فلسفة التشريع الغربي ومناقضتها للإسلام

شريف زايد

عَمد الغرب إلى فرض نظامه الفكري والحضاري لملء الفراغ السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العالم الإسلامي، الذي نتج عن انهيار الخلافة الإسلامية سنة 1924م، كما عمد إلى تشويه البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الإسلامية، بغية إحداث خلل فكري في المجتمع الإسلامي ليُمكن للأنظمة والتشريعات الغربية أن تسود في العالم الإسلامي. فالتشريعات والقوانين غير الإسلامية لم يكن لها أي أثر أو وجود في واقع الأمة السياسي والتشريعي لأكثر من ثلاثة عشر قرنا، ولكنها بدأت تتسرب لكيان الدولة العثمانية في أواخر أيامها، بعد أن صدرت الفتاوى من شيخ الإسلام آنذاك أنها لا تخالف الإسلام، ولكننا نلاحظ اليوم وجود حالة من الارتكاس في المفاهيم أصابت قطاعا عريضا في الأمة الإسلامية، نجم عنها التبني التام لأحكام التشريعات الغربية دونما اعتبار لمناقضتها لأحكام الشريعة الإسلامية، وفي هذا السياق هالني ما رأيته من تجييش للناس في مصر من قِبل بعض رموز التيار الإسلامي لقول نعم للدستور الجديد، على اعتبار أن هذا هو أفضل المتاح، بل هو الذي سُيمكن من تطبيق الشريعة بشكل كامل. ومما يُثير الاستغراب أن معظم هؤلاء لم يلتفتوا إلى الأثر الواضح لفلسفة التشريع الغربي التي تكاد تسيطر على أغلب بنود الدستور، وتكاد تقضي على أي فلسفة أخرى يمكن أن يظهر أثرها على بعض المواد، ناهيك عما في بنود هذا الدستور من عوار ومخالفة للنصوص القطعية في الإسلام.

ولهذا فلا بد من إبراز أهم الأسس التي تقوم عليها فلسفة التشريع في الفكر الغربي، وبالتالي بيان مدى مناقضتها للإسلام.

تنبني فلسفة التشريع الغربي على قواعد عدة أهمها "حفظ الحرية الفردية" و"فصل الدين عن الحياة" و"نسبية القوانين والتشريعات".

1- الحريات: تعد الحرية في الفكر الغربي، أصل قيام المجتمعات، وقاعدة لبناء الوجود السياسي الذي ينحصر هدفه في الحفاظ عليها. ولكن لما كان الإنسان مضطرا إلى العيش في جماعة، وهذه تحتاج إلى دولة تمتلك سلطة لتنظيم شؤونها، كان لا بد من ربط التشريع بفكرة التوفيق بين السلطة والحرية، فأصبحت التشريعات تهدف إلى "تنظيم التعايش بين السلطة والحرية في إطار الدولة-الأمة". وكان نتيجة ذلك إرساء قاعدة الفصل بين السلطات، للحيلولة دون الاستبداد الفردي، ولقد ظهر جليا أثر هذه الفكرة في باب كامل من الدستور المصري الجديد هو الباب الثاني الذي يحمل اسم الحقوق والحريات، كما ظهر في التأكيد على مسألة الفصل بين السلطات في هذا الدستور. بينما خطاب الشارع المعالج لمشاكل الإنسان لم ينطلق من واقع إعطاء الفرد حريته أو تقييد حريته، بل انطلق من أساس أن كل مشكلة هي مشكلة إنسانية ابتداءً، فيعالجها لهذا الإنسان بصفته إنساناً له غرائز وحاجات مختلفة، وخالق الإنسان هو الأدرى بهذه الغرائز والحاجات ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، وهو جل وعلا - بخلاف الإنسان - غير محدود العلم والقدرة، وهو العليم الحكيم الذي لا يخطئ ولا يجوز عليه الخطأ، فكان هو الأولى بوضع الحلول لمشاكل هذا الإنسان ليسير عليها، وبيان حكم أفعاله، وكان حكمه المتعلق بأفعال العباد حكمًا شرعيًا ثابتًا. وجاءت الشريعة لتخرج المكلفين من دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادًا لله. فالحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد. أضف إلى ذلك فساد قاعدة الحرية الغربية عقلا وواقعا، نظرا لأنه لا يمكن جعل الحرية قاعدة لبناء التشريعات عمليا، فإذا كانت حرية المرء تنتهي حين تبدأ حرية الآخرين كما يقولون، فهذا يعني أنه لا توجد حرية للمرء في أن يفعل ما يشاء. وواقع الأمر أن الحرية في المجتمعات الغربية قد قيدت بقيود قانونية واجتماعية وسياسية واقتصادية أخرجتها تمامًا عن مضمونها المثالي الذي افتُتِن به الناس، وجعلت منها مجرد كلمة يتغنى بها المفتونون بوهج الحضارة الغربية.

