محور المقاومة بين واقع الحقيقة ووهم المصالح الطائفية

محور المقاومة بين واقع الحقيقة

ووهم المصالح الطائفية

مأمون احمد مصطفى

[email protected]

هوارد زن، المؤرخ الامريكي الذي يعد نصيرا مثاليا وحضاريا للضمير الشعبي الامريكي المعاصر المناوئ لكل اشكال الحروب التي خاضتها وتخوضها الحكومة الامريكية ضد الشعوب في العالم، هو ذاته اليهودي الذي قال عن الكيان الصهيوني: " "قوة توسعية" تستخدم، شأنها شأن الولايات المتحدة، عبارات مثل "الأمن القومي" و "الدفاع القومي" لتبرير التوسع والعدوان، وأن بناء وطن قومي لليهود لم يكن يمثل له في أية لحظة تطوراً مرحباً به" وأضاف بأن: "سياسات إسرائيل منذ ميلادها أكدت مخاوفه" ويقول ايضا: "لم يتبادر إلى ذهني – لم أكن أعرف إلا أقل القليل عن الشرق الأوسط - أن تأسيس دولة يهودية كان يعني التخلص من الأغلبية العربية التي عاشت على تلك الأرض".

وهو من يقول بصوت واضح جلي: "لا يوجد علم كبير إلى حد يكفي لتغطية عار قتل ناس أبرياء".

من هنا يمكننا النفاذ الى الفكرة الاساسية التي من شأنها ان تتخذ محاور عدة في الاتجاهات المتضاربة ليس فكرا واعتقادا نابعا من وجه الحق والحقيقة، وانما من صراعات بين الحاكم والمحكوم، ومن يقف في صف هذا وذاك، لاعتبارات تحكمها المصالح وتربطها وشائج التشابه والمحاكاة في الفعل والقول والتنفيذ.

عندما دعا هوارد زن جمهور مكتبة نيو بورت بيتش الى التفكير الجدي بالحرب المعلنة على الارهاب بعد احداث 11/9 على انها دعوى غير ناضجة او مكتملة الواقعية، وانها تخفي بأعماقها نوايا وخطط لا تتعلق بواقع الامن وتحقيق العدالة، حين وصل في اليوم التالي لدعوته الى مرفأ ثانوية نيو بورت وجد الطلبة تحمل نسخا من كتابه " تاريخ شعبي" وحين دخل الى الندوة سأله احد الطلاب بشكل مباشر وواضح ودون أي التفاف او مداورة " إن كان يحب الولايات المتحدة حقا"؟ كانت اجابته ايضا مباشرة وواضحة لا تحمل وجها مخالفا لوجه الفكرة التي يتقنها ويؤمن بها " انا احب الشعب، اما الحكومة فلست متأكدا من حبي لها". واخذ يوضح للطلاب الفرق بين ارادة الشعب وارادة الحكومة، حيث تنبني فكرته على ان الشعب هو الذي يختار الحكومة وفق منظومة من القيم التي عليها ان تتقيد بها، لهذا فان الشك بما تقوله القيادة ليس عيبا او معاداة لنظام الحكم، لان الشعب من حقه مراقبة اداء الحكومات وانتقادها ومحاسبتها اذا غيرت في العقد الموقع بينها وبين الشعب، فاذا ما تحولت الحكومة الى اداة للهدم بدلا من البناء، من خلال الفساد، فان من حق الشعب في هذه اللحظة التحرك من اجل التخلص من الحكومة وفق انظمة التشريع والقانون.

ما حصل في البلدان العربية، من ثورات، هو ترجمة حقيقية لفكرة العدالة التي طالب بها هوارد، مع فارق بسيط، بان الحكومات في الوطن العربي هي حكومات شمولية بما تعني الكلمة من معنى، لهذا فان الثورات التي اندلعت انما هي نتاج تراكم مطرد من الظلم والعذاب الذي حاق بالإنسان وكرامته وعزته منذ اعتلاء القادة للحكم وحتى يومنا هذا، وهو ما يدفعنا الى القول الواضح بان ربيع الثورات قد جاء متأخرا كثيرا عن الوقت الذي كان يجب ان تتحرك فيه الشعوب من اجل انتزاع كرامتها.

وما يهمني بشكل واضح الثورة السورية وما يحيط بها من اشكالات وتناقضات معقدة ادت الى منح طاغيتها القوة والجرأة لممارسة مذابح يومية، ومجازر معلنة، وتهجير الناس واقتلاعهم من جذورهم ووطنهم اقتلاعا لم يتشابه الا مع حركات الاستعمار التي مارست التطهير العرقي من اجل احلال عصاباتها مكان الشعوب الاصلية.

