القدس وفلسطين في أدبيات إقبال

د. حسين مجيب المصري

د. حسين مجيب المصري (*)

قاوم بفكره وفلسفته فكرة الدولة الصهيونية.. وأشار إلى فلسطين بدرة الفردوس.. وإلى اليهود بالجراد القميء.. وإلى الإنجليز بالتنين الأعمى.

يعتبر الشاعر الكبير محمد إقبال رمزاً من رموز الفكر والأدب في العالم الإسلامي، فهو فيلسوف ومفكر ومصلح اجتماعي، وشاعر وسياسي من الطراز الأول، وقد اهتم إقبال بقضايا الإسلام والمسلمين منذ صدر شبابه، حيث أخذ على عاتقه مهمة الذود عن حياض دين الله الخاتم، وناصر الشعوب الإسلامية المقهورة بمواقفه السياسية وقصائده وأفكاره وفلسفاته الإصلاحية التجديدية الداعية إلى نشدان نهضة حقيقية في أرجاء العالم الإسلامي.

وإزاء ذلك احتلت قضية فلسطين والقدس المنزلة الأولى بالنسبة لإقبال – ولا ننسى أنه توفي عام 1938م قبل نكبة فلسطين عام 1948م- وأفرد لها مساحة من جهده ووقته ونضاله؛ كذلك عندما بدأت الهجرات اليهودية تتعاظم وتتكاثر وافدة لاحتلال أرض فلسطين الحرة الأبية، صمم إقبال على ضرورة التصدي لهذه الموجات الاستيطانية الاحتلالية التي تخطط للاستئثار بالقدس الشريف وأسره بين أنيابها، وتهويده بعد أن ذاق حلاوة الإسلام والإيمان، الأمر الذي جعل إقبال يزور الدول العربية مرتين، حيث خص القدس وفلسطين بدورتين قام فيهما خطيباً، يجيد عرض القضية الفلسطينية في ضوء الحقوق العربية والإسلامية، والتنديد بكل محاولات التهويد لتحويلها إلى كيان صهيوني غاشم، ويتعجب من طريق إقامة وطن ودولة لمجموعة من المشردين التائهين في الأرض.

وفي هذا الصدد رأينا مجموعة من المقالات دبجها إقبال ببراعته الساحرة وكلماته العذبة، ومنطقه السليم، وفلسفته العقلانية، وأسلوبه الجذاب، وحجته الباهرة، تنافح جميعها عن فلسطين وعروبتها وإسلامها، عندما بدأت أصابع الصهيونية العالمية تؤازرها مخالب بريطانيا الآثمة، من أجل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، عند ذاك وجدنا كلمات إقبال ذات الوقع الآسر، وهي مقالات كتبت في الأربعينيات، وما قبلها تم نشرها في جريدة البلاغ في الهند آنذاك، ولم تترجم إلى العربية حتى الآن.

وهي تحفل بصور فنية وأدبية عالية القيمة، ومضمون أخاذ، وتراكيب تثير في النفس كوامن الإعجاب من روعتها والاستعداد والتضحية والنضال بسبب فظاعة الحدث، وجرم النكبة.

يقول إقبال في إحدى هذه المقالات وهي تحت عنوان "هجرات غير مشروعة لفلسطين": "انظر يا صديقي، فقد هاجر الجراد إلى درة فردوس الأرض، بعد أن جاع طويلاً، ومشرداً، تائهاً، لا يلوي على شيء لقرون طويلة، لم يعترف به أحد، ولم يقو على أن تكون له كلمة في عالم الأقوياء، كان ضعيفاً قذراً، تفوح رائحة العفونة من قلبه الصدئ، كرهته طيور الأرض ونباتاتها ونواميسها الكونية".

