ماذا نفعل إذا أساؤوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟

ماذا نفعل إذا أساؤوا إلى النبي

عليه الصلاة والسلام؟

مجاهد ديرانية

(1 من 3)

أو إذا أساؤوا إلى الخالق جَلّ وعَلا، أو إلى الإسلام أو إلى المسلمين؟ هل نقتل الجُناةَ أم نزلزل الأرضَ بالمظاهرات؟ سأجيب عن هذا السؤال، لكني سأروي لكم أولاً حكاية قصيرة.

في عام 1988 أصدرت دارُ نشر بريطانية روايةً عنوانُها "آيات شيطانية" لمؤلف هندي الأصل اسمه سلمان رشدي. كان رشدي قد نشر قبل ذلك ثلاثَ روايات لم تُثِر الأولى منها أي اهتمام، وحصلت الثانية والثالثة على بعض الاهتمام وعلى بعض الجوائز، لكنّ الرجل بقي مجهولاً للعالم الكبير حتى ذلك الحين ولم يُعرَف إلا في دوائر صغيرة متخصصة في عالم النشر والأدب، ولم تُبَعْ من كتبه الثلاثة سوى آلاف النسخ فحسب.

حفلت الرواية الرابعة (الآيات الشيطانية) بإساءات بالغة للإسلام ولنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، فأثارت حفيظةَ بعض المسلمين الذين اطّلعوا عليها، وسرعان ما بدؤوا بانتقادها علانية وأثاروا ضجة فجّرت موجة من الغضب في العالم الإسلامي، بدأت بمظاهرات عارمة في عشرات البلاد وانتهت بالفتوى الشهيرة التي أصدرها الخميني وأهدر فيها دم سلمان رشدي، مع عدد من المحاولات الفاشلة لاغتياله واغتيال مترجمي الرواية إلى اللغات الأخرى.

النتيجة التي تحققت بعد ذلك كله هي أن الرواية التي كان يُتوقَّع أن تُباع منها آلاف النسخ بيعت منها عشرات الملايين، وبعدما كان حظها أن تبقى حبيسةَ اللغة الإنكليزية التي كُتبت بها إذا بها تُترجَم إلى عشرات اللغات، أمّا الرجل الذي كان أقربَ إلى المجاهيل لا يعرفه إلا أهل المهنة فقد صار بطلاً عالمياً من أبطال الحرية، يعشقه ويتابع كتاباته عشراتُ الملايين حول العالم.

لقد قدَّمْنا بقِصَر نظرنا وتهوّرنا خدمة هائلة لعدو من أعداء الله، خدمة ما كان له أن يحصل على مثلها ولو أنفق الملايين. وزيادة في الغباء فقد اشترى المسلمون آلاف النسخ وأحرقوها في الساحات العامة، فساهموا بأموالهم في الحرب على الله ورسوله، لأن الناشر والمؤلف ربحا من بيع النسخ المحروقة أموالاً طائلة، ولم يقدّم هذا العمل الأخرق أيَّ فائدة، إذ سرعان ما طبع الناشر مئة نسخة مقابل كل نسخة أحرقها المتظاهرون.

*   *   *

مرة أخرى ارتكب المسلمون هذه الحماقة عام 2005، عندما أقدمت إحدى الصحف الدنمركية على نشر صور قبيحة أساءت فيها إلى نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام. كان يسعُ مسلمي الدنمرك أن يتجاهلوا الحادثة فتموت في يومها، لا سيما وأن الصحيفة غير معروفة خارج ذلك البلد الصغير ولن يكون لها أثر كبير. ولكنهم صنعوا العكس:

أثاروا ضجة هائلة وسيّروا المظاهرات وطيّروا الأخبار في أنحاء الأرض، فعمّ الغضبُ العالمَ الإسلامي وخرجت المظاهرات في طوله وعرضه تهتف بالظاهر ضد الجريدة المجرمة، وتقدم لها بالباطن دعاية لم يحلم بها أصحابها في أكثر أحلامهم جموحاً، فتحولت جريدتهم في أسابيع معدودة من مطبوعة محلية مغمورة إلى مطبوعة عالمية مشهورة، وبدلاً من أن تُدفَن الصور المسيئة في مهدها فلا يطّلع عليها إلا أقل القليل من الناس فقد ساهمت تلك الغضبةُ الإسلامية العارمة في نشرها في أنحاء الأرض، فأعادت نشرَها -خلال الأشهر الأربعة التالية- صحفٌ في النرويج وهولندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وبولندا ونيوزيلندا والولايات المتحدة، وعرضتها هيئة الإذاعة البريطانية، وملأت الإنترنت وشاهدها مئاتُ الملايين.

