هل نبتر الماضي.. أم نطوره لنستند عليه ؟؟..

عقاب يحيى

في واحدة من إشكاليات الذهن العربي عمليات القطع البتري مع الماضي كموقف قسري، آلي تنتجه ذهنيات قلقة تحت عناوين التطوير والتثوير والعصرنة، بينما يقول الواقع الموضوعي أن الحضارة الإنسانية حلقات متصلة : مرئية مباشرة، وغير مباشرة، وأن فعل التراكم حقيقة أكبر من الإرادوية لأنه منتج مجسّم في الزمان والمكان لجموع البشر في مرحلة ما قد تمتدّ قرونا، أو عقوداً . وأنه حتى الثورات الجذرية لم تقدر على فعل الاشتلاع، ولعل من أهم إخفاقاتها في التغيير الشامل أنها لم تع مفاعيل الواقع، وقوة المجسّم فيه وامتداداته في الوعي والعادات والثقافة، وفي عقول البشر وحياتهم وعلاقاتهم ..

 مع الثورة السورية العظيمة التي تولّد وعياً جديداً بالقطع، سيكون مختلفا عمّا سبقه تكثر الدعوات الحماسية للقطع الكامل مع الماضي : قريباً كان أم بعيداً، وفق تصور اندفاعي أنه بنيان استبدادي، ومنتج له، وأن الجديد مغاير ومختلف كلياً... ولا علاقة له بالأمس القريب والبعيد.. فتكثر الأفكار وتختلط في ما يشبه الموج الصاخب، وتجد من يريد نسف كل الماضي بخيره وشره بضربة واحدة هي تقريرية، احادية، ذاتية، ومبتسرة ..

 هكذا نجد مثلاً أن مدير مدرسة يعيّن حديثاً، وقبل أن يستوعب ويدرس ما فعله الذي كان قبله يعمل على شطبه، ومحو كل ما قام به ليترك بصمته الخاصة، فتعلو الذات وكأنها الصانعة، والبداية من الصفر، والبداية تجريبية خطيرة تعيد إنتاج نفسها في تواتر مقطوع، ومشوّه .

 وهكذا مثلاً تجد الآن عشرات المشاريع النظرية والسياسية عن الدولة القادمة، والمرحلة الانتقالية، والعدالة الانتقالية مرمية في الأرشفة رغم الجهد المبذول فيها، ولا أحد يرجع إليها وهو بصدد إنجاز مشابه حيث عقلية الأنا والبتر هي السائدة.. فتضاف مشاريع جديدة تتكدّس، ومثلها التشكيلات السياسية الجديدة التي تتشابه في الأسماء والرؤى والبرامج إلى درجة التطابق، ومع ذلك ينفي الواحد منها الآخر، ويرفض الاندماج أو العمل المجموعي طالما أن التشابه يصل التطابق، ورغم حشو شعارات التوحيد والتجميع ورفض التفتيت.. وغيره..

 في العام الماضي أنجزت المعارضة ـ في أهم لقاء لها ـ ما يعرف بوثائق القاهرة بعد جهد مضن للجنة التحضيرية استمر ثمانية عشر يوما، وتمّ التوافق عليها، لكنها ركنت جانباً وركلت . المجلس الوطني بدوره أنجز رؤية سياسية، ومجاميع ومؤسسات كثيرة بذلت جهوداً معتبرة في ما يعرف ب"اليوم التالي" والعدالة الانتقالية.. ومع ذلك عندما يريد الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة صياغة رؤيته السياسية، ومهام المرحلتين : الحالية والانتقالية، نراه ينشئ من جديد ما يعتقده إبداعه فيرفض الاستناد إلى المنجز وتطويره بما يتناسب وبعض التطورات والمقتضيات .......

 *******

نأتي إلى الأهم : سورية وهويتها . موقعها ودورها ومستقبلها . القضية الفلسطينية ومكانها . إسرائيل وشكل العلاقة معها . العلاقات الدولية وموقعها.. إلخ ..

