حسن البنا وحقيقة الحلقة المفقودة 1

سامر جابر

اقتصر بعض الدارسين لمشروع هذا الإمام على جوانب جعلوها حلقات مفقودة من مثل

أ-   أن الإمام حسن البنا أشعري المعتقد شأنه شأن علماء الأمة الإسلامية ، ولكن الكثير من أتباعه متأثرون بمعتقدات تخالف معتقد أهل السنة من مثل التجسيم والتكفير والحداثة والاعتزال والتشيع بل بمعتقدات لأهل الكفر من مثل البوذية واليهودية والنصرانية والشيوعية والعلمانية والاشتراكية ، بل بعضهم لا يعلم معتقده لأنه يريد أن يكون على عقيدة العجائز!! ولا أدري أحمق هو أم ماذا ؟! وكيف سيواجه التحديات العالمية والتشوهات العقائدية التي تحارب الإسلام والمسلمين؟!!

ب- أن الإمام متمذهب في الفقه على المذهب الشافعي أو الحنفي ، وكثير من أتباعه على غير مذهب بل تسودهم الفوضى الفقهية والفتاوى الغريبة .....

ج- أن الإمام صوفي طرقي فهو شاذلي الطريقة وقام ببناء جماعته على طريقة صوفية وأعطاها بعض ألقابه من مثل المرشد والأسرة وغير ذلك

د-  أن الإمام داعية رحالة يجوب البلاد لنشر الإسلام شأنه شأن رجال الدعوة والتبليغ وعلماء السلف الصالح في حين أن جماعته ليست كذلك

هـ-  أن الإمام مجاهد فقد نادى بجاهد المحتلين ودرب المجاهدين، وسمى بعض حلقات جماعته بأسماء جهادية من مثل الكتيبة

و - أن الإمام ينطلق من الأصول الثلاث : العلم والتزكية والدعوة

ز- أن الإمام سياسي وليس شموليا....وغير ذلك ..

 واعترض البعض على الإمام أنه أخطأ حين أنشأ جماعة إسلامية ونقل العمل الدعوي إلى العمل الحركي.

ولكن لو أمعنا النظر قليلاً لوجدنا أن الإمام البنا وقف على حقيقة المشكلة وهي أن الإسلام لا بد أن يتم تجديده تجديداً مؤسسياً ، فالعمل المؤسسي هو التطور الذي حصل في شؤون الدولة ومفهومها، سواءً في علاقاتها الداخلية أو الخارجية ، وسواءً كانت دولة حديثة أو مدنية أو عسكرية فكلها دولة مؤسسات .

والإمام بنى جماعة الإخوان المسلمين ترجمة لهذا التجديد ، فهو أراد ترجمة العلوم الإسلامية في كافة المجالات إلى أعمال مؤسسية ومنها جماعته ومنها المصارف الإسلامية التي بدأت في زمانه وعلى أيدي أتباعه، ومنها المدارس ومناداته لإعادة النظر في التربية والتعليم، ومنها المعسكرات وكذلك التنظيم السري - والذي للأسف خرج من يدي الإمام حسن البنا وقد رفضه الإمام في أواخر حياته وكتب مقالات للرد عليهم - ومنها الإعلام وخوضه في بناء المجلات والجرائد ولقاء الإعلاميين، وكذلك خوضه الانتخابات والدخول في الحقل السياسي ..... وغير ذلك .

إني أدعو الجميع إلى إعادة قراءة مقالات وأعمال وتاريخ الإمام البنا على ضوء هذه النظرة. علماً أن هذا الأمر أول من تنبه له وقام به هو السلطان عبد الحميد الثاني والإمام البنا امتداد له ، ولا أظنه الوحيد في عصره ولكنه الأقوى في ترجمة ذلك، وإخراجه من الإطار النظري إلى الإطار العملي.