ويقول إقبال في لوحة فنية أخرى مصوراً بشاعة اليهود وفظاعته وخبثهم: "طرد الذباب والبعوض الجراد من ديارهم، بعد أن أوقع بينهم الشحناء والبغضاء، وجعلهم ينشبون أظافرهم في رقاب بعض، طردوا الجراد القذر، ففكر في اغتصاب درة الفردوس الأرضي، صمم على أن يزف إليها برغم رفضها له، ونفورها من منظره القبيح، الجراد يمني نفسه بزفافه منها، يناصره في ذلك تنين أعمى، لا يعرف سوى لغة الدم والدمار، بالرغم من نفوذه الذي تلاشى، وملكه الذي غربت عنه الشمس".

يتضح لنا مما سبق أن إقبال يشير إلى الكيان الصهيوني بالجراد القميء ولإنجلترا بالتنين الأعمى الذي زال ملكه، وغربت شمس القوة عن إمبراطوريتها التي بدأ السوس ينخر في عظامها الهشة أواخر أيام إقبال، أما فلسطين فهي الفردوس الأرض السليب المفقود الذي يبغي لصوص الأرض الاستيلاء على حرمته ودولته بالحيلة والمكر والخديعة، وعلى حين غفلة من أهله.

ونلحظ أيضاً أن اعتماد إقبال على عنصر الحكي والترميز كان أوقع في النفس وأعظم في الدلالة، مما لو لجأ إلى الواقع، والكتابة عن القدس وفلسطين بواقعية تامة. الأسلوب الأول تستروحه النفس ويستهويه الطبع الإنساني المجبول على حب الأدب العالي ولغته الراقية، ومجازه المحكم، أما الأسلوب الثاني المباشر فلا يليق في مقام الأدب والفن الأصيل.

يقول إقبال في عبارات أخرى: لا تظن أيها الجراد أنني سأتركك تخطط لفكرك المنحرف، أنت واهم، أنا الآن أجهز عتادي وطيوري التي ستمزق ملابسك، وتحطم عظامك، وتنهش لحمك، الذي ستعجز كلاب الأرض عن أكله حتى لا تموت، أنا قد أقف برهة أمام زيارتك المفاجئة للفردوس لكنني في المرة القادمة سأنال منك، أيها القميء الدميم، لن ترضى بك عجائز الأرض، فكيف خطر ببالك أن درة العوالم ستوافق عليك أو ستهنأ بخطفك لها واغتصابك لآدميتها ورسالته في الكون، أنت واهم، هي ستقاوم وأنا سأحارب.

ويردف إقبال قائلاً: يحيط الجراد بالدرة، يتسلل بعضه إلى رحابها الفسيحة وعرصاتها المفعمة بالخيرات، يبني على سهولها ورياضها قبوراً وكهوفاً تعشش فيها أفكاره وهواجسه المريضة، ونزواته الطائشة، ومحاولاته من آن لآخر إقناع نفسه بشرعية ما يفعل، وبأنه جدير بذلك، وبأنه أطهر عرق مختار، الخنزير زار الجراد يوماً، الخنزير لا يزال عند وعده للجراد، أنت ابني وسأبني لك دولتك هنا يوم أن تتعاظم أنت بغيرك، وبأموال الآخرين، وعقول كل من يساندنا ضد هؤلاء الرعاع.

يتضح لنا مما سلف أن إقبال كان على دراية ببروتوكولات حكماء صهيون وبمؤتمرات الصهيونية العالمية التي أعلنت عن نيتها إقامة دولتها على أرض فلسطين، وأنه كان يرفض مجرد أن يفكر اليهود في هذه الهواجس؛ لأنه كان يعتبر فلسطين أرضاً إسلامية عربية، لا يحق لأحد التنازل أو التخلي عنها أو التفريط فيها لهؤلاء الرعاع من اليهود، والسؤال المهم الآن، ماذا لو كان إقبال يعيش بيننا الآن؟ أعتذر عن الإجابة؛ لأن القارئ لاشك قد عرف إجابة إقبال.