ثم تكررت المأساة نفسُها في حادثة المجلة الباريسية الأخيرة، فبعدما كانت مجلةً يسارية مكروهة بسبب سياستها العدوانية التي لم يسلم منها لا السياسيون ولا رجال الدين، ولا حتى بابا الفاتيكان، وبعدما كانت النسخ التي تطبعها لا تزيد عن ستين ألفاً في بلد فيه عشرات الملايين من القراء، إذا بنا نحوّلها إلى واحدة من أشهر المجلات في العالم!

وبدلاً من وقف الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ضاعف الهجومُ المسلح حجمَ الإساءة مئات المرات، حيث بادرت المجلة نفسها إلى الثأر، فقررت إعادةَ نشر الرسوم القبيحة في عدد جديد أعلنت أنها ستطبع منه مليون نسخة، ثم أعلنت بعد أيام أنها قررت رفع الكمية إلى ثلاثة ملايين بسبب الطلب المتزايد، وأخيراً صدرت المجلة أمس في خمسة ملايين نسخة! ولم تتوقف إساءتنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن رفعنا عددَ مشاهدي الرسوم التي تسيء إليه من ستين ألفاً إلى خمسة ملايين في فرنسا، فقد زاد الأمر سوءاً عندما تضامنت مع "شارلي إيبدو" عشراتُ الجرائد والمجلات في أوربا، فأعادت نشرَ رسوماتها لتصل إلى عشرات الملايين في غير فرنسا من البلدان.

أرأيتم كيف يسيء المسلمون بجهلهم وتسرعهم إلى نبيهم الكريم بدلاً من تكريمه وصيانته من عبث العابثين وعدوان المعتدين؟ كم يجني المغفلون على الإسلام وعلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام!

*   *   *

ما الذي صنعه المسلمون عندما سلكوا ذلك الطريق للردّ على الإساءات الثلاث الموصوفة آنفاً؟ لقد أثاروا ضدهم قوتين جبارتين لا طاقة لهم بهما، فخسروا المعركة وضاعفوا الضرر آلاف الأضعاف.

التتمة في المقالة الآتية إن شاء الله.

ماذا نفعل إذا أساؤوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟

(2 من 3)

ما الذي صنعه المسلمون عندما سلكوا ذلك الطريق للردّ على الإساءات الثلاث الموصوفة آنفاً (في الجزء الأول من المقالة)؟ لقد أثاروا ضدهم قوتين جبّارتين لا طاقةَ لهم بهما، أولاهما هي قوة الإعلام الدولي.

صحيحٌ أن الإعلام غير منصف بالنسبة للإسلام والمسلمين، ولكنّ هذا حكمٌ عام له استثناءات كثيرة، كثيرة جداً جداً، لأن الجهاز الإعلامي الدولي ضخم جداً جداً، ورغم كثرة ما فيه من خصوم للإسلام والمسلمين إلا أن الأصدقاء والمحايدين فيه أيضاً كثيرون، فلماذا نحولهم إلى أعداء؟ إنهم يتضامنون معاً عندما يلاحق الخطرُ عالمَهم ويهدد أهمَّ أساس تقوم عليه مهنتهم: حرية الرأي والتعبير.

بعد الهجوم المسلح على مجلة شارلي إيبدو بيوم واحد وجهت منظمة "مراسلون بلا حدود" نداء دولياً إلى وسائل الإعلام تطالبهم فيه بإعادة نشر رسوم "الصحيفة المفجوعة" كما وصفتها، وقال النداء: "لا يمكن لحرية الإعلام أن تتنازل أمام الوحشية ولا أن تستسلم للابتزاز". وسرعان ما انتشرت حالة من السُّعار في مئات الجرائد حول العالم، فظهر كثير منها متشحاً بالسواد وركزت معظمُ عناوينها الرئيسية على الخطر الذي يهدد أهم قِيَم الحضارة الغربية، الحرية. وشاركت في تلك الحملة أكبرُ الصحف العالمية وأهمها، فكانت العناوين الرئيسية للديلي تلغراف والتايمز والغارديان البريطانية على سبيل المثال: "حرب على الحرية"، "هجوم على الحرية"، "حرب على الديموقراطية".