2- فصل الدين عن الدولة: لقد خضع التشريع الغربي للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشتها أوروبا، والتي كانت ثمرتها فصل الدين عن الدولة بعد الصراع الدامي بين المفكرين والكنيسة، مما جعل أوروبا لا تملك تشريعات دائمة ثابتة، طالما أُبعدت القواعد الدينية الثابتة، ولذلك أصبحت التشريعات تعبر عن "الإرادة العامة"، والقانون خاضع لرغبات الأمة وحاجاتها، وأصبح الشعب من الناحية الشكلية مصدرا للقوانين، وارتكز النظام الديمقراطي على حق الشعب في سن قوانينه كجزء من قاعدة "السيادة الشعبية". وتأثرا بهذه الفكرة تم وضع المادة الخامسة في الدستور المصري التي تنص على أن السيادة للشعب يمارسها ويحميها، ويصون وحدته الوطنية، وهو مصدر السلطات، وهذا النص هو تكريس لفصل الدين عن الدولة، وإبعاد للدين الإسلامي عن واقع الدولة والدستور والقوانين. ويتضح فساد نظرية سيادة الأمة، أي حق الأمة في سن القوانين، من قصور العقل البشري عن معالجة واقع الحياة، بسب انعدام الموازين الثابتة، والتي لا يمكن تحقيقها إلا بوجود الدين المقطوع بصحته، وهو الإسلام الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. كما أن مبدأ فصل الدين عن الدولة ليس تنظيرا مبنيا على البحث والبرهان العقلي، وإنما هو حل وسط بقبول الدين كأمر واقع، مع عزله عن الحياة. ومما لا شك فيه أن فصل الدين عن الدولة يناقض الفطرة الإنسانية، فالإنسان كل لا يتجزأ وليس بالإمكان فصل عقيدته ومشاعره عن ممارساته وتصرفاته بصورة دائمة. كما أن القول بسيادة الأمة وتخويلها إصدار التشريعات، يناقض ويخالف الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، والتي تحرم جعل التشريع لغير الله عز وجل، قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وقال أيضا: ﴿وَمَا كانَ لِمُؤمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُه أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُم الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم﴾. وواقع الحال أن الأمة ليست هي من يقوم بسن القوانين، كما يدعي أصحاب الفكر الغربي الرأسمالي. حيث ينحصر التشريع في هيئة محدودة العدد في البرلمان أو في لجنة تأسيسية، ولذلك لا تصح نسبة القوانين إلى الأمة لمخالفة ذلك للواقع، حتى لو تم إقرار هذه القوانين أو الدساتير بعد الاستفتاء الشعبي عليها. إذ يتشكل الدستور من مجموعة مواد فيها مسائل معقدة لا يدركها إلا أهل الاختصاص، وبالتالي فإن الموافقة أو الاعتراض من باقي الشعب ممن هم ليسوا من أهل الاختصاص لا قيمة له.

فإذا أُقِرَّ القانون أو الدستور لكون الموافِق عليه أكثرَ من المعترض، فهذا يعني أن هناك فئةً كبيرة من الشعب قد تصل إلى النصف ناقص واحد لم توافق على الدستور. كما أن فئة عمرية قد تشكل 25% من الشعب، وهم فئة الشباب الذين هم دون السنّ القانوني المصرح له بالانتخاب، لا تؤخذ أصواتهم وبالتالي لا يُلتفت إليها في الاستفتاء. كما أن موافقة الموافِق لا تعني موافقةً حقيقية في ظل ضغوط من أطراف خارجية أو تأثير الآلة الإعلامية في تشكيل الرأي العام. وفي النهاية فإن إقرار دستورٍ ما في فترة ما هو إقرار أغلبية الشعب الموجود في هذه الفترة، لكن بعد جيل أو جيلين يكون الذين صوتوا لصالح هذا الدستور تحت التراب!

إننا نقول بكل وضوح أنه لا محلّ للبشر في وضع أحكام لتنظيم علاقات الناس، فهم مقيدون بالأحكام الشرعية. قال تعالى ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، ولهذا فإن الدستور يجب أن يؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس الشرعي، ولا عبرة لرأي الأكثرية أو الأقلية.

فالتشريع في الإسلام هو لله وحده ولا يحق لأحد أن يحلل ويحرم من دون الله، وجعل التشريع للبشر، أو لِلَجنة تأسيسية، منتخبةٍ أو معيَّنة هو جريمة كبرى في الإسلام. أخرج الترمذي من طريق عدي بن حاتم قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن. وسمعته يقرأ في سورة براءة ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾. قال أما إنهم لم يكونوا يعبدوهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه".

3- نسبية القوانين والتشريعات: انطلق الفكر الغربي في نظرته إلى القانون، على أنه حصيلة التطور الاجتماعي المعبر عن رأي الجماعة. ولهذا فإن التشريع الغربي في واقعه وباعتراف فقهائه، إنما هو تشريع خاص، وليد ظروف اجتماعية وتاريخية معينة. مما حدا بالمُشَرِّعِ الغربي أن يسترشد بأحكام نظرية "القانون الطبيعي" في صياغة قوانين وضعية مبنية على قواعد عقلية محضة، مثل العدل والضمير المنبثق عن الإنسان ذاته. ونحن نرى أن ربط القانون بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يخلق إحساسا دائما بعدم الاستقرار، ويجعل للقوانين صفة "نسبية" ويدخل كافة القوانين في إطار "المتغيرات" المتعلقة بالمصلحة الآنية. ولهذا فليس من المستغرب سماع عبارات مثل "إن هذا الدستور ليس قرآنًا أو سنة" وأننا يمكننا تغييره في الفترة المقبلة، إذ إن التأثير الفكري والتشريعي الغربي واضح جدا في عقليات هذه الفئة التي تقاتل من أجل تمرير الدستور بأي شكل من الأشكال، لإحداث حالة متوهمة من الاستقرار.

لا يمكن أن يحدث استقرار في ظل دستور مبني في أسسه، بل وفي تفصيلاته على فلسفة الغرب في التشريع. إن الاستقرار الحقيقي والطمأنينة والعيش الرغيد للأمة، لا يكون إلا في ظل تطبيق حقيقي للإسلام كاملًا، يتمثل في دولته دولة الخلافة الإسلامية، التي تنبني كل مؤسساتها، وأجهزتها، وأنظمتها، ودستورها على أحكام شرعية تنبثق من العقيدة الإسلامية التي هي عقيدة الأمة.