ففي ردة فعل واضحة على موبقات النظام الاستبدادي، الفئوي، الدجال.. الذي فرّغ الشعارات من محتواها، والذي خان أماني وقضايا الأمة، وداس على المقدسات بعنجهية المقايضة والسمسرة والدولة الأمنية التي أقام ..تجد من يرفض أن تكون سورية عربية، أو أن تنتمي لجوهرها : الأمة والوطن ويعتبر ذلك تخلفاً، أو نتاجاً للاستبداد ومنظوماته . أكثر من ذلك، ولأن كان مفهوماً أن يصبح البعث ـ عبر تعهيره ـ عنواناً لكل الموبقات، وممسحة لكل الممارسات الفظيعة التي ارتكبت باسمه، فإن الإتيان بذكر، ولو عام للقومية العربية يثير حفيظة الكثيرين، بينما ـ على سبيل المثال ـ لا مانع من الحديث عن القومية الكردية وحقوقها، والتركمانية ومطالبها، والآثورية الآشورية ومكانتها وتاريخيتها.. بكل موج الابتزاز أحياناً، والمبالغات، والمزاودات من قبل البعض للظهور بالمظهر المتفتح، المتطور، العصري ..

ـ الأكيد أن مفاهيم القومية العربية بصيغها السابقة، وحتى بعيداً عن أوابق النظام الطائفي، القمعي، الأمني.. تحتاج إلى مراجعة جذرية تتوافق والحقائق الثابتة من جهة، والتطورات العملية من جهة ثانية، وموقع الديمقراطية ومداليلها من جهة ثالثة، بعيداً عن التعصب، والعنصرية"الشوفينية" والذات القومية المصنّعة لتصبح الهوية العامة لشعب في أغلبيته عربي، ومسلم، وبما لا يتناقض أبداً مع منح الجميع حقوقهم المتساوية، بما في ذلك الحقوق الخاصة في اللغة والثقافة وغيرها، لكن على قاعدة الانتماء لبلد واحد، وهوية واحدة، ودولة واحدة .

إن الهروب من تحديد هوية بلدنا العريق سورية بأنه عربي، وينتمي للأمة العربية بمفهومها العصري، الديمقراطي، التعددي، التناغمي لا يلغي الحقيقة، بل هو قفز في فراغ الاستجابة لوافد لن يستقيم طويلاً . والأمر نفسه ينسحب على الموقف من القضية الفلسطينية، والكيان الصهيوني والعلاقة معه . إننا لسنا دعاة حرب، وليس بمقدورنا أصلاً خوض حروب غير مدروسة، حروب شعارية ولفظية، وهوائية، لكن لفلسطين موقعها العزيز في قلوب جميع السوريين، وهي جزء لصيق في شخصيتهم ووعيهم وتركيبهم وثقافتهم. أكثر من ذلك فالمشروع الصهيوني الغازي، التوسعي، التخريبي يستهدف الأمة كلها، وفي المقدمة منها سورية.. شئنا ذلك واعترفنا، أم هربنا ووضعنا رؤوسنا في رمال التلاؤم مع الاشتراطات الدولية. وبالتالي لا يمكن لسورية الحالية، وسورية الدولة المدنية الديمقراطية التعددية أن تكون عدمية، وبلا جذور، وغير معنية بفلسطين، وبالصراع العربي ـ الصهيوني... بغض النظر عن وسائل ممارسة الفعل السياسي، أو غيره وفقاً لموازين قوى يجب معرفتها بدقة، وإنتاج عاملها الذاتي في كل موقف وتطور .

ـ والجولان أرض سورية لا يمكن نسيان ذلك، ولا تجاهل حقنا الطبيعي باستردادها بالوسائل التي تحقق ذلك، وكذا حالة الإسكندرونة التي يخجل كثير المعارضين بالإتيان على ذكرها لحراجة الأمر وعلاقته بالعلاقة مع تركيا وحاجة الثورة الكبيرة لدعمها .

ـ نعم علينا أن نطور أدواتنا المعرفية، وأن نجري مراجعات شاملة لمنظومة أفكارنا السابقة بما يجعلها متوائمة مع جوهر التطورات، وبما يضعها في موقع القابلية من الواقع ومن أجيال الشباب، وهذا يختلف عن عمليات البتر والقطع والشلع والخلع وكأننا أمة بلا تاريخ، وبلا تراكم، وبلا ثقافة.