 

حسن البنا وحقيقة الحلقة المفقودة 2

 

  الحلقة المفقودة في فهم منهج الإمام البنا رحمه هو نظرته التجديدية للدعوة الإسلامية وهو بناء المؤسسات المختلفة للدولة وفق قواعد علماء المسلمين ملاحظاً تطور مفهوم الدولة ومؤسساتها في هذا العصر ، وهذا هو السر في قيام جماعة الإخوان المسلمين بتنظيمها المعروف ، بمعنى أنه قام ببناء مؤسسة دعوية لها طابع العصر الذي لم يعد هناك تحركات فردية بل يدار العالم من خلال مؤسسات وشركات عالمية منها الأحزاب والمليشيات والشركات الاقتصادية والدبلوماسية ، وحتى على مستوى التخطيط كذلك فهناك أجهزة ومؤسسات تعمل لذلك.

ولكن هل كلامي له دليل أم أنها عاطفة وردة فعل مني على مجريات الحوادث المعاصرة؟!

ودليلي هو كلام الإمام البنا في حواره مع الشيخ يوسف الدجوي رحمهما الله تعالى، قال الشيخ حسن البنا في مذكراته:

كنت أقرأ للشيخ يوسف الدجوي – رحمه الله – كثيرا وكان الرجل سمح الخلق ، حلو الحديث،  صافي الروح. وبحكم النشأة الصوفية كان بيني وبينه رحمه الله صلة روحية وعلمية تحملني على زيارته الفينة بعد الفينة، بمنزله بقصر الشوق أو بعطفة الدويداري بحي الأزهر، وكنت أعرف أن له صلات بكثير من رجال المعسكر الإسلامي من علماء أو وجهاء، وأعرف أنهم يحبونه ويقدرونه فعزمت على زيارته، ومكاشفته بما في نفسي، والاستعانة به على تحقيق هذه الفكرة والوصول إلى هذه الغاية وزرته بعد الإفطار، وكان حوله لفيف من العلماء وبعض الوجهاء، ومن بينهم رجل فاضل لا أزال أذكر أن اسمه” أحمد بك كامل” وإن لم ألتق به بعد هذه المرة.

 

تحدثت إلى الشيخ في الأمر فأظهر الألم والأسف وأخذ يعدد مظاهر الداء والآثار السيئة المترتبة على انتشار هذه الظاهرة في الأمة، وخلص من ذلك إلى ضعف المعسكر الإسلامي أمام هؤلاء المتآمرين عليه، وكيف أن الأزهر حاول كثيرا أن يصد هذا التيار فلم يستطع، وتطرق الحديث إلى جمعية” نهضة الإسلام” التي ألفها الشيخ، هو ولفيف من العلماء، ومع ذلك لم تجد شيئا، وإلى كفاح الأزهر ضد المبشرين والملحدين، وإلى مؤتمر الأديان في اليابان، ورسائل الإسلام التي ألفها فضيلته وبعث بها إليه، وانتهي ذلك كله إلى أنه لا فائدة من كل الجهود، وحسب الإنسان أن يعمل لنفسه وأن ينجو بها من هذا البلاء. وأذكر أنه تمثل بهذا البيت، الذي كان كثيراً ما يتمثل به، والذي كتبه لي في بعض بطاقاته في بعض المناسبات:

وما أبالي إذا نفسي تطاوعني على النجاة بمن قد مات أو هلكا

وأوصاني أن أعمل بقدر الاستطاعة، وأدع النتائج لله” لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ”لم يعجبني طبعا هذا القول، وأخذتني فورة الحماسة وتمثل أمامي شبح الإخفاق المرعب إذا كان هذا الجواب سيكون جواب كل من ألقى من هؤلاء القادة فقلت له في قوة:

 “ إنني أخالفك يا سيدي كل المخالفة في هذا الذي تقول. وأعتقد أن الأمر لا يعدو أن يكون ضعفاً فقط، وقعوداً عن العمل، وهروباً من التبعات: من أي شيء تخافون؟ من الحكومة أو الأزهر؟.. يكفيكم معاشكم واقعدوا في بيوتكم واعملوا للإسلام، فالشعب معكم في الحقيقة لو واجهتموه، لأنه شعب مسلم، وقد عرفته في القهاوي ، وفي المساجد، وفي الشوارع، فرأيته يفيض إيماناً، ولكنه قوة مهملة من هؤلاء الملحدين والإباحيين، وجرائدهم ومجلاتهم لا قيام لها إلا في غفلتكم، ولو تنبهتم لدخلوا جحورهم.