لقد بدأت المعركة مع مجلة هزيلة لا شأن لها، وانتهت بمواجهة وحش إعلامي هائل.

*   *   *

القوة الجبارة الثانية التي نثيرها ضدنا عندما نسلك هذا المسلك هي واحدة من أقوى الغرائز البشرية، غريزة يشترك بها الناس جميعاً ويعتبرها علماء النفس من أهم خصوصيات الكائن الإنساني، وهي غريزة الفضول. إنها القوة الدافعة التي حركت الإنسانَ على الدوام باتجاه اكتشاف العالم وإبداع وسائل الحياة، وهي من القوة بحيث يبذل الإنسانُ في سبيل إشباعها الجهدَ والمال.

لقد ثبت أن أيّ محاولة للحجر على المادة المعرفية (المقالات والقصائد والكتب والصور والأفلام وغيرها) أيّ محاولة لمنع تدفقها وتداولها بالقوة يصنع واقعاً عكسياً، حيث تزداد انتشاراً بسبب شغف الناس بالاطلاع عليها استجابةً للفضول الذي ينمو مع المنع والردع.

ومن أهم ما يساعد على انتشارها الانفتاحُ الثقافي العالمي وقوة وسائل التواصل الحديثة وانتشار الإنترنت، وقد صارت هذه الظاهرة منذ اثنَي عشر عاماً حالة أكاديمية موصوفة معروفة في علم الاتصالات تسمى "تأثير سترايْسانْد". اسمحوا لي أن أتحدث عنها قليلاً، لأن فهمها سيساعد الدعاة والعلماء والمربّين والمفكرين على النظر بصورة أفضل إلى واحدة من أكثر المسائل إثارة للجدل في التراث التربوي وفي الفكر الإسلامي المعاصر، وهي مسألة الوصاية على الجمهور وتحديد ما يجوز للناس الاطلاع عليه وما لا يجوز.

من باب الاختصار سأتجاوز سبب تسمية الظاهرة إلى وصفها والتعريف بآثارها. عندما تحاول جهة رقابية ما، سواء أكانت جهة حكومية أو دينية أو تجارية أو غيرها، عندما تحاول منع "مادة معرفية أو إعلامية" بالقوة (والمقصود هنا هو قوة القانون بشكل أساسي، ويلحق بها كل أنواع القوة، بما فيها قوة الضغط الشعبي العام) فإن الأثر يكون عكسياً في أكثر الأحيان، حيث يَمنح المنعُ تلك المادةَ قوةً دافعة تساعد على ترويجها ونشرها بدرجات قد تصل إلى آلاف الأضعاف مقارَنةً بوضعها الابتدائي.

هذا هو وصف الظاهرة، أما سببها فهو "غريزة الفضول" التي تدفع الناس إلى التساؤل: لماذا مُنعت هذه المقالة؟ لماذا مُنع هذا الكتاب؟ لماذا مُنع هذا الفلم؟ ولا يمكن الجواب إلا بالاطلاع على المادة الممنوعة، فلا تزال تنتشر بمقدار ما يملك الناس من فضول، وفضول الناس غير محدود، لذلك فإن انتشار المادة الممنوعة يصبح -أيضاً- غيرَ محدود.

عندما يناقش الأكاديميون هذه الظاهرةَ يضربون لها أمثلة كثيرة، منها موقع "ويكيليكس" الذي حاولت الحكومة الأمريكية منعَه من نشر الوثائق السرية لوزارة الخارجية أواخر عام 2010 ولاحقت مزوّدي الخدمة الذين يستضيفونه، فتسببت في انتشار تلك الوثائق وإعادة نشرها بواسطة آلاف المواقع حول العالم واطلع عليها عشرات الملايين من الناس. لكن مهما تكن الأمثلةُ التي يضربونها للتأكيد على صحة هذه النظرية فإنهم لن يجدوا أفضلَ من الأمثلة التي قدّمتُها في الجزء الأول من هذه المقالة: كتاب سلمان رشدي ورسومات صحيفة "يولانس بوسدن" الدنمركية ومجلة "شارل إيبدو" الفرنسية.

