النكبة المستمرة ...

النكبة المستمرة ...

عقاب يحيى

في بدايات الوعي السياسي، وقبلها ونحن نرضع حليب فلسطين، وتهوّج عواطفنا وأحقادنا على اليهود القتلة، المغتصبين، وقد زرعت فينا حكايا الاغتصاب، والقتل، والتقطيع، والتهجير صوراً أقرب للكوابيس، والاعتقاد بأن اليهودي مخلوق قميء، شرير كله، له قرون، وربما أنياب أطول من " دراكولا" الشهير، وأنه نصف خنزير ونصف قرد..اعتقدت أنها النكبة الأولى الكبيرة في تاريخنا الذي نحفظ صفحات البطولة والأمجاد والفتوحات والخوارق فيه، وأنها كبوة حصان، أو جولة من معركة كبيرة لا بدّ أن ننتصر فيها ونسحق الكيان الغاصب، ونطهّر فلسطين من الدنس..

كنت صغيراً جداً يوم سمعت عويل أمي وهي تشقّ ثيابها على خالي الذي وصل خبر استشهاده ـ بطريقة ما نقلا من وإلى، هو المتطوع في " جيش الإنقاذ" وبكائي لبكائها، ومحاولاتي اللحق بها متعلقاً بذيل ثوبها وهي تجري حافية باتجاه بيت أهلها.. صدمتني حكاية فلسطين المبهمة، وقصص أهل الحارة عن الفظائع التي ترتكب، وعن العرب المجيشة، والنظم التي أعلنت حرب التحرير في الخامس عشر من ايار 1948، و" كلها بضعة أيام وتعود فلسطين لأهلها"..وما زالت فلسطين على حبل الحلم البعيد.. ومثلها أيم حزيران 1967 والخطب الحماسية الملأى بالوعود والدعوات لعزيمة كبيرة في فلسطين التي ستتحرر بعد أيام، وإذ بالعززيمة تتحول إلى هزيمة ساحقة ما ززلنا نمضغ ونعاني ذيولها ومنتجاتها لليوم،  وما زالت فلسطين ـ التي كانت فلسطين ـ تنتظر يومها في قادم الأيام على يد أجيال ستحُسن إعادتها إلى صدر وقلب الوطن ..

ـ لم يستشهد خالي، وعرفت أنه جرح، وعندما رجع راح يحكي لنا بعضاً من فصول ما جرى، وكلمة الخيانة، والتخاذل والجبن والعمالة تتكرر على لسانه، كما اسم القاوقجي وبعض القادة والأبطال والشهداء، لتنحفر الكلمات في الذهن باحثة عن معانيها لاحقاً، ومداليلها السياسية، والتوثيقية ، وعن سجلات طافحة بالتخاذل، والتواطؤ، والجبن، والمصالح، والشعارية، والاستخدام والسمسرة والمقايضة والتفريغ ..

ـ حين كبرنا وقرأنا بعض صفحات تاريخنا، خاصة مذ بدأت الدولة المركزية بالتفكك والتهاوي وقد نخرتها أمراض كثيرة، بما في ذلك احتباس التقدم، وإيقاف الاجتهاد وتقديس الطقوس والتفسيرات الفقهية، واجتهادات المفروض ..علمت أن نكبة فلسطين، على ضخامتها، وتأثيرها فينا، ليست الأولى في تاريخنا، فتعبير النكبة بالذات يتكرر في منعطفات عديدة، ومثله النكسة والهزيمة والوكسة والفجيعة، والغدر، والخيانة، والوقيعة، وأن الأمة التي تفقد زمام المبادرة، ومشروعها الخاص تتحول من فاعل لمفعول بالأحداث وحركة التاريخ، وأن اغتصاب فلسطين، ونجاح المشروع الصهيوني في تثبيت أركانه بما يتجاوز التقسيم التآمري الذي فرضته الهيئة الأممية لأول وآخر مرة في تاريخها.. لم يكن فقط نتيجة حجم التآمر الخارجي الذي تعاقب في طيات المنعرجات لففرض مشروع إقامة دولة يهودية في قلب القلب من الوطن العربي، أو نتاج الخبث البريطاني، وتآمر القوى الاستعمارية الغربية ومشروعاتها الاستراتيجية بزرع ووضع كيان هجين يكون رأس جسر، واستنزاف، وقاعدة انطلاق، وبالوقت نفسه ما يحمله من خصوصية مشروعه طويل المدى الذي يخص وطننا بشكل محدد وحسب، وإنما بتراكب هذا التآمر مع تخلف وهزال البنى العربية، وعجز النظم في القيام بواجباتها القومية، ثم تواصل ذلك في المراحل التالية ..

وتوالت النكبة نكبات، وفلسطين حاضرة في كل المتغيرات. في سلسة الانقلابات، وبيانات الادعاء، في الحراك الشعبي والسياسي. في تفتيح الوعي القومي، وفي الوحدة المصرية ـ السورية.. كما هي في الثورة الجزائرية وانتصارها، وحركات التحرير وزخمها عقدي الخمسينات والستينات، وفي النكوص والارتداد أيضاً...