يا أستاذ ! إن لم تريدوا أن تعملوا لله فاعملوا للدنيا وللرغيف الذي تأكلون، فإنه إذا ضاع الإسلام في هذه الأمة ضاع الأزهر، وضاع العلماء، فلا تجدون ما تأكلون، ولا ما تنفقون، فدافعوا عن كيانكم إن لم تدافعوا عن كيان الإسلام، واعملوا للدنيا إن لم تريدوا أن تعملوا للآخرة، وإلا فقد ضاعت دنياكم وآخرتكم على السواء”!.

 

وكنت أتكلم في حماسة وتأثر وشدة، من قلب محترق مكلوم، فانبرى بعض العلماء الجالسين يرد علي في قسوة كذلك، ويتهمني بأنني أسأت إلى الشيخ وخاطبته بما لا يليق، وأسأت إلى العلماء والأزهر، وأسأت بذلك إلى الإسلام القوي العزيز، والإسلام لا يضعف أبدا والله تكفل بنصره.

 

وقبل أن أرد عليه انبرى أحمد بك كامل هذا وقال:

لا يا أستاذ، من فضلك هذا الشاب لا يريد منكم إلا الاجتماع لنصرة الإسلام. وإن كنتم تريدون مكاناً تجتمعون فيه فهذه داري تحت تصرفكم افعلوا بها ما تريدون، وإن كنتم تريدون مالاً فلن نعدم المحسنين من المسلمين، ولكن أنتم القادة فسيروا ونحن وراءكم. أما هذه الحجج فلم تعد تنفع بشيء”.

 

هنا سألت جاري عن هذا الرجل المؤمن: من هو؟ فذكر لي اسمه – وما زال عالقاً بذهني ولم أره بعد – وانقسم المجلس إلى فريقين : فريق يؤيد رأي الأستاذ العالم، وفريق يؤيد رأي أحمد بك كامل، والشيخ – رحمه الله – ساكت. ثم بدا له أن ينهي هذا الأمر فقال: على كل حال نسأل الله أن يوفقنا للعمل بما يرضيه، ولا شك أن المقاصد كلها متجهة إلى العمل، والأمور بيد الله. و أظننا الآن على موعد مع الشيخ محمد سعد فهيا لنزوره.

 

وانتقلنا جميعاً إلى منزل الشيخ محمد سعد – وهو قريب من منزل الدجوي  رحمه الله – وتحريت أن يكون مجلسي بجوار الشيخ الدجوي مباشرة لأستطيع الحديث فيما أريد. ودعا الشيخ محمد سعد بحلويات رمضان فقدمت وتقدم الشيخ ليأكل فدنوت منه، فلما شعر بي بجواره سأل: من هذا؟ فقلت: فلان.

فقال: أنت جئت معنا أيضاً؟ فقلت: نعم يا سيدي، وسوف لا أفارقكم إلا إذا انتهينا إلى أمر. فأخذ بيده مجموعة من النقل وناولنيها وقال: خذ وإن شاء الله نفكر.

فقلت: يا سبحان الله يا سيدي إن الأمر لا يحتمل تفكيرا، ولكن يتطلب عملا، ولو كانت رغبتي في هذا النقل وأمثاله لاستطعت أن أشتري بقرش وأظل في منزلي ولا أتكلف مشقة زيارتكم.

 يا سيدي إن الإسلام يحارب هذه الحرب العنيفة القاسية، ورجاله وحماته وأئمة المسلمين يقضون الأوقات غارقين في هذا النعيم. أتظون أن الله لا يحاسبكم على هذا الذي تصنعون؟ إن كنتم تعلمون للإسلام أئمة غيركم وحماة غيركم فدلوني عليهم لأذهب إليهم، لعلي أجد عندهم ما ليس عندكم !!