سوريا، ومنذ اعتلاء الطاغية حافظ الحكم تحولت بشكل مباشر الى مزرعة تسمين لعائلته ولنظام حكمه، وان كان النظام في النهاية صورة معلقة لحجب الحقيقة او حتى ممارسة الخداع حتى لا تكتشف، فليس هناك من لا يعرف الامن السوري الا من اراد الا يعرف، وليس هناك منزل واحد في سوريا من طولها الى عرضها لم يخبر او يختبر اجهزة المخابرات والتعقب بكل اشكالها واطيافها, وليس هناك من كان لا يتسنم رائحة التجسس عليه مع الهواء الذي يتنفسه، حتى اصبحت اقبية السجون السورية تنازع رهبة ورعب محاكم التفتيش التي تفشت رائحتها بكراهة تذيب الحديد عند سماع اهوالها.

لم يكن المواطن السوري يوما من الايام ضمن حسابات الطغيان الا بما يورده موارد العناء والضنك والتذويب والسلخ والتدمير لكل قيمة من قيم الانسانية الحاضة على كرامة او شبه كرامه.

من قاع العناء والاضطهاد والظلم والغثيان والقيء والسم والرعب، نهضت ارادة التغيير السلمي محاكاة للتغيير الذي انبثق في تونس وليبيا ومصر واليمن، كانت المطالب تصحيحية مئة بالمئة، سلمية بما لا يقبل الشك ابدا، لكنها ارتطمت بشخصية تتشابه كثيرا مع شخصية القذافي الذي خرج يهدد شعبه بالإبادة الشاملة كما فعلت الصين وروسيا وامريكا، وذكر الشعب بجملة غريبة عن مكانه الذي يجلس عليه، وعن حقه فيه ليس كقائد للشعب، وانما " لأنه دفع ثمن بقائه في موقعه". هذا الارتطام اصيب به الشعب السوري منذ اللحظة الاولى للمسيرة التي كان الطفل حمزة الخطيب ضحية كشفت وبسرعة البرق عن الغطاء الذي يغلف الطاغية السوري بمخملية الشباب والطب.

ومع ان ما حصل في الثورات لم يسعفه للوصول الى تجنب القتل والذبح والسلخ والتدمير، فان الحقيقة لم تستطع ان تصل الى تنبيهه بان الدم يولد الدم، وان القتل يستفز القتل، وان الدمار لا يجلب غير الدمار، والاهم انه لم يتعلم معنى ارادة الشعوب التي تصل الى مرحلة احساسها بان ليس هناك ما تخاف ان تخسره بعد خسارتها كل شيء.

الطاغية السوري كانت مجموعة من المحاور تسانده ليكون متميزا في الجرأة والقتل والتدمير والابادة، الى حد لا يمكن للإنسانية ان تمتلك مفردات تستطيع ان تصف عمق الحقد والضغينة والكراهية المعتقة للأرض والشعب.

كانت المحاور كلها متشابهة قلبا وقالبا مع طبائع الديكتاتورية والاستبداد والقمع مع النظام الدموي في سوريا.

فها هي روسيا، التي لم تمتلك يوما في تاريخها منذ القدم يمثل ارادة شعب او وطن، بل ارادة الحاكم وحاشيته، منذ القياصرة وحتى النظام الشيوعي وصولا الى نظام " بوتين مدفيدف" الذي يحكم روسيا بالحديد والنار، والويل كل الويل للشعب الروسي اذا سولت له نفسه ان يطالب بحرية او ديمقراطية، والشاهد على ذلك الاحداث التي رافقت الاحتجاجات التي حاولت التشكل بعد الانتخابات الاخيرة التي اعلن فيها فوز بوتين بالحكم، كان الرد حاسما وقاطعا، سحق الاحتجاجات من جذورها بطرق لا تختلف عن أي نظام استبدادي، ولا ضير من الاشارة الى ستالين وبريجنيف وكل القادة الذين فتكوا بشعوبهم فتكا لا يمكن تصوره يوما من الايام، وللذكرى فان حادثة البرلمان والمدرسة ما زالت شاهدة على التفرد والقمع، ناهيك عن الشيشان والجمهوريات الاسلامية هناك.

الصين ليست بحاجة الى توضيح غير الدعوة للعودة الى المظاهرات التي كانت في ساحة تيانانمن، والتي قام بقمعها مجموعة من المتقاعدين العسكريين الذين لا يملكون أي منصب في الدولة، لكنهم رغم ذلك ظلوا قادرين على الامساك بزمام الجيش ومؤسساته العسكرية، والاهم قراراته التي ادت الى ذبح الشياب الصيني في الساحة دون ادنى رحمة بحجة ان التظاهرات تحركها قوى " التحرر البرجوازي ". اضف الى هذا عذاب المسلمين الذي وصل بالناس الى حد اخفاء المصاحف بذات الطريقة التي تخفى فيها الملفات عالية السرية في الدول العظمى، والابتعاد عن أي شعيرة دينية حتى لا يكون هناك مجال او جزء من مجال للوصول الى الموت. وما زالت الصين حتى يومنا هذا تمارس القمع بكل الطرق والوسائل والاساليب على الشعب الصيني وعلى الاقليات الموجودة هناك.

