عصر المسح والإلغاء!

أ.د عماد الدين خليل

أ.د عماد الدين خليل (*)

زعماء الصين الشعبية يمسحون "ماو" القائد والمؤسس والمنظر، "خروتشوف" يمسح "ستالين"، "بريجنيف" يمسح "خروتشوف"، "جورباتشوف" يمسح "بريجنيف".. "ناصر" يمسح الملك "فاروق"، و"السادات" يمسح "ناصر"، و"حسني مبارك" يمسح "السادات"، وثورة الشعب المصري تمسح "حسني مبارك".

"عبد السلام عارف" يمسح الملك "فيصل الثاني"، و"عبد الكريم قاسم" يمسح "عبد السلام عارف" ثم يعود "عبد السلام عارف" ويمسح "عبد الكريم قاسم"، و"أحمد حسن البكر" يمسح "عبد الرحمن عارف"، و"صدام حسين" يمسح "البكر"، والاحتلال الأمريكي للعراق يمسح "صدام".. "زين العابدين بن علي" يمسح "بورقيبة"، وثورة الشعب التونسي تمسح "زين العابدين".

ولو شئنا أن نمضي في متابعة أعمال "المسح" في العالم المتقدم والمتخلف لطال بنا المقام... والطريق مازال مفتوحاً، وسيظل مفتوحاً للمزيد من أعمال مسح الزعماء الجدد لمن سبقوهم، أو الشعوب لطغاتهم.. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ألا من يعتبر؟!

* * *

خلال العقود الأخيرة قام العديد من الزعماء على مستوى العالم بمسح من سبقوهم كما قامت الشعوب بمسح طغاتها.. والطريق ما زال مفتوحاً للمزيد..

مصلحة الأمة

ذلك أن العديد من حكام المسلمين والعرب عبر القرن الأخير ما كانوا يخدمون إلا أنفسهم وحاشيتهم، ويضعون مصلحة الأمة أو الشعب في الخط العاشر.. وهم – على ما يبدو- أصناف وليسوا صنفاً واحداً؛ فهنالك الحكام الذين يخدمون مصالحهم، والحكام الذين يخدمون ملذاتهم، والحكام الذين يخدمون سلالتهم، والحكام الذين يخدمون مجدهم الشخصي، والحكام الذين يخدمون قبائلهم وعشائرهم، والحكام الذين يخدمون أحزابهم، والحكام الذين يخدمون طوائفهم، والحكام الذين يخدمون أسيادهم.. وهكذا!

أصناف شتى، ولكن يجمعهم أنهم يخدمون كل شيء إلا شعوبهم وأمتهم.. وتلك هي المفارقة الكبرى في تاريخنا المعاصر، بل تلك هي مأساتنا التي تجرعنا مرارتها على مدى عقود عديدة ولا نزال.

لكن يبدو أنهم لم يقرؤوا العبارة المعروفة التي تقول: "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك"! ولم يحاولوا قراءتها، لكي يعرفوا أن بقاءهم في السلطة أمر مستحيل، وأن عبارة "جئنا لنبقى" دونه خرط القتاد.. ومع ذلك فهم يعتقدون حتى النخاع باستمرارية بقائهم، ليس من خلال أشخاصهم فحسب، بل من خلال أبنائهم وذراريهم إلى يوم الحساب.. ولذا نرى حكاماً من أمثال "حسني مبارك"، أو "زين العابدين بن علي"، أو "معمر القذافي"، يسعون مسبقاً لتوظيف كل قدرات الشعب المنكوب وأمواله ومؤسساته، لضمان استمرارية حكمهم من خلال أبنائهم، وهم من أجل تحقيق هذا الهدف يسعون لوضع الجيش وقوى الأمن، ومقدرات الحزب الحاكم، في جيوبهم من أجل تسخيرهم لهذا الهدف المرفوض "ديمقراطياً" إذا أخذنا بمنطق الديمقراطيات.. ومرفوض شورياً إذا أخذنا بمنطق الشورى التي جاء بها الدين الإسلامي، وأكد عليها، ونفذها عبر عصر الراشدين رضي الله عنهم.