 

وسادت لحظة صمت عجيبة، وفاضت عينا الشيخ رحمه الله بدمع غزير بلل لحيته، وبكى بعض من حضر. وقطع الشيخ رحمه الله هذا الصمت بأن قال في حزن عميق وفي تأثر بالغ: وماذا أصنع يا فلان؟

 

فقلت: يا سيدي الأمر يسير، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. لا أريد إلا أن تحصر أسماء من نتوسم فيهم الغيرة على الدين، من ذوي العلم والوجاهة والمنزلة، ليفكروا فيما يجب أن يعملوهيصدرون ولو مجلة أسبوعية أمام جرائد الإلحاد والإباحية، ويكتبون كتباً وردوداً على هذه الكتب ويؤلفون جمعيات يأوي إليها الشباب، وينشطون حركة الوعظ والإرشاد.. وهكذا من هذه الأعمال.

 

فقال: جميل. وأمر برفع” الصينية” بما عليها، وإحضار ورقة وقلم. وقال: أكتب. وأخذنا نتذاكر الأسماء، فكتبنا فريقاً كبيراً من العلماء الأجلاء أذكر منهم: الشيخ رحمه الله، وفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ عبد العزيز جاويش، والشيخ عبد الوهاب النجار، والشيخ محمد الخضري، والشيخ محمد أحمد إبراهيم، والشيخ عبد العزيز الخولي رحمهم الله.

 

وجاء اسم السيد رشيد رضا – رحمه الله – فقال الشيخ: اكتبوه اكتبوه فإن الأمر ليس أمرا فرعياً نختلف فيه، ولكنه أمر إسلام وكفر، والشيخ رشيد خير من يدافع بقلمه وعلمه ومجلته ، وكانت هذه شهادة طيبة من الشيخ للسيد رشيد رحمهما الله، مع ما كان بينهما من خلاف في الرأي حول بعض الشئون. وكان من الوجهاء: أحمد باشا تيمور، ونسيم باشا وأبو بكر يحيى باشا، ومتولي بك غنيم، وعبد العزيز بك محمد – وهو عبد العزيز باشا محمد الآن – وعبد الحميد بك سعيد رحمهم الله جميعاً، وكثيرون غير هؤلاء.

 

ثم قال الشيخ: وإذن فعليك أن تمر على من تعرف، وأمر على من أعرف، ونلتقي بعد أسبوع إن شاء الله.

التقينا مرات، وتكونت نواة طيبة من هؤلاء الفضلاء وواصلت اجتماعها بعد عيد الفطر، وأعقب ذلك أن ظهرت مجلة” الفتح” الإسلامية القوية يرأس تحريرها الشيخ عبد الباقي سرور نعيم رحمه الله، ومديرها السيد محب الدين الخطيب، ثم آل تحريرها وإدارتها إليه، فنهض بها خير نهوض، وكانت مشعل الهداية والنور لهذا الجيل من شباب الإسلام المثقف الغيور.

 

وظلت هذه النخبة المباركة من الفضلاء تعمل حتى بعد أن فارقت دار العلوم، وظل يحركها نفر من هذا الشباب المخلص حتى كانت هذه الحركات جمعية الشبان المسلمينفيما بعد.} اهـ

إذن كان الشيخ حسن البنا يريد عملاً مؤسسياً يوازي أعمال أعداء الإسلام الذين يتحركون على هيئة مؤسسات وحركات. ولك في مقالاتهخ المختلفة أكبر دليل على كلامي ، فارجع لسلسلة تراث الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى لترى ذلك واضحاً وبارزاً.

والله الموفق

 

حسن البنا وحقيقة الحلقة المفقودة 3

 كتب صديقي عون القدومي كتابه حسن البنا والحلقة المفقودة. وذكر فيه أن الحلقة المفقودة بين حسن البنا وأتباعه في هذا الزمان هي التصوف والسلوك كما صارحني بذلك.

ويمكن أن تفهم من كتابه أن فقدان المدرسية العلمية المتمثلة بالمذهبية في العقائد والفقه والتصوف والتي أضاعها أتباعه من جماعة الإخوان المسلمين أيضا تدخل في هذه الحلقة المفقودة.