نأتي الى الدولة الاقليمية القريبة على الوطن السوري، وهي ايران التي تتحكم الان بشكل مطلق في الحكومة العراقية، وبحزب الله في لبنان، وهما يشكلان لإيران بداية التوسع العقيدي والجغرافي والفكري في الارض العربية الاسلامية، وهما سيكونان اثناء حديثي عن ايران في السلة ذاتها دون الحاجة للعودة اليهما ككيانين منفصلين عن ايران واهدافها الاستراتيجية البعيدة المدى في الوطن الاسلامي.

ايران بالتعريف البسيط، دولة مستعمرة ومغتصبة للجزر العربية وعربستان، تماما كما تحتل الصهيونية فلسطين، وكما احتلت الولايات المتحدة العراق، وما زالت تحتل افغانستان، وهي لا تخجل ابدا من الاعلان عن نواياها الخفية على لسان حسن زعيم حزب الله، او على لسان رجالات السياسة فيها، وخاصة في الخليج العربي، واتضح ذلك اكثر حين تحركت مجموعات تابعة لها لأحداث الهزة في البحرين، كانت التصريحات واضحة وقاطعة وحاسمة، وما زالت كذلك.

المالكي في احد تصريحاته حول الثورة السورية قال: " باننا نخشى سطوة السنة اذا سقط النظام في سوريا ". ووزير الخارجية الروسي لافروف اعلن بما معناه: " بان روسيا لا تريد ان يصل اهل السنة الى الحكم في سوريا ". ايران منصبة كل جهودها على ايجاد مخرج يبقي الطاغية السوري في سدة الحكم، وهي تعلن بصراحة مقرونة بالغطرسة بانها من اجل ذلك مستعدة لخوض حرب كاملة لانقاذ الطاغية ليبقى على سدة الحكم.

والحقيقة التي لا شك فيها الان، وبعد الانشقاقات الهائلة في المؤسسة العسكرية السورية، فان الثورة التي انطلقت كانت قادرة على حسم المعركة بوقت اقل من الوقت الذي اخذته حتى الان، لو لم تتدخل الصين وروسيا بدعم النظام سياسيا في مجلس الامن، وعسكريا عبر توريد الاسلحة والخبراء الى النظام بشكل متواصل، ولولا الدعم الثلاثي في كل شيء وكل ما يمكن من ايران والعراق وحزب الله، فهو دعم بشري لتعويض الاعداد الكبيرة التي تنشق بشكل يومي عن النظام الدموي في دمشق، ودعم مخابراتي متواصل، وتكنولوجي من اجل ملاحقة الثورة والثوار.

حجة الثلاثي منزوعة من عاطفة الشعوب العربية والاسلامية، تحت مسمى دول الممانعة او محور المقاومة الذي يتصدى للكيان الصهيوني في فلسطين، وهي حجة اوهى من خيوط العنكبوت، لان ايران تتشدق يوميا بانها ستزيل الكيان الصهيوني عن الوجود اذا فكر بضربها، وكذلك زعيم حزب الله يتوعد ويهدد، لكنهما رغم كل العذاب الذي يعانيه الشعب الفلسطيني لم يتبرعوا باتخاذ خطوة الازالة او حتى مفاجأة الترهيب، وهم يريدون منا ان نصدقهم ونصدق ادعاءاتهم حول حبهم او تضامنهم لفلسطين والقضية الفلسطينية.

فاذا اضفنا الى كل ما سبق موقفهم من الاحداث في مملكة البحرين، نستطيع ان نرى بوضوح تام الافتراق والاختلاف بين هذا الموقف، والموقف من الثورة السورية، ونستطيع ان نجمع التصريحات الصادرة من ايران ومن زعيم حزب الله، لنضعها في عمودين متقابلين ونصل الى قناعة كاملة يقينية بخلفية النوايا التي حكمت الموقف هنا وهناك.

من كل هذا نستطيع ان نتبين البعد الطائفي الذي تمارسه القوى المؤيدة والداعمة للنظام الدموي في دمشق، وهو يشكل حالة خطيرة في البناء العقائدي الذي تتبناه هذه الاطراف من اجل مصالح مستقبلية لم تعد خافية على احد.