ـ ولئن كانت المكتبة العربية تعجّ وتضجّ بآلاف الكتب والدراسات والخطب عن النكبة وأسبابها، وفلسطين وما صار لها، والمقاومة والتآمر عليها وأحوالها، والتسوية، واتفاقات الوهم بالسلام ومآلها وأوسلو وما صار لها، وفلسطين وما بقي منها، وموقعها اليوم في حاضر النظام العربي والشعوب، وتراجعها المقسور في جداول الأعمال والاهتمامات، بما في ذلك ثورات الربيع العربي.. فالذي لا شكّ فيه أن بنى الاستبداد والتخلف، وإعدام الحريات الديمقراطية، ونحر ونخر وفوات المشروع القومي، التحرري النهضوي على يد حملته، فخونته، وسيادة نهج النهب والفساد والإفساد، واستدامة الأحادية ونظام الطغم المافيوزية، والفئوية، والذيلية التسولية التوسلية تقع في جوهر نكبات الأمة المتواصلة، وأنه لا يمكن تحرير شبر من الأرض إذا لم تحرر إرادة المواطن، ويمنح الحرية التي تشعره بالمواطنة المتساوية، وبأنه إنسان له حقوق وعليه وةاجبات وليس رعية، أو عبداً، أو حشرة يمكن فعسها ودعسها من بسطار متخلف، أو عنصر أمن عادي، وبأنه ينتمي لوطن عزيز يستحق التضحية في سبيله، والعمل على تقدمه ورفعته، وتحرير المحتل من أرضه .

ـ لقد أبانت هزيمة حزيران الساحقة، ونتائجها بعيدة المدى.. أن في صلب الهزيمة واستنقاعها مواصلة الأحادية، والحزب الواحد القائد، واستئصال وتغييب الآخر السياسي، والشعب عبر ذلك، وأن فيض الشعارات الكبيرة : كحرب الشعب، والكفاح المسلح، والمقاومة، والنوايا الوطنية الطيبة تبقى مجرد كلمات سابحة في السماء ما لم تجد الأدوات، والظروف التي تجسدها، وأن تلك الهزيمة الشاملة لمنظومة القوى القومية عرّت بجلاء مواقع السلب وأظهرت الفجوات التي لم تردم في حينها مما سمح لعصر الردة والتخريب والتقويض الشاملين أن يستنقع طويلاً في الحياة العربية، وأن يقوم بانقلابه الشامل على نويات وأساسات مشروع النهوض والتحرر، معلقاً المشانق له لكن بأعمدته وألوانه وخطابه وأحزابه ذاتها.. كي يمرّغ ذلك المشروع في وحول مرحلة الفئوية، والاستبداد المكين، والنهب والإفساد المعمم واشتلاع روح الانتماء والوطنية واستبدالهما بمنتجات بضاعة النهب والمصالح الخاصة، وعقلية المافيا، والطائفية وفروعها وشرشباتها ..

ـ فلسطين تغيب منذ سنوات بفعل تراكب أزمة الوضع العربي مع أزمة وانهيار وتخاذل النظام العربي، بل وتؤامره على ممثل فلسطين بكل الوسائل لإقحامها الدخول في قمقم المفروض تحت عناوين الممكن من التصالح مع عدو يستهدف الأرض أساساً، وفلسطين التاريخية مشروعا، والوطن العربي منطقة نفوذ ومحاصصات مع الغير، خاصة من الدول الإقليمية صاحبة المشاريع الخاصة . وفلسطين ـ التمثيل السياسي الذي أنتجته عقود الأحلام والأمنيات ـ تفقد قدرة المبادرة، أو انتزاع الحد الأدنى من الحقوق التي بلورتها التضحيات، والمآلات الهزيلة: الدولة الفلسطينية المستقلة والقدس عاصمة لها، وعودة اللاجئين، آخذين بالاعتبار موقع العامل الذاتي، وأثر الانقسام الفلسطيني، وتخثر الحراك الشعبي، وفقدان المبادرة، وبما يتكامل مع انهيار النظام العربي الذي يلمس معظمه على رأسه خوفاً من مصير محتوم تحمله رياح الثورات العربية المتنقلة ..

ـ الثورات العربية منهمكة حتى اليوم بالشأن الخاص الذي يحتل حيّز اهتمامها الرئيس، لأن أمامها جبال من التحديات والمصاعب، ولأن الرهان  كبير بين النجاح والفشل . والثورة السورية : الابن الشرعي لبلدنا سورية الذي احتضن فلسطين جزءاً صميمياً منه، ومن انتماء وتضحيات وأحلام جميع المواطنين ـ على اختلاف مكوناتهم وفئاتهم ـ لا يمكنها أن تنسى فلسطين، أو تغيب عن الوجدان والأفق، وإن كان الهمّ السوري في مواجهة طغمة دمموية استثناء يحتل المرتبة الأولى، لأنه دون انتصار الثورة، ودون الانتقال لبناء دولة ديمقراطية مدنية عصرية.. ستبقى فلسطين مغيبة، وعرضة لمزيد من الهباء والتناثر .

ـ إن انتصار الثورة السورية، والنجاح في بناء التجربة الديمقراطية سيعيد الاهتمام بفلسطين كما هي في وجدان وعقول السوريين، وسيتيح لشعبنا قدرو تقديم العون الحقيقي لها، وقدرة وضعها على جدول أعمال مشروع النهوض الخاص بالقطر، والوطن، بغض النظر عن أي لون سياسي سوري ....