كما يمكن أن تفهم من كتابه أيضا أن الخلط بين الحركة والدعوة أيضا من الحلقة المفقودة.

ولكن لو أمعنا النظر وتدبرنا في مقاﻻت  اﻹمام  لوجدنا أن هذه معالم فقدت أو ضعفت في جماعة اﻹخوان المسلمين وكانت سبباً كبيراً في تقهقر الجماعة في الحقيقة رغم تحقيق تقدمات هي في الحقيقة على خطورتها لكنها ﻻ تعدو أن تكون ستارا يخبئ وراءه ذلك التقهقر.

ولكنها ليست هي الحلقة المفقودة في فهم منهج اﻹمام البنا. وإن كانت هي سياج تلك الحلقة التي فقدت لما فقدت الحلقة .

وقد ذكرنا سابقاً أن الحلقة المفقودة في فهم منهج اﻹمام البنا هي إعادة ترجمة العلوم اﻹسلامية إلى مشاريع ومؤسسات وإجابات لحل مشكلات العصر وللاستجابة لمستجدات الحوادث وتطور الحياة في كافة المجاﻻت والخروج عن الشكلية التقليدية الجامدة.

ولكن مع المحافظة على أصالة المفاهيم اﻹسلامية وليس هدمها وإعادة صياغة المصطلحات كما يفعل أدعياء التجديد من الحداثيين. فإن هذا أمر قد أنضجه علماء اﻷمة.

فالإمام يرى التجديد في طريقة الطرح للدين والتعامل به مع الحياة . كما كان حال علماء اﻷمة في كل عصر. وتلحظ هذا الأمر في مقاله كي أكتب في القسم الديني .

ولو أمعنت النظر أكثر لوجدت أن الحلقة المفقودة هو عمق التوافق بين المذهبية العلمية والسلوكية وبين التجديد في الطرح والتعامل المؤسسي. والتوافق التام بين أصالة اﻷمة وواقعها المعاصر.

وإنك إن فقهت ما أقول فستعلم اﻹجابة عما طرحه السيد عون القدومي في مقدمته من إشكال حول الفروق بين الدعوة والحركة والتي لم يستطع أن يصيب كبد الحقيقة في الإجابة عليها.

وستفقه سر بناء اﻹمام البنا لجماعة اﻹخوان المسلمين للممارسة الدعوة، وما ذلك إﻻ لفقه اﻹمام أن متطلبات الدعوة والدولة بمؤسساتها في العصر الحديث غيرها في أي عصر.

ولفقهت كذلك سر تخلف اﻹخوان المسلمين بعد استشهاد إمامهم، لعدم وقوفهم على تلك الحلقة المفقودة والتي هي إعادة صياغة الحياة على منهج الإسلام بما يتوافق وتطور مفهوم الدولة في العصر الحديث، فقد بنى جماعته على الأسس المعاصرة لبناء المؤسسات صاحبة المنهج والفكر والعقيدة مع المحافظة على جوهر الدين والمنهج الذي تناقله الأئمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتمثلة في المدارس العلمية ففي العقدة مدرستي الأشاعرة والماتريدية وفضلاء الحنابلة ، وفي الفقه المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وفي التصوف طريقة الجنيد والغزالي.

ولكون الكثير لم يفهم أن اﻹمام البنا لم يرد طريقة صوفية جديدة ولم يرد مذهبا فقهيا جديدا ولم يرد حركة كلامية ترد على الباطل بالطريقة المجردة. ولم يرد حركة سياسية ذات منافسات دنيوية، وﻻ حركة جهادية فقط، وﻻ حزبا مماحكا للأحزاب ، وﻻ شركة اقتصادية مادية محضة ، بل أراد تأسيس مؤسسة قائمة بأعمال الخلافة لحين بناء دولة إسلامية شاملة يرأسها خليفة مسلم راشد سواء كان المهدي أو غيره على اختلاف العلماء في وقت ظهوره، وهذا تحقيق لفتوى الشافعية بأنه إن فقدت الخلافة فتؤول اﻷمور للعلماء. فإن هذا الكثير اعترض أو صد أو انحرف أو .... عن منهج الإمام.