معايير إسلامية

والإسلام لا يقف عند هذا الحد، بل إنه يضع شبكة من المعايير والضوابط التي تلزم الحاكم بخدمة شعبه وأمته والجماهير التي أولته ثقتها، وبأقصى وتائر التجرد عن المصلحة والمنفعة والأثرة، وكل صنوف الإغراء التي لوت أعناق حكامنا ولكنها لم تقدر على لوي أعناق الصحابة الكرام الذين قدموا المثل الأعلى في تجرد الحاكم، ونبله في التعامل مع السلطة والمال العام، ومع الشعب الذي سلمهم زمامها.

فأين هؤلاء من حكامنا المعاصرين الذين يتحركون على الطرف النقيض الآخر، فيحتلبون السلطة لأنفسهم وذراريهم؟!

إن الروائي اللاتيني المعروف "أستورياس" يتساءل في روايته "السيد الرئيس": "أي حق يرغم العسكريين على الولاء لنظم لا تدين بالولاء لأي قيم ولا للعالم ولا للأمة؟" (ص218).

وبما أن العديد من حكامنا هم من عشاق الانقلابات العسكرية، التي كانت أمريكا والمعسكر الغربي، يوماً، تدعمها وتموّلها وتقودها إلى السلطة، فلنا نحن أيضاً أن نتساءل: ما الذي يدفع هؤلاء الحكام على الولاء لنظم لا تدين بالولاء لأي قيم، ولا للعالم، ولا للأمة؟!

والجواب واضح كحد السكين.. إنهم أولئك الذين جاؤوا بهم إلى السلطان، وفرضوهم فرضاً على الشعوب، بعد أن أجروا جملة من الدراسات النفسية والاجتماعية عليهم، وعرفوا جيداً طبيعة ردود أفعالهم على كل فعل يجابهونه، ومن ثم وقع اختيارهم على العناصر التي لا تدين لقيم الأمة، وإنما تتعبد مصالحها الخاصة، واستمراريتها في السلطة، وخضوعها المعلن أو المغطى لسادتها الكبار.

نماذج شاذة

من أجل ذلك، وجدنا العديد من هؤلاء "الصنائع" من تلك النماذج الشاذة، غير السوية، والتي تعاني من ألف مركب للنقص يدفعها إلى التعويض بفرض هيمنة دكتاتورية قاسية على شعوبها، لا تكاد تجد فيها ممراً ولو صغيراً للتنفس والحياة الطبيعية السوية!

لقد عاشت أجيالنا العربية المعاصرة على الوهم والخداع، حيث لم تكن لعبة الانقلابات قد تكشفت أبعادها بعد، ومارست لعبة "السلم والثعبان" لعشرات السنين، منذ خديعة ثورة 1952م، مروراً بالانتصار الكاذب على العدوان الثلاثي، وحتى نهاية العقد الأول من القرن الجديد.

ولكن، وكما يقول المثل، فإن لكل شيء نهاية، وها هو عام 2011م، وقد شهد الانفجار الشعبي الكبير ضد الطواغيت والأصنام الذين ظنوا أن حصونهم مانعتهم من أمر الله.. رغم أن أمر الله ماض إلى غايته بأذرع الجماهير التي آن لها أن تحيا الحياة التي تريدها هي، وليست تلك التي ابتزها فراعنة العصر الحديث.

والحق أن الذي يحكم العالم ليس "حسني مبارك" ولا "زين العابدين بن علي" ولا "ماوتسي تونج"، ولا "بوش" فالذي يحكمه هو الله سبحانه: (أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب"41") (الرعد).

لا معقب لحكمه، وتلك هي كلمة الفصل في مصائر الطواغيت والأرباب!.

               

(*) مفكر إسلامي وأكاديمي عراقي.