*   *   *

سيقول قائل: هل معنى هذا أن نسكت عن كل إساءة إلى نبينا وديننا تصدر عن أي مجلة أو جريدة في الدنيا؟ نقول: لا، ليس بالمطلق، بل نَقدر لكل حالة قَدْرَها، فإذا كانت الإساءة محدودة مغمورة فلا ينبغي، بل لا يجوز، أن نساهم نحن بجهودنا الذاتية في إذاعتها ونشرها، أما إذا كانت إساءة مشهورة منشورة فعلينا أن نتصدى لها ونحاول وقفها (بالمنهج الذي سأعرضه في الجزء الثالث من المقالة غداً إن شاء الله).

لكن ما هي النقطة التي تفصل بين الإعراض والإنكار؟ إنها النقطة التي يحددها قانون "المنفعة الحدّية"، وهو قانون مشهور في علم الاقصاد ولكنه يُستعمَل في كل نواحي الحياة تقريباً. خذوا الطعام الذي نأكله على سبيل المثال: كم نأكل؟ إن الكمية التي يأكلها العقلاء محددة بهذا القانون، فأنت تبدأ بالأكل لدفع الجوع، وتكون اللقمة الأولى هي الأعلى من حيث الأهمية، ثم تنخفض القيمة المُضافة مع كل لقمة جديدة، وكلما مضيت بالأكل اقتربتَ من تحديد الكفاية، فإذا وصلت إلى "نقطة التعادل" أو إلى رأس منحنى الفائدة سيبدأ المنحنى بالانحدار باتجاه التخمة والضرر، وكلما زاد أكلك بعد تلك النقطة زاد الضرر وصولاً إلى نقطة الضرر الأكبر.

لم يعرف علماؤنا الأقدمون هذا القانون، ولكنهم أدركوا بفطنتهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن يؤدّيا أحياناً إلى عكس المطلوب، إلى إضعاف المعروف وتقوية المنكر، فماذا يكون حكم الأمر والنهي في تلك الحالة؟ لقد صاغوا قاعدة من أهم قواعد "الحسبة" للجواب عن هذا السؤال، وهي قولهم إن إنكار المنكر واجبٌ ما لم يتسبب في منكر أكبر، فإذا تسبب فيه فتركُ الإنكار هو الواجب. أخذوا هذا الحكم الراشد من القاعدة الأصولية العظيمة: "درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح"، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز دفعُ الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفعُ أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين".

*   *   *

عندما نطبق ما سبق على حوادث الإساءة الإعلامية الغربية إلى النبي عليه الصلاة والسلام (أو إلى الإسلام) فإننا نجد أن إهمال المطبوعة الصغيرة القليلة الانتشار يحقق منفعةً عُليا مقارَنةً بالإنكار والإشهار، وكلما زادت أهميةُ المطبوعة ومعرفةُ الناس بها تتضاءل منفعة الصمت لصالح منفعة الاعتراض والاستنكار، حتى نصل إلى نقطة يصبح الاحتمالان عندها متعادلَين، وبعدها، ومع مطبوعات أكثر رواجاً وأكثر قرّاءً، يصبح الصمت والتجاهل أكثرَ ضرراً من الإنكار، وعندها ينبغي البدء بالعمل الصحيح لوقف الإساءات وتحجيمها.

أما كيف يكون "العمل الصحيح" الذي يقلل الضرر ولا يَزيده فهذا هو موضوع الحلقة الثالثة والأخيرة في هذه السلسلة إن شاء الله.

ماذا نفعل إذا أساؤوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟

(3 من 3)

بعيداً عن ملابسات الحادثة الأخيرة وردود الفعل عليها يبقى أصل الموضوع قائماً: إنّ حُبّ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، بل هو من أرفع درجات الإيمان، فلا يكون العبد مؤمناً إيماناً كاملاً حتى يكون النبيّ أحبَّ إليه من نفسه ومن الناس جميعاً. ومن تَبِعات محبته -عليه صلاة الله وسلامه- الانتصارُ له والدفاع عنه، فلا يسكت عن الإساءة إليه ويترك الانتصارَ له مع القدرة عليه إلا منافق أو مؤمن ناقص الإيمان. ولكن كيف يكون الانتصار الحقيقي لنبينا الكريم وكيف يكون الدفاع عنه والإحسان إليه؟

*   *   *

إن سَبَّ النبي عليه الصلاة والسلام جريمةٌ تستحق القتل ما لم يَتُب السابّ (في أحد قولَي الفقهاء، وهو ما أختارُه لأنه يوافق فعلَه عليه الصلاة والسلام؛ قال شيخ الإسلام في "الصارم المسلول": "كان أصحابه إذا رأوا مَن يؤذيه أرادوا قتله، فيعفو عنه صلى الله عليه وسلم ويبيّن لهم أن عفوه أصلح"). ولكننا نصطدم هنا بسؤال مهم: هل يحق لعامة الناس إقامةُ الحدود وتنفيذ القصاص؟ وفي الحالة التي نبحثها الآن، حالة الإساءة إلى النبي عليه الصلاة والسلام في دول الغرب، يواجهنا سؤال آخَرُ كبير أهم من هذا بكثير.