وعلى هذا فإن جماعة اﻹخوان المسلمين تحتاج إلى تجديد يرجعها إلى منهجها. أو بروز عمل يماثلها ولكن من قبل العلماء حتى يرجع اﻷمر لنصابه وفق فتوى الشافعية. والله أعلم والله الموفق.

 

حسن البنا وحقيقة الحلقة المفقودة 4

 

قلت فيما سبق : إن صاحب كتاب :"حسن البنا والحلقة المفقودة " لم يستطع أن يقف على كبد حقيقة الحلقة المفقودة - خاصة وقد أقسم لي عدم معرفته بمقصود الإمام من التعريف والتكوين والتنفيذ وهي أصول في تحرك الإمام- ، وإن كان قد أصاب بعضاً منها ، ثم راجعت الكتاب مرة أخرى لأقف على مقصد خطير من مغزى الكاتب للحلقة المفقودة ، فقد ذكر أن الحلقة المفقودة هي شخص الإمام البنا رحمه الله.

وإن خطورة هذا الطرح في جعل المنهج مرتبطاً بشخص إنسان ليس نبياً وليس صحابياً طالت صحبته لنبي، مما يعني أموراً:

 أن منهج الإخوان المسلمين الذي طرحه الإمام البنا منقطع الأوصال بجسد الأمة الإسلامية لأنها مرتبطة بشخص معاصر بداية ونهاية.

أن منهج الإمام رحمه لله ليس تجديدياً بل ابتكارياً وهذا ما لم يرد عن أحد من العلماء المعتبرين الذين عاصروا الإمام من مثل الشيخ محمد الحامد  رحمه الله تعالى

أن ارتباط الفكرة وحصرها في شخص الإمام البنا رحمه الله دعوة إلى العنصرية والتعصب للأشخاص وهذا منافٍ لمنهج الإمام رحمه الله.

أن فيها تقديساً للإمام البنا رحمه الله تعالى وهذا استمرار لمرحلة الدخن في التصوف وهي منافية لحقيقة التصوف التي تعتبر أحد أسس جماعة الإخوان.

 إن جعل منهج الإمام محصوراً في شخصه دعوة لرفض أي تجديد في جماعة الإخوان المسلمين أو إثراء لمنهجها أو رفض لكل ما صدر عن الإخوان بعد وفاة الإمام. لذا لا نستغرب وَفق هذا التصور الخطير أن نرى الطعن في انجازات الجماعة وفي رجالاتهم

ولذا لا نستغرب أن بعض الدعاة الجدد يقومون بسرقة مشروع الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية الصحيحة ونسبتها لأنفسهم كما فعله الشيخ أسامة الأزهري في مقالة له بعنوان : المشروع الإسلامي الحقيقي ونسب ذلك للعقلية الأزهرية ، كما لا نستغرب لبعض الدعاة الموسومين أنهم شيوخ تزكية من رجالات آل البيت أن يطعن في رجال الإخوان المسلمين قاطبة وقياداتهم وعلمائهم خاصة في لقاء مدته 25 دقيقة لما سئل عن رأيه بالإخوان ولم يذكر فضيلة واحدة لهم عبر زمانهم كما فعل الشيخ علي الجفري على قناة مصرية بعد الانقلاب على الرئيس الشرعي محمد مرسي فك الله أسره. بل لا نستغرب من بعض علماء السوء باستباحة سفك دمائهم أو على الأقل عدم انكاره لعمليات القتل والسجن والاغتصاب وسرقة الأموال وتدمير المقرات للإخوان كما فعل ويفعل شيخ الأزهر أحمد الطيب والشيخ علي جمعة.

أعود فأقول:

 أن منهج الإمام البنا رحمه الله ليس مرتبطاً بشخصه على فضله وعلمه، بل هو مرتبط بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الميزان في كل ما يتعلق بالإسلام وليس حسن البنا.

