إلى وقوع عدد لا بأس به من حالات الاختناق والإغماء بين صفوف السجناء.

وزاد الوضع سوء وحرجا تناقل الأخبار بين المهاجع والأجنحة وحتى الطوابق عبر الفتحات السماوية "المناور" مع بعض المبالغات والتهويلات التي دبت الذعر في نفوس السجناء، وحتمت عليهم تحمل مخاطرة الهروب المحكوم عليها مسبقا بالفشل، فبدأ السجناء من نزلاء الطوابق العلوية باقتلاع أبواب المهاجع، وقد نجح البعض في ذلك بالفعل، وقاموا بكسر أقفال أبواب المهاجع الأخرى، مندفعين جميعا نحو "المسدس"، وهي الساحة الوسطى بين أضلاع مبنى السجن الثلاثة، ونزلوا من السلم المتصل به بشكل مباشر، متوجهين نحو الطابق الأول، حيث كان القمع والضرب والتعذيب على أشده، وتزامن ذلك مع خرق الجدران الفاصلة بين المهاجع التي لم يصل إليها الدور بعد في بعض أجنحة الطابق الأول مسرح الأحداث الأساسي، ما وفر للسجناء ممرا سريعا عبروا جميعا من خلاله إلى أبعد مهجع من مكان وجود الشرطة وزبانية التعذيب، ثم اقتلعوا باب المهجع الذي تجمع فيه السجناء الهاربون وأقبلوا باتجاه الشرطة، فشعرت عناصرها التي قدرت بالمئات في مجمل الأجنحة التي دخلتها بأنها وقعت بين فكي كماشة، ودب الرعب في قلوبهم وزادهم رعبا أن رئيس السجن "علي خير بيك" هرب إلى منزله بجوار السجن على الفور، مصطحبا من استطاع من الضباط، وكان قريبا من باب الممر المؤدي إلى منزله، ثم أمر بعد ذلك بإغلاق أبواب المبنى بمن فيه من سجناء بلغ عددهم 1500 تقريبا، وعناصر شرطة عسكرية أساسيين وقوات مرسلة من قيادة الشرطة بلغ مجموعهم قرابة 1000، إضافة إلى 40 مساعدا أول، و 3 ضباط.

ألقى الجنود "العصي الكهربائية" و"القيود البلاستيكية" التي كانت بحوزتهم، محبطين من تصرف رئيس السجن ومعاونيه، ومستسسلمين للطوفان البشري الذي اجتاحهم من أكثر من جهة، فقام السجناء بإلقاء القبض على عناصر الشرطة والمساعدين والضباط الثلاثة وتقييدهم بالقيود البلاسكتيكية التي كانت بأيدي هؤلاء العناصر قبل قليل، واستولوا على عصيهم الكهربائية أيضا.

وهكذا أحكم السجناء السيطرة على السجن في طوابقه الثلاث من الداخل فقط، وفي الجزء الثالث سنتحدث عن أول الأمور التي فعلها السجناء وما تلا ذلك من أحداث.

إضغط هنا لقراءة الجزء الأول