جواب السؤال الأول مقطوع فيه عند العلماء، فقد اتفقوا على أن إقامة الحدود (ومثلها القصاص، خلافاً للتعزير) من اختصاص الإمام أو نائبه الذي فوّضه بإقامتها. قال ابن رشد في "بداية المجتهد": "وأما من يقيم هذا الحد (يريد جلد شارب الخمر) فاتفقوا على أن الإمام يقيمه، وكذلك الأمر في سائر الحدود". وفي "الموسوعة الفقهية": "اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه".

السؤال الثاني الأهم: ما حكم إقامة الحدود وغيرها من أحكام الإسلام في غير أرض الإسلام، في البلاد التي لا يحكمها المسلمون ولا يشكلون سوى أقليات ضئيلة فيها؟ اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على أن الجرائم الموجِبة للعقوبة هي التي تُرتكَب في دار العدل، أي في دار الإسلام، ولا عقوبةَ على الجرائم المرتكَبة في دار الحرب (دار البغي) لأنها لا ولايةَ لوليّ الأمر عليها، إنما تنحصر ولايته في دار الإسلام.

*   *   *

إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم توجب الحرص على وقف الإساءة إليه، فإنّ وقفَها ومنعَها من الانتشار والتكرار هو الهدف وليس الثأر والانتقام، فكيف نحقق الهدف المطلوب، نحن أفراد الناس العاديين، بعدما عرفنا الجواب عن السؤالين السابقين؟

لو عزمَت جريدةٌ من جرائدهم على نشر ما يُسيء إلى ديننا ونبينا واتصلنا بها محاولين إقناعها فلم تستجب، فماذا نفعل؟ نهدد ونتوعد وننذر بالقتل والتفجير؟ لا هذا الطريقُ مضمونٌ ولا ذاك، فقد اتصلت الجاليةُ المسلمة في الدنمرك بجريدة "يولانس بوسْدن" حين أعلنت عن مسابقتها المشؤومة لرسم نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، فلم تستجب وأصرّت على المضيّ في المشروع. وتلقّت مجلة "شارل إيبدو" الفرنسية تهديدات لا تُحصى، ولم تَرْعَوِ أيضاً. لا، إنه طريق طويل محفوف بالمزايدات والابتزاز؛ القانون هو الحل.

على كل ما فيه من علل ونقائص يبقى العالم الغربي في هذا العصر أقربَ إلى العدالة والنظام من أكثر بلدان المسلمين، والمدخل الصحيح لمعالجة هذه التجاوزات الآن وفي المستقبل هو المدخل القانوني، فلو كان المسلمون واعين صادقين فعليهم أن يشكّلوا جماعات ضغط سياسية في البلاد التي يقيمون فيها، وعلى القانونيين منهم أن يدرسوا قوانين تلك البلدان ويبحثوا حتى يهتدوا إلى أفضل الطرق لتشريع قوانين تجرّم الإساءة إلى المقدسات والرموز الدينية.

ينبغي أولاً السعي إلى إعادة صياغة القوانين التي تحمي حرية الرأي والتعبير بحيث تتضمن شرطاً ينص على احترام الرموز الدينية -الإسلامية وغير الإسلامية- وعدم الإساءة إليها، باعتبار أن الإساءة إليها هو إساءة إلى أتباع الديانات أنفسهم. ولن يكون تقنين هذا الشرط صعباً لأن له سابقة في القوانين الأوربية كلها، وهو قانون "منع معاداة السامية" الذي تقرّه كل الدول الأوربية تقريباً. ولنا أيضاً سابقة فيما صنعه اليهود مؤخراً، فقد نشطوا في العقدين الأخيرين لإضافة قوانين تجرّم إنكارَ المحرقة اليهودية وتعتبر إنكارها نوعاً من اللاسامية، ونجحوا في ذلك نجاحاً باهراً، فصار إنكارُ المحرقة جريمةً يعاقب عليها القانون في عشر دول أوربية على الأقل (ألمانيا والنمسا وبولندا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا وسويسرا وسلوفاكيا ولوكسمبورغ).