أن الإمام البنا ليس هو المجدد الوحيد في عصره للإسلام بل كان هناك علماء كثر منهم عز الدين القسام والشيخ أمين الحسيني والشيخ مصطفى صبري والشيخ أبو الأعلى المودودي والشيخ النورسي وغيرهم ، إلا أن الإمام البنا تميز عنهم بقوة حركته وبناء مؤسسة دعوية شاملة لجوانب الإسلام، أما الآخرين فكانت إما تحركات فردية كالنورسي أو مؤسسية جزئية كعز الدين في بناء المقاومة ضد الإنكليز وكذلك الحسيني والمودودي.

أن جماعة الإخوان المسلمين جماعة تحتاج للتجديد، أول خطوتين في ذلك عودة حركتها الدعوية إلى شموليتها وعدم التركيز الشديد على الشؤون السياسية، والثانية عودة ارتباطها بأصولها العلمية المتمثلة بالمدارس والمذاهب العلمية الموروثة وبارتباط أفرادها بعلماء الأمة المسندين إلى الحضرة المحمدية.

أن دعوة الإخوان المسلمين ما هي إلا مؤسسة دعوية إلى الإسلام، تقوم بترجمة العلوم الإسلامية إلى مشاريع نهضوية وأنظمة مؤسسية لقيام الدولة الإسلامية بمفهوم للدولة ينافس المفهوم المعاصر لها. فلسنا تبعاً لما يمليه الغرب علينا من مفاهيم بل لدينا مفاهيمنا الخاصة التي نطورها على أصول الإسلام بما ورثنا من علوم الأئمة ومناهجهم.

 

حسن البنا وحقيقة الحلقة المفقودة 5

 

إن دعوة الإمام حسن البنا قد سبقت كل من يدعو في زماننا إلى الله تعالى في تطوير وسائل الدعوة، استخدمت السلاح اللائق استخدامه في زماننا الذي ما عادت الأمور تدار من خلال أفراد ولا عائلات ولا مجموعات، بل صار يدار الأمر من خلال المؤسسات، وقد طور الإمام البنا أسلوب الدعوة إلى الله بطريقة تكافئ الأسلوب الماكر الذي يتبعه العدو الكافر، كما أنه طور أسلوب الدعوة إلى الله تعالى بحيث يسد خللاً جللاً حصل في الأمة الإسلامية ألا هو إلغاء الخلافة الإسلامية.

إن التطور الذي أحدثه الإمام البنا رحمه الله في الدعوة أن جعلها دعوة مؤسسية حركية، فإن أعداء الأمة الإسلامية لم يواجهوا الأمة إلا من خلال مؤسسات استعمارية؛ عسكرية أو ثقافية أو دينية أو اجتماعية أو إعلامية، وذكرنا حوار الإمام البنا مع أحد مشايخ الأزهر المخلصين الذين هم بقية السلف الصالح للأزهر ولم يتأثروا بموجة الحداثة في ذلك العصر، فقد ذكر البنا أنه يريد عملاً يقوم بإنشاء إعلام ومجلات تقابل تلك المجلات والصحف والإعلام الفاسد، ويريد عملاً ينشئ النوادي التي تواجه تلك النوادي الفاسدة.... الخ.

وفي الوقت نفسه يريد عملاً يدعو إلى تجديد فهم الانتماء إلى الإسلام، وتجديد عرض علوم الإسلام مع الحفاظ على الموروث، بل ويكون هذا التجديد في العرض على طريقة علماء الأمة، وكذلك يريد البنا في الوقت نفسه إعادة تجديد تطبيق الإسلام كما طبقه السلف في تاريخهم؛ بأن طبقوا الإسلام وفق معالجة المستجدات الطارئة إذ الإسلام وسع الزمان والمكان ولم ينحصر فيها، كيف وهو دين رب العالمين الذي لا يحده زمان ولا مكان سبحانه.