لكننا في المقابل لا نرى أي توجه طائفي من الثورة السورية ممثلة بثوارها الذين يخوضون الصراع المرير من اجل التخلص من طاغية نصبه طاغية اخر قبل وفاته، متجاهلا الشعب السوري بأكمله من حيث الاحقية والقدرة والاقتدار.

واذا ما عدنا الى هوارد زن، وهو مؤرخ له مكانته العالمية في العالم اليوم، فان الشعب السوري مثل الرقيب على اداء النظام السوري لأكثر من اربعين عاما، لكنه لم يجد من خلال الفترة كلها حسنة واحدة يمكن ان تحسب للنظام، وحين انتفض ليمارس دوره في اجبار النظام على تنفيذ ارادة الشعب بالإصلاح والتغيير، انتفض النظام كما انتفض يوم حماة، ليعلن بانه الحاكم المطلق والوحيد، ففجر الوطن ومرغه وغطاه بالدماء والقتل والتدمير، لم يكن امام الشعب سوى الاستسلام كما حصل ايام مسحت حماة عن الارض، ويقبل بتفرد النظام وعنجهية، او يستمر بالنضال وصولا الى تحقيق الهدف الشعبي الكامل، وبين هذا وذاك صعد النظام من سعاره ودمويته ووحشتيه وتخلفه الى حد دفع الثورة لاختيار المواصلة حتى النهاية مهما ارتفع الثمن وبهظ السعر.

واصبحت المعركة الان خارج نطاق الوطن السوري، فهي معركة بين روسيا والصين ويران واتباعها، وبين الضمير الثوري السوري، وضمير الانسانية كلها، أي بين الشر المطلق الذي يمثله النظام ومن خلفه، وبين الخير المطلق الذي يمثله ثوار الوطن والارض السورية.

قدر الثورة السورية، وهو قدر صعب وقاس، ان تواجه كل هذا الكم من قوى التخلف المتقوقعة بمفاهيم طائفية مبتذلة، وقدرها ايضا ان ترى العالم برمته ينظر اليها وهي تصنع الاعاجيب في الصمود والتحدي والانتصار والمقاومة، دون ان تجد من يمد لها يد العون لاقتلاع نظام اجهض العقل والفؤاد قبل ان يجهض الكرامة والعزة، اجهض الفكر بِغَزْل طائفية كريهة في لبنان والعراق، متمنيا ان يمتد الى جسد الامة في فلسطين وتونس ومصر والجزائر ومصر، لكن هذا الغَزْل فوجئ بثورة التاريخ التي انبثقت لتقتل كل امل له في تفتيت العالم الاسلامي وتمزيقه، لهذا كانت ردة الفعل المحمومة التي انتابته كقشعريرة قاتلة.

سوريا، يا دمشق التاريخ والحضارة، ويا ارض عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وصلاح الدين ونور الدين، سوريا يا وطن الاحلام والعصافير والثوار والعنادل والابطال، يا وطن الغيوم والسحاب والارتفاع والسموق، يا ارض الياسمين والحور والجوري والشهداء، لا تجزعي ابدا من قاتل يدعمه قاتل، ومن مستبد يؤازره مستبد، ومن كالح الوجه يحرضه كالح مثله، فانت اليوم جنة الحلم والحق والحقيقة، ومقبرة الظلم والاستبداد والطائفية المبتذلة.

قد يبعد النصر اميال او فراسخ او امتار، لكنه هناك، بين جنبات الشهداء والاسرى والمعتقلين، بين اعطاف سيف الدولة وصلاح الدين ومعاوية، بين اعطاف سلطان باشا وصالح العلي، بين اعطاف الشعب الذي مزج الحضارات والعادات والتقاليد حتى اخرج لنا ثقافة سورية بحلة ابهى من حلل الكون المتألق بصفاء جدول او نهر، ثقافة الاختلاف بكل شيء وعلى كل شيء، الا الاختلاف على الوطن او الانسان السوري.

اما النظام الذي قصف المقابر ليوصل رسالته الى الاموات قبل الاحياء، فإننا لا نقول له ومن خلفه، ما قاله هوارد زن  "لا يوجد علم كبير إلى حد يكفي لتغطية عار قتل ناس أبرياء". لأنه لم يتنبه حين قال ما قال، بان هناك فئة في العالم لا تحتاج الى علم للتغطية على جرائمها، لان حياتها ووجودها وبقائها واستمراريتها لا يستقيم الا بالجريمة والمجازر والمذابح، ليس سرا، بل علنا، لان جيناته ركبت على رؤية انجاز القتل والتدمير وذبح الناس بالسكاكين، واغتصاب النساء والبكارة، ودك المساجد والجوامع، واغتيال التاريخ والثقافة والحضارة والطهارة، يرى في كل ذلك، محورا من محاور المقاومة، وركنا من اركان الممانعة.