الطريق الآخر الذي ينبغي أن تمشي فيه الجاليات الإسلامية في أوربا هو تفعيل "القوانين المتعلقة بالإساءة إلى الرموز الدينية" والتي يكاد لا يخلو منها النظامُ القانوني في أي بلد أوربي، حيث تُعتبَر الإساءة إلى الأديان مخالَفةً قانونيةً في القوانين الجنائية في بريطانيا وهولندا والنمسا وإسبانيا وفنلندا على سبيل المثال، كما ينصّ البند الخامس في القانون الأساسي الألماني (غروندغيستس) على حق حرية الرأي والتعبير بشرط عدم إثارة الكراهية ضد الأعراق والديانات.

*   *   *

أخيراً ينبغي أن يدرك المسلمون (والناس جميعاً) أن الرصاصة لا تقتل فكرة. لم يحصل في التاريخ قط أن ماتت فكرةٌ لأن صاحبها مات في سبيلها، بل العكس هو ما يحصل على الدوام، فإذا أردتَ أن تُحيي فكرة اقتل صاحبَها لتعيش. أليس هذا هو ما حصل مع الغلام الذي قتله الملك؟ مات الغلام وانتشرت فكرته بين الناس فآمن بها أكثر الناس. وفي هذا المعنى الرفيع يقول سيد قطب رحمه الله كلمته المشهورة التي تحفظونها وترددونها في كل حين: "إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى نموت في سبيلها، فإذا متنا في سبيلها دبّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة".

إنها قاعدة إنسانية وليست قاعدة إسلامية: كل فكرة تكون نبتة ضعيفة أو شتلة صغيرة، فإذا رُويت بالدماء استحالت دوحةً باسقة تضرب جذورُها عميقةً في الأرض وتمتد أغصانها عاليةً في السماء.

لا بد من إقرار قاعدة القواعد في الخلافات والصراعات الفكرية (بما فيها إساءات الكفار إلى ديننا وقرآننا ونبينا العظيم الكريم): كما أنّ القوةَ لا تردّها إلا القوةُ والحديدَ لا يفلّه إلا الحديدُ كما قالت العرب، فكذلك نقول: لا تهزم الكلمةَ إلا كلمةٌ ولا تردّ الفكرةَ إلا فكرة، وإنّ حرب الكلمات والأفكار لتعلو في كثير من الأحيان على حروب المدافع والرصاص.

وإن من عجيب أمر القرآن أنه قرر هذا المبدأ بكل وضوح، فطالبَنا بالردّ على القوة بالقوة وعلى الفكرة بالفكرة، فقال -عز وجلّ- في موضع السلاح والقتال: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} وقال في موضع الدعوة والمناظرة: {وجادلهم بالتي هي أحسن}.

إن الإعلام الدولي قوة هائلة، بل إنه واحدة من أقوى قوى العصر على الإطلاق، وعندما نستعدي جزءاً منه فإننا سنستعدي الكل وسوف نفتح على أنفسنا معركة لا طاقة لنا بها ولن نخرج منها أبداً منتصرين. قلتُ آنفاً (في جزء المقالة الثاني) إن الإعلام ليس معنا بجملته، ولكنه عالم واسع جداً ولا بد أن فيه كثيرين، كثيرين جداً، ممن يحملون قلوباً رحيمة وعقولاً منصفة، ممّن كنا نرجو منهم الانتصار للحق والاصطفاف مع المظلومين. لقد خسرنا منهم في الجولة الماضية كثيرين، وينبغي علينا، بل يجب وجوباً، أن نبذل ما في وسعنا من الجهد والحكمة لاسترجاعهم، وأن نخوض هذه المعركةَ بالذات بالسلاح الوحيد الذي يصلح لها: سلاح الكلمات والأفكار.

إن من أعجز العجز أن نردّ على الفكرة برصاصة؛ لا يصنع ذلك إلا من يخشى الهزيمة في معركة الأفكار لأن أفكاره ضعيفة متهافتة، وليست هذه أبداً من خصائص ديننا الإسلامي العظيم.