ونعود فنقول: إن الإمام البنا رحمه الله تعالى لما أراد ذلك اجتهد في رسم معالمه الكبرى ، والتي في حقيقتها هي هي التي استمر عليها علماء الأمة، وهي التي ينادي بها كثير من الدعاة في زماننا بأسماء أخرى، هذه المعالم الكبرى هي:

التعريف : وهو تعريف بالدعوة الإسلامية - أي الدين الإسلامي - للناس وتذكير المسلمين به، وكذلك التعريف بالدعوة الإسلامية - كحركة ومؤسسة - للمسلمين والعلماء خاصة.

التكوين : وهو بناء أفراد الأمة الإسلامية عامة، وبناء أفراد المنتسبين لجماعة الإخوان المسلمين خاصة، وكذلك بناء الصفوف والمراتب حتى تتكون جماعة قادرة على حمل أمانة الإسلام.

التنفيذ : وهو القيام ببناء المؤسسات واسترجاع الكيان الإسلام الأكبر وهو الخلافة الراشدة .

وهذه الثلاثة ( التعريف والتكوين والتنفيذ ) هي ترجمة عملية مؤسسية حركية لأسس الإسلام كما يسميها الإمام البنا نفسه وهي  ( العلم والتربية والجهاد )، ويسميها غيره بالمقاصد الثلاث وهي ( العلم والتزكية والدعوة )، ويعتمد عليها آخرون دون وصف ( العلم والتربية والدعوة).

ولقد قام الإمام البنا رحمه الله تعالى بالتنظير والتنفيذ للمرحلة الأولى ( التعريف ) وأنهاها في عشر سنوات، ثم نظر لمرحلة التكوين في عام 1936م والتي أصدر لها رسالة المنهج التي ترسم خطة هذه المرحلة، والتي انبثق عنها رسالة التعاليم ورسالة المناجاة ونظام الأسر والكتائب - وهي تجمعات روحية علمية تربوية ليس إلا - ، واستمر الإمام في تنفيذها ولكن لم تنتهي إلا باغتيال الإمام رحمه الله تعالى، فلم يعلن تقيماً للمرحلة ولم يرسم خطة للمرحلة الثالثة والأخيرة وهي التنفيذ.

وهذه الخطة التي كان يمكن أن تكون خطة عشرية كما وصفها الشيخ فتحي يكن رحمه الله، لم تكتمل معالمها في المرحلة الأخيرة. وهذه المرحلة مرحلة التنفيذ حي حقيقة الحلقة المفقودة بالتمام.

أقول: إن الإمام البنا رحمه الله تعالى قد قيم مرحلة التكوين وتوصل إلى أنها لم تنته وأنها تحتاج لمزيد من الوقت، ولكنه لم يعلن ذلك وأخر التنظير والتخطيط لمرحلة التنفيذ لأجلها، وهذا مقصود الإمام البنا فيما يتناقله البعض أن الإمام أخبر الشيخ محمد الغزالي أنه لو يعود فيه الزمن لبقي على المأثورات، كان يقصد بها استكمال مرحلتي التعريف العام والتكوين الخاص، والذي يدل على صحة الكلام إنشاؤه لمجلة الشهاب التي طابعها علمي شرعي في عام 1947م ليسد الخلل في هذا الجانب مما لاحظه في مريديه.

وكذلك مما لامسه وعانى منه في الجهاز السري، وكذلك مما اطع على هول المخططات الصهيونية العالمية والتي بدأت شراستها الفعلية في الحرب العالمية الثانية واحتلال اليهود لفلسطين. والدليل قول الإمام فيما نقله لنا الشيخ الخطيب في مئوية البنا :أنه أجرى اتصالاً معه وأخبره أن دولة اليهود قائمة في فلسطين لا محالة أنه سيأتي على رأس 12000 مجاهد ولن يستطيع تحريرها ولكن تسجيل موقف في التاريخ أنهم لم يخونوا هذه القضية المقدسة ، وقد تم اغتيال البنا بعدها بأسبوع واعتقال أعضاء الجماعة.

إن حقيقة الحلقة المفقودة هي جزء من مرحلة التكوين وكمال مرحلة التنفيذ. والله تعالى أعلم وهو